بين بكين وتل أبيب: عندما تَهتَزّ البراغماتية تحتَ نيرانِ غزّة

مع تصاعد حرب غزّة وتبدّل موازين القوى العالمية، تجد العلاقات الصينية–الإسرائيلية نفسها أمامَ اختبارٍ غير مسبوق، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع خطوط التصدّع الجيوسياسي بين الشرق والغرب.

ممثل الصين الدائم لدى الأمم المتّحدة، فو كونغ، يلقي كلمة خلال اجتماع طارئ استثنائي عُقد أخيرًا لمناقشة القضية الفلسطينية- الإسرائيلية، عقده مجلس الأمن الدولي في 10 آب/أغسطس 2025.

جورجيو كافيرو*

على مدى عقود، نسجت الصين وإسرائيل علاقةً متينة اتسمت بالبراغماتية والتعاون الواسع في مجالات التجارة والتكنولوجيا. غير أنّ عامين من الحرب المدمّرة في غزة، إلى جانب العمليات العسكرية الإسرائيلية المتوسِّعة في الشرق الأوسط، كشفا أنَّ تصرّفات تل أبيب بدأت تُحدِثُ شرخًا حقيقيًا في علاقاتها مع بكين. ورُغمَ أنّ الروابط بين الجانبين لم تنهَر بالكامل، فإنّ التطوّرات الأخيرة ألقت بظلالٍ ثقيلة على الديناميات التي حكمت العلاقة بين إسرائيل والعملاق الآسيوي.

منذ عقود، حافظت الصين على موقفٍ مُتّزن من الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، مُنسجِمٌ مع الإجماع الدولي الداعي إلى حلّ الدولتين. فمنذ إقامة العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل في العام 1992، في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام، سعت بكين إلى الموازنة بين تطويرِ علاقاتها بالدولة العبرية ودَعمِ حقِّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على حدود ما قبل العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

وباعتبارها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي، استخدمت الصين موقعها وعلاقاتها الوثيقة مع الدول ذات الغالبية المسلمة ودول الجنوب العالمي لتسليط الضوء على العزلة المتزايدة للولايات المتحدة في الملفِّ الفلسطيني، مقدّمةً نفسها كقوّةٍ تدافع عن التعدّدية القطبية واحترام القانون الدولي.

منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تبنّت الصين موقفًا حادًّا تجاه العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ووصفتها بأنها انتهاكاتٌ جسيمة للقانون الدولي. كما ندّدت مرارًا خلال العامين الماضيين بالغارات الإسرائيلية على اليمن وإيران وسوريا وقطر ولبنان، معتبرةً إيّاها أعمالًا عدوانية تُهدّد استقرار المنطقة. وفي أعقابِ الهجمات الإسرائيلية على إيران في تشرين الأول (أكتوبر) 2024 وحزيران (يونيو) 2025، أصدرت بكين بيانات شديدة اللهجة دافعت فيها صراحةً عن طهران، ودعت جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس وتجنّب الانزلاق إلى مواجهةٍ إقليمية أوسع.

ومع ذلك، ورُغمَ حِدّة خطابها السياسي، امتنعت الصين عن اتخاذِ أيِّ إجراءاتٍ عقابية فعلية ضد إسرائيل. فلم تُقدِم على فَرضِ عقوباتٍ اقتصادية، أو طرد ديبلوماسيين إسرائيليين، أو تخفيض مستوى العلاقات الثنائية، مُفضّلةً الحفاظ على الوضع القائم في علاقاتها الديبلوماسية والاقتصادية. ويَعكسُ هذا الموقف رغبةَ بكين في الموازنة بين انتقاداتها العلنية لتل أبيب وبين حرصها على حماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في الشرق الأوسط.

في المقابل، ردّت حكومة بنيامين نتنياهو بلهجةٍ أكثر حدّة تجاه بكين، إذ اتّهمتها بالمساهمة في تعميق عزلة إسرائيل الدولية وتسريع تحوّلها إلى دولة منبوذة على الساحة العالمية. ورُغمَ أنَّ وقفَ إطلاق النار الهشّ في غزة خفّفَ من حدة التوتر بين الجانبين، فإنَّ الأوضاع الميدانية المتفجّرة في غزة والمنطقة عمومًا لا تزال بعيدة من الاستقرار، فيما يتزايد الغضب الشعبي والسياسي من إسرائيل داخل دول الجنوب العالمي، وهو غضبٌ لا يبدو أنه سيهدأ في المدى المنظور.

