كابي طبراني*
تُعيدُ دولُ الخليج العربية اليوم صياغةَ علاقتها بالاقتصاد الدولي في لحظةٍ يتزايد فيها عدم اليقين على مستوى التجارة والطاقة والتكنولوجيا. فبينما تعودُ دولٌ كثيرة حول العالم إلى تبنّي سياساتٍ صناعية أكثر تَدَخُّلًا—بعدَ عقودٍ من هَيمَنَةِ مَنطِق السوق—لم تتخلَّ دولُ الخليج يومًