لبنان بعد غزة: تسويةٌ على نارٍ هادئة تَرسُمُها واشنطن وتُراقِبُها طهران

كلّما خمدت نيران غزة، اشتعلت الأسئلة في بيروت. بين ضغوطٍ أميركية تتقدّم بخطواتٍ محسوبة، وحساباتٍ إيرانية تترقّب من بعيد، يقف لبنان عند مفترقٍ حساس: هل يقتربُ فعلًا من تسويةٍ جديدة تُعيدُ رسم موازين القوى، أم يظلّ أسيرًا لهدنةٍ هشّة بين الحرب والسلام؟

الرئيس دونالد ترامب والسفير الأميركي الجديد ميشال عيسى: الأخير سيكون المسؤول الجديد عن الملف اللبناني.

مايكل يونغ*

رُغمَ غيابِ لبنان عن قمة شرم الشيخ التي انعقدت في 13 تشرين الأول (أكتوبر)، فإنَّ أنفاسَ بيروت كانت تُتابعُ القمة عن قُرب، وكأنها تجلسُ في الصفوف الأمامية. فكلُّ تطوّرٍ في غزة، وكلُّ إشارةٍ إلى نهايةٍ مُحتَملة للأعمال العدائية هناك، ينعكسُ مباشرةً على الوضع اللبناني المُعلّق بين الترقُّب والاضطراب.

وجاءت إشارةٌ واضحة إلى هذا الترابُط في اليوم نفسه الذي اجتمع فيه القادة في شرم الشيخ، حين صرّح الرئيس اللبناني جوزيف عون أمامَ مجموعةٍ من الصحافيين قائلًا: الجوُّ العام يَميلُ إلى التسوية، ولذلك من الضروري التفاوُض [مع إسرائيل]، أما شكل المفاوضات فسيُحدّد في الوقت المناسب.”
كان تصريحُهُ بمثابةِ نافذةٍ صغيرة فُتحت على احتمالاتٍ كبرى، في بلدٍ يعيش منذ سنوات على حافة الانفجار السياسي والأمني.

بعدَ أسبوعٍ واحد فقط، بدت واشنطن وكأنها تلتقط الخيط نفسه. إذ كتب المبعوث الأميركي المؤقت إلى لبنان، توم برّاك، تغريدةً لافتة قال فيها: الخطوةُ الثانية ضمن إطار الأمن الشمالي لإسرائيل يجب أن تكون نزع سلاح “حزب الله” وبدء مناقشات أمنية وحدودية مع إسرائيل”. وحذّرَ بوضوح من أنَّ تجاهُلَ هذا المسار يعني أنَّ “الجناح العسكري ل”حزب الله” سيُواجِهُ حتمًا مُواجهةً كبرى مع إسرائيل في لحظةِ قوّة إسرائيل ونقطة ضعف “حزب الله” المدعوم من إيران”.

منذُ أن نجحت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في التوسُّط لوقف إطلاق النار في لبنان في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تعيشُ البلادُ في حالةٍ رمادية تتأرجح بين الحرب والسلام. فالهدوءُ الذي أعقبَ الاتفاق ليس سوى هدنةٍ هشة، إذ تضمّن التفاهم الأميركي–الإسرائيلي ما عُرف بـ”الخطاب الجانبي”، الذي منح تل أبيب ضوءًا أخضر لمهاجمة ما تعتبره تهديدات من “حزب الله”. وبذلك، تحوّلَ وقفُ إطلاق النار فعليًا إلى اتفاقٍ أحادي الجانب، يُقيّدُ لبنان بدون أن يلجم إسرائيل.

في الوقت ذاته، مارست واشنطن ضغوطًا على الحكومة اللبنانية لنزع سلاح “حزب الله” بشكلٍ كامل. لكن مع غيابِ أيِّ تقدُّمٍ في هذا الملف، واصلَ الجيش الإسرائيلي قصفَ مواقع الحزب، بل والمناطق المدنية في الجنوب اللبناني، مستهدفًا عناصره ومراكزه على حد سواء.

وفي محاولةٍ لتخفيف حدّة التصعيد، قدّم المبعوث الأميركي برّاك خلال الصيف خطّةً زمنية لنزع سلاح “حزب الله”، وافقت عليها السلطات اللبنانية على أمل أن تُسهِمَ في وقف الضربات الإسرائيلية. غير أنَّ التفاؤلَ لم يَدُم طويلًا، إذ فشلَ برّاك في الحصول على موافقةٍ إسرائيلية على خطّته، ما دفعَ بيروت إلى إعلان فشلها — لا باعتبارها تراجُعًا عن فكرة احتكار الدولة للسلاح، بل اعترافًا بعدم وجودِ شريكٍ إسرائيلي راغبٍ في الحلّ.