التيارات الإستراتيجية المتقاطعة

يجب النظر إلى تصاعد التوتر بين الصين وإسرائيل ضمن إطار جيوسياسي أوسع يتجاوز حدود العلاقة الثنائية بين البلدين. ففي قلب هذا المشهد تبرز العلاقات المتنامية بين بكين وخصم إسرائيل التقليدي، طهران، إلى جانب احتدام المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، وهما عاملان يؤثران بشكل مباشر في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل.

وعلى الرُغم من أنَّ الصين وإيران ليستا حليفتين رسميًا، فإنّ بينهما شراكة استراتيجية راسخة تقوم على المصالح المتبادلة. فبكين تنظر إلى طهران باعتبارها ركيزة أساسية في غرب آسيا وعنصرًا محوريًا في مبادرة “الحزام والطريق”، فضلًا عن كونها شريكًا رئيسًا في تحدي النظام الدولي الأحادي الذي تقوده واشنطن. وتَعكسُ حسابات بكين الاستراتيجية حرصًا واضحًا على استقرار إيران ومنطقة الخليج، وهو ما يُفسّرُ رفضها القاطع لأيِّ عملٍ عسكري أميركي أو إسرائيلي ضد طهران.

ورُغمَ أنَّ الصين لا تؤيد امتلاك إيران قدرات نووية عسكرية، فإنها تتمسّك بالدعوة إلى حلّ ديبلوماسي للأزمة النووية الإيرانية، وتُعارض بشدة الضربات الإسرائيلية المنفردة داخل الأراضي الإيرانية. كما ساهمت في مساعدة طهران على الالتفاف على العقوبات الغربية، ويُعتَقَدُ أنها تدعم جُزئيًا جهود إعادة بناء القدرات العسكرية الإيرانية بعد الهجمات الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) 2024 وحرب الأيام الاثني عشر في حزيران (يونيو) 2025. هذه التطوّرات أثارت قلقًا متزايدًا في الأوساط الإسرائيلية، وأدّت إلى تحوُّلٍ ملحوظ في نظرة تل أبيب إلى بكين.

وفي الوقت نفسه، شكّلت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) الماضي عاملًا إضافيًا في تعقيد المشهد. إذ جعلت الإدارة الأميركية الجديدة من مواجهة النفوذ الصيني العالمي أولوية في سياستها الخارجية، بما في ذلك في الشرق الأوسط. ويواصل هذا التوجّه النهج نفسه الذي ساد خلال ولاية ترامب الأولى، حين مارس كبار المسؤولين، وعلى رأسهم وزير الخارجية الأسبق مايك بومبيو، ضغوطًا على إسرائيل للحدّ من انخراطها الاقتصادي والتكنولوجي مع الصين.

وقد أدّى هذا الضغط الأميركي المتواصل إلى تقييد نقل التكنولوجيا الإسرائيلية إلى الصين، ولا سيّما في القطاعات الحساسة مثل الذكاء الاصطناعي والدفاع وأشباه الموصلات. وبين العامين 2020 و2022، تراجعت صادرات إسرائيل من أشباه الموصلات إلى الصين بنحو النصف، في مؤشر واضح إلى مدى النفوذ الأميركي على السياسات الإسرائيلية. ومع ذلك، فإنَّ تضييق القنوات الاقتصادية مع بكين كلّف إسرائيل ثمنًا باهظًا، خصوصًا في ظلِّ سعيها الحثيث إلى ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للابتكار والتكنولوجيا المتقدمة.

في نهاية المطاف، قد تعكس محاولة بنيامين نتنياهو تحميل الصين مسؤولية عزلة إسرائيل الدولية أكثر من مجرّدِ ردِّ فعلٍ سياسي آنيٍّ؛ إذ تبدو بمثابة مناورة استراتيجية تهدف إلى توطيد تحالفه مع واشنطن واستمالة الأوساط المناهضة للصين داخل الكونغرس الأميركي. ويشيرُ اختيارُ بكين تحديدًا كهدف للانتقاد إلى تصعيدٍ في الخطاب وربما في النهج السياسي أيضًا، بما يعمّق الانقسام المتزايد بين الشرق والغرب، وهو انقسامٌ تُغذّيه الولايات المتحدة وتُسهِمُ إسرائيل في ترسيخه.

ومن خلال تعزيز علاقاتها مع واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، يبدو أنَّ إسرائيل تتخلّى تدريجًا عن سياسة التوازُن الحذر التي اتبعتها لسنوات بين القوتين العظميين. إلّا أنَّ هذا التحوّلَ لا يبدو مجرّدَ تعديلٍ في أولويات السياسة الخارجية، بل انعكاسًا لتحوّلٍ أعمق في توجّهاتها الجيوسياسية، تَشَكَّلَ جُزئيًا تحت وطأة الحرب في غزة وما رافقها من اتهامات بالإبادة الجماعية، وفي ظلِّ تنامي الاستقطاب الحاد في النظام الدولي. ومع تصاعُدِ المنافسة العالمية، تشيرُ تحركات إسرائيل الأخيرة إلى استعدادها —وربما اضطرارها— لاختيارِ جانبٍ مُحدَّدٍ في عالمٍ آخذٍ في التشظّي، تتسع فيه الفجوة بين الشرق والغرب يومًا بعد يوم.

وفي هذا السياق، برزت إشارة رمزية لافتة من إسرائيل تجاه تايوان أثارت اهتمام المراقبين. ففي أيلول (سبتمبر) 2025، قام عضو الكنيست بوعاز توبوروفسكي بزيارةٍ رسمية إلى تايبيه، حيث أشاد علنًا بتايوان واصفًا إياها بأنها “صديقٌ حقيقي لإسرائيل” عقب اجتماعاته مع كبار المسؤولين هناك. ورُغمَ أنَّ الزيارة بدت في ظاهرها برلمانية وديبلوماسية محدودة، فإنها حملت رسالة سياسية ضمنية مُوَجَّهة إلى بكين.

وجاء الردّ الصيني سريعًا وحادًّا. فقد أدانت وزارة الخارجية الصينية الزيارة، ووصفت توبوروفسكي بأنه “مثيرٌ للمشاكل”، متهمةً إسرائيل بانتهاكِ مبدَإِ “الصين الواحدة” الذي يُعدُّ ركيزةً أساسية في سياستها الخارجية، وحذّرت من عواقب وخيمة على العلاقات الثنائية. كما عزّز السفير الصيني لدى إسرائيل، شياو جيون تشنغ، موقف بلاده بنشرِ بيان الإدانة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في توبيخٍ علنيٍّ نادرٍ يعكسُ مدى استياء بكين من الخطوة الإسرائيلية.

رُغم التوتّرات الراهنة، تُظهِرُ العلاقات الصينية–الإسرائيلية قدرةً لافتة على الصمود والمناورة وسط العواصف الجيوسياسية. فقد ارتفعَ حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 16.3 مليار دولار العام الماضي، بزيادة نحو 11.7% عن العام 2023، ما يعكسُ أنَّ المصالح الاقتصادية ما زالت َتفرضُ منطقها الخاص الذي يتجاوز في أحيانٍ كثيرة الخلافات السياسية والديبلوماسية. ومع ذلك، فإنَّ استدامة هذا التوازن الدقيق ستعتمدُ على جملةٍ من العوامل، أبرزها مسار المواجهة بين إسرائيل وإيران، وتطوّر العلاقات الاستراتيجية بين بكين وطهران، فضلًا عن اتجاهات الصراع الأميركي–الصيني، ولا سيما في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إلى جانب مستقبل وقف إطلاق النار الهشّ في غزة.

ورُغمَ أنَّ التوترَ الحالي بين الصين وإسرائيل لا يزال في معظمه على مستوى الخطاب السياسي ولم يؤدِّ بعد إلى قطيعةٍ في العلاقات التجارية أو الديبلوماسية، إلّا أنه لا يمكن النظر إليه بوصفه خلافًا عابرًا. فهذه التوترات تُعبّرُ عن تحوّلٍ أعمق في بنية النظام الدولي، وهو تحوّلٌ يقلّصُ هامشَ المناورة الاستراتيجية لإسرائيل ويضعها أمامَ واقعٍ دولي أكثر استقطابًا. لقد أعادت الحرب والإبادة في غزة رسم صورة إسرائيل في عيون دول الجنوب العالمي، في وقتٍ تسعى الصين إلى تقديم نفسها كزعيمةٍ لهذا المعسكر، ما يُهدّدُ تدريجًا بتآكل مساحة التعاون البراغماتي بين الطرفين.

حتى الآن، نجحت المصالح الاقتصادية المشتركة في منع انهيار العلاقات الثنائية، لكن مستقبلها سيُحدَّد بمدى قدرة الجانبين على الفصل بين الخلافات السياسية والتشابكات الاقتصادية. فإمّا أن ينجحا في الحفاظ على التوازن البراغماتي رُغمَ الاستقطاب العالمي المتزايد، أو أن تدفعَ العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة والاستقطابات السياسية العميقة بالعلاقات نحو مزيد من التباعد وربما القطيعة التدريجية.

Exit mobile version