كابي طبراني*
تسعى سلطنة عُمان، مثل غيرها من اقتصادات الخليج، إلى تجاوُزِ مرحلةَ الاعتمادِ التاريخي على النفط، وفَتحِ مساراتٍ جديدة للنموِّ المُستَدام. في هذا السياق، جاءَ إنشاءُ “صندوق عُمان المستقبل” التابع لـجهاز الاستثمار العُماني في العام 2024، ليكونَ أداةَ تمويلٍ واستثمارٍ تهدفُ إلى تحقيقِ التحوُّل المنشود ضمن “رؤية عُمان 2040″. غيرَ أنَّ السؤال الأهم اليوم لا يتعلّقُ بحجمِ التمويل أو عدد المشاريع، بل بقدرةِ هذا الصندوق على إحداثِ تحوُّلٍ هيكلي حقيقي في بُنيةِ الاقتصاد، وتغييرِ الثقافة الاستثمارية السائدة.
أُطلِقَ الصندوق برأسمالٍ قدره مليارا ريال عُماني (5,201,642,000 دولار أميركي) يُستثمر على مدى خمس سنوات، مع تركيزٍ على القطاعات التي تُوصَفُ بـ“الاقتصاد الجديد”: الطاقة المُتجدّدة، والتكنولوجيا، والصناعات التحويلية، والسياحة، والزراعة، واللوجستيات، والثروة السمكية. الهدفُ المُعلَن هو دَعمُ التنويع الاقتصادي، وخَلقُ فُرَصِ عَمَل، وجذبُ الاستثمارات الأجنبية، وتطويرُ بيئة ريادة الأعمال المحلية. وهي أهدافٌ تتوافقُ تمامًا مع مرتكزات “رؤية 2040″، التي تُعلي من شأن الاقتصاد المعرفي والقطاع الخاص.
في عامه الأوّل، أقرّ الصندوق تمويل 44 مشروعًا بقيمة إجمالية بلغت 1.2 مليار ريال (حوالي 3,120,985,200 دولار)، واستقطب 885 مليون ريال (حوالي 2,301,726,585 دولار) من الاستثمارات الأجنبية. وهي مؤشّراتٌ مُبكِرة على استجابة السوق، خصوصًا في مجالاتِ الطاقة النظيفة والتقنيات الرقمية. المشروع الأبرز هو مصنع “يونايتد سولار بولي سيليكون” (United Solar Polysilicon Plant) في صحار، باستثمار يصل إلى 1.6 مليار دولار، لإنتاج مُكَوّن رئيس في صناعة الألواح الشمسية. مثل هذا المشروع يَرمُزُ إلى تحوُّلٍ نوعي في استخدام الموارد الطبيعية العُمانية – من تصدير المواد الخام إلى تصنيع القيمة المضافة داخل البلاد.
لكن، وبعيدًا من لغة الأرقام، يبقى التحدّي الحقيقي في استدامة هذا الزخم. فتمويلُ المشاريع لا يعني بالضرورة نجاحها أو قدرتها على توليد وظائف نوعية في المدى الطويل. ما تحتاجه السلطنة اليوم ليس فقط ضخّ رؤوس أموال في قطاعاتٍ جديدة، بل تحسين بيئة الأعمال التي تعمل فيها تلك القطاعات: من تسهيل الإجراءات، إلى تطوير الكفاءات المحلّية، إلى تعزيز الشفافية في منح العقود وتقييم الأداء.
يعتمد نجاح الصندوق أيضًا على قدرته على التحوُّلِ من المُمَوِّلِ إلى المُمَكِّن. فالصناديق السيادية حول العالم لم تَعُد مجرّدَ خزائن للاستثمار، بل باتت مراكزَ تفكيرٍ اقتصادي واستراتيجي، تُوازِنُ بين العائد المالي والعائد التنموي. وإذا استطاع “صندوق عُمان المستقبل” أن يتبنّى هذا النموذج، فسيُصبحُ بحقٍّ أداةً لتشكيلِ اقتصادٍ تنافُسي قائم على الابتكار والمعرفة.
من الإيجابياتِ التي تُحسَبُ للصندوق أنه خصّصَ 10% من رأسماله للمؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة ورأس المال الجريء، في محاولةٍ لسدِّ الفجوة التمويلية التي لطالما أعاقت نموَّ الشركات المحلّية. ففي اقتصادٍ تُشكّلُ فيه الشركات الصغيرة أكثر من 90% من إجمالي المؤسّسات، لا يُمكِنُ الحديثُ عن تنويعٍ حقيقي من دونِ تمكينِ هذه الفئة من النفاذ إلى التمويل والأسواق. إلّا أنَّ التحدّي يَكمُنُ في ضمانِ ألّا تذهب هذه الاستثمارات إلى مشاريع قصيرة الأجل أو ذات أثرٍ محدود، بل إلى مبادراتٍ قادرةٍ على خلقِ قيمة حقيقية في الاقتصاد المحلّي.