وقد ازدادَ موقفُ برّاك ضعفًا بعد أن فَقَدَ الدعمَ من البيت الأبيض ووزارة الخارجية، الأمر الذي مهّد الطريق إلى احتمالِ تسليم الملف اللبناني إلى شخصيةٍ أميركية جديدة قريبًا. وتُشيرُ التقارير إلى أنَّ المسؤولَ المقبل عن إدارة السياسة الأميركية تجاه لبنان سيكون السفير المُعين حديثًا في بيروت، ميشال عيسى— رجل أعمال من أصولٍ لبنانية تربطه علاقات وثيقة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. ووفق تسريبات إعلامية لبنانية، فإنَّ واشنطن تدرس بالفعل إعدادَ خطة جديدة للبنان، تُكمّل مقترح برّاك السابق وتستندُ في خطوطها العريضة إلى خطة ترامب الخاصة بغزة، في محاولةٍ لإعادة صياغة التوازنات في الساحة اللبنانية.

نظرًا لاختلافِ السياقَين اللبناني والغزّي، يطرحُ كثيرون تساؤلات حول ما قد تعنيه الخطة الأميركية الجديدة عمليًا للبنان. وتشيرُ تقارير إعلامية إلى أنَّ واشنطن تستلهم من خطة غزة مبدأ “الخطوات المتبادلة التدريجية”، حيث تُقابَل كلُّ خطوةٍ من طرف بخطوةٍ مُماثلة من الطرف الآخر — آلية تقوم على مبدَإِ “الفعل وردِّ الفعل” بدل الاتفاقات الشاملة. كما تُفيدُ هذه التقارير بأنَّ الخطة الأميركية تتضمّن أيضًا دعوةً إلى مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل، وهو ما يفسّر حساسية التصريحات الأخيرة الصادرة عن الرئيس عون والسفير برّاك بهذا الشأن.

لكن الموقف الرسمي اللبناني لا يزال ثابتًا في رفض المفاوضات المباشرة. فبيروت تؤكد أنَّ أيَّ تواصُلٍ مُحتمل مع إسرائيل يجب أن يتم حصريًا عبر الوسيط الأميركي، وليس وجهًا لوجه. بعبارةٍ أخرى، ما زال لبنان متمسِّكًا بالإطار غير المباشر الذي يجنّبه التطبيع السياسي العلني. وقد بدا الرئيس عون حذرًا ومراوغًا في تصريحاته حول هذه النقطة، في إشارةٍ إلى إدراكه لحساسيتها داخليًا. ويرى اللبنانيون في اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقّع في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 نموذجًا يُحتذى به، إذ أُنجِزَ عبر مفاوضات غير مباشرة بإشراف واشنطن، من دون أيِّ لقاءٍ رسمي بين الجانبين.

أما عن موضوعات المفاوضات المحتملة، فمن المرجح أن تتركّزَ أولًا على استكمال ترسيم الحدود البرية، إذ لا يزال البلدان على خلافٍ حول 13 نقطة تمتد على طول الخط الفاصل بينهما. كذلك، من المنتظر أن تشمل المحادثات بنودًا أمنية حساسة، مع توقُّعِ أن تُطالبَ إسرائيل بالحصول على قدرات إنذار مبكر داخل الأراضي اللبنانية، وربما السعي إلى فرضِ منطقةٍ عازلة خالية من السكان قرب الحدود، وهو طرحٌ من شأنه أن يُثيرَ جدلًا واسعًا في الداخل اللبناني إذا ما طُرِحَ رسميًا.

الافتراضُ الذي تبنّته واشنطن في العام الماضي خلال إدارة جو بايدن، كما طرحه مبعوثها آموس هوكشتاين، كان واضحًا: إنَّ ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل من شأنه أن يُسقِطَ الذريعة الأساسية التي يستخدمها “حزب الله” لتبرير استمرار عملياته العسكرية في الجنوب، والمتمثّلة في “مقاومة الاحتلال الإسرائيلي” لأراضٍ لبنانية. ويبدو أنَّ إدارة ترامب تتبنّى النهج نفسه، مُعتبرةً أنَّ حلّ المسألة الحدودية قد يكون مدخلًا لنزع فتيل المواجهة المُزمنة على الجبهة اللبنانية.

لكن تأثير اتفاق غزة لا يقتصرُ على الوضع الفلسطيني، إذ يحملُ انعكاساتٍ مباشرة على “حزب الله”. فموافقة حركة “حماس” على اتفاقٍ يتضمّنُ نزعَ سلاحها وتسليم الرهائن أحدثت صدى واسعًا في بيروت، إذ يرى بعض المراقبين أنَّ الحكومة اللبنانية قد تستغلُّ هذا التطوّر لتضغط على “حزب الله” بالمنطق ذاته. وكما أشار مهنّد الحاج علي، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، “يمكن للحكومة أن تقول للحزب: إنَّ حليفكم الاستراتيجي، “حماس”، قبل بخطةٍ تشملُ نزعَ السلاح، فلماذا لا تفعلون أنتم الشيء نفسه؟”

صحيح أنَّ بعضَ الأصوات يُشكّك في أنَّ “حماس” وافقت فعليًا على التخلّي عن سلاحها، إلّا أنَّ الوقائع تشيرُ إلى أنها أصبحت مُقيّدة باتفاقٍ يضع نزع السلاح ضمن بنوده الأساسية. وإذا لم تُطبَّق خريطة الطريق التي طرحها ترامب، فإنَّ العودةَ إلى دائرة الصراع تبدو شبه حتمية — ولكن هذه المرة من دون أن تمتلكََ “حماس” ورقة الرهائن التي كانت تمنحها قدرًا من النفوذ في المفاوضات.

في المقابل، تحملُ تجربةُ غزة دلالات أخرى أكثر عمقًا بالنسبة إلى لبنان. فبعد عامين من الهجوم الإسرائيلي المُكثّف على القطاع، لم تتمكّن إسرائيل من القضاء على “حماس”، التي سعت مؤخرًا إلى إعادةِ فَرضِ سلطتها من خلال إعدام معارضيها علنًا، في مشهدٍ يعكسُ استمرارَ حضورها رُغم الضربات الموجعة. والأهم من ذلك أنَّ واشنطن نفسها اضطرّت إلى التفاوض المباشر مع قادة الحركة للوصول إلى اتفاق، ما يشير إلى حدود الحل العسكري.

وبناءً على هذه المعطيات، تزدادُ صعوبةُ ترويج فكرة “الحل العسكري” تجاه “حزب الله” في لبنان. فالتجربة الفلسطينية أظهرت أنَّ القوّة وحدها لا تكفي لتفكيكِ حركةٍ مسلّحة مترسّخة اجتماعيًا وعقائديًا. وهكذا، بات من الأصعب على أنصار الخيار العسكري في لبنان إقناع الرأي العام، أو حتى الحلفاء الدوليين، بأنّ هذا المسار يمكن أن يحقق الاستقرار المنشود.

ليس من المفاجئ أن تتّخذَ حركة “حماس” موقفًا ضبابيًا إزاء اتفاق غزة. فمن غير الواقعي أن توافقَ أيُّ حركةٍ سياسية–عسكرية على خطةٍ تُفضي عمليًا إلى إنهاء وجودها أو نزع سلاحها طوعًا. وبالمنطق ذاته، لا يُتَوَقّعُ من “حزب الله” أن يسلك طريقًا مختلفًا. وإذا قبلت واشنطن بهذا الواقع في غزة —بدافعٍ من رغبة الرئيس دونالد ترامب في حماية اتفاق وقف إطلاق النار من الانهيار— فسيكون من الصعب عليها تبنّي موقفٍ أكثر تشدّدًا في الملف اللبناني من دون أن تبدو مزدوجة المعايير.

الرهانُ على حلولٍ عسكرية مُبَسَّطة لمعالجة تعقيد المشهد اللبناني أثبت عجزه، بل ربما يزيد الأوضاع هشاشة. المطلوب اليوم مقاربات أكثر مرونة وابتكارًا تفتح البابَ أمام كسر الجمود السياسي المحيط بسلاح “حزب الله”، بدل تكرار سياسات القوة التي أثبتت محدوديتها. وإذا اختارت بيروت المضي في مفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل —ولو بصورةٍ غير مباشرة— فسيؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى تضييق مساحة المناورة أمام الحزب، ويدفعه إلى إعادة النظر في موقعه داخل المعادلة الوطنية.

وفي النهاية، لا يبدو أنَّ لبنان سيجد طريقه إلى الحل إلّا عبر عمليةٍ سياسية طويلة النفس تقوم على الحوار والتدرُّج، وتتجنَّب الانزلاق إلى العنف أو المغامرات العسكرية. فالتسويات المُستدامة لا تُفرَضُ بالقوة، بل تُبنى بخطواتٍ هادئة وصبرٍ استراتيجي، وهو ما يحتاجه لبنان اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

Exit mobile version