الحَوكَمة الرشيدة هي الأخرى محورٌ أساسي في تقييم الصندوق. فالنظامُ الذي أُنشِئ تحت مظلّته يبدو مُنظّمًا، بوجودِ لجانٍ مستقلّة من جهاز الاستثمار ووزارة المالية تُراجِعُ الطلبات وتُصدِرُ القرارات خلال فترةٍ زمنية مُحدَّدة لا تتجاوز 65 يومًا. هذه السرعة والانضباط يُمثّلان خطوةً نوعية نحو بيئةٍ استثمارية أكثر كفاءةً ووضوحًا. لكن في المقابل، ما زالَ من الضروري تعزيز الشفافية في نتائج المشاريع، ونشر بيانات دورية عن الأداء والعوائد، لضمان ثقة المستثمرين المحليين والدوليين على حدّ سواء.
ويبرزُ كذلك الجانب الاجتماعي والإنساني في فلسفة الصندوق. فبحسب خطته الاستراتيجية، يُتَوَقَّعُ أن تُسهِمَ المشاريع المُموَّلة في توفير أكثر من 1,600 وظيفة مباشرة، مع رفع نسبة التعمين في بعض القطاعات إلى 70% بحلول العام 2030. هذه الأرقام، إن تحقّقت، ستكون ذاتَ أثرٍ ملموس في سوق العمل، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجددة، التي تتطلّبُ مهاراتٍ جديدة وفُرَصَ تدريبٍ نوعيّة. لكنَّ الخبرةَ الدولية تُظهِرُ أنَّ توطينَ الوظائف لا يتحقّقُ بالأرقام فحسب، بل بتكامُلِ السياسات التعليمية والتدريبية مع الخطط الاستثمارية، وهو مجالٌ ما زال يحتاجُ إلى جهدٍ إضافي في عُمان.
من جهةٍ أخرى، يعكسُ نشاط ُالصندوق بُعدًا خارجيًا مهمًّا في السياسة الاقتصادية العُمانية. فالشراكات مع الصين والهند وأوروبا في مشاريع الطاقة والتكنولوجيا تُشيرُ إلى رغبةِ السلطنة في تعزيز روابطها الاقتصادية الدولية وجذب التكنولوجيا المُتقدِّمة. هذه السياسة تتماشى مع تاريخ عُمان كمحورٍ للتجارة بين الشرق والغرب، لكنها تتطلّبُ في الوقت نفسه قدرةً على التفاوض والحفاظ على المصالح الوطنية، خصوصًا في المشاريع ذات البُعدِ الاستراتيجي مثل الطاقة الخضراء والاتصالات.
ومع كلِّ التقدير لما تحقّق، تبقى هناك أسئلة مشروعة: هل تكفي خمسة أعوام من الاستثمارات المُكثّفة لتأسيسِ اقتصادٍ بديل من النفط؟ وهل تستطيع الكفاءاتُ المحلّية إدارةَ التحوُّل التكنولوجي والرقمي بالسرعة المطلوبة؟ وهل يمكن للصندوق الحفاظ على استقلاله المهني بعيدًا من الضغوط البيروقراطية أو المصالح القصيرة الأجل؟
هذه التساؤلات لا تُقلّلُ من أهمّية المشروع، بل تُبرزُ جوهره. فنجاحُ “صندوق عُمان المستقبل” لن يُقاسَ فقط بعددِ المشاريع التي يُموّلها، بل بقدرته على إحداثِ تحوُّلٍ ثقافي في طريقة تفكير العُمانيين بالاقتصاد: من التركيز على الإنفاق الحكومي إلى الاستثمارِ المُنتج، ومن الاعتماد على العائدات السهلة إلى بناء المعرفة والتكنولوجيا والقدرات البشرية.
في النهاية، يبدو أنَّ السلطنة تخطو في الاتجاه الصحيح، بخطواتٍ حذرة ولكن محسوبة. فالمشهدُ العام يُوحي بجدّيةٍ في الإصلاح، ووَعيٍ بأهمّية التنويع، واستعدادٍ لتحمُّل مخاطر الابتكار. إلّا أنَّ النجاحَ الكامل يتطلّبُ استمرارية، وجرأة في التقييم الذاتي، وإرادة سياسية تحافظ على استقلال القرار الاقتصادي.
إنَّ “صندوق عُمان المستقبل” هو عنوانٌ لمرحلةٍ جديدة، لكنه أيضًا اختبارٌ حقيقي لقدرة عُمان على تحويلِ الرؤية إلى واقع. فإذا استطاعَ أن يُوازِنَ بين الطموح والواقعية، وأن يزرعَ الثقة في اقتصادِ الغد، فسيكونُ أكثر من مجرَّدِ صندوقٍ استثماري — سيكونُ بدايةً لاقتصادٍ وطني يُعيدُ تعريفَ الثروة والمستقبل.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani
- كُتِبَ هذا المقال بمناسبة “منتدى عُمان للاستثمار 2025″ الذي عُقِدَ في لندن في 21 الشهر الجاري، وشارك فيه كبار المسؤولين الماليين والإقتصاديين من عُمان وبريطانيا، وكانت “أسواق العرب” من المدعوين إليه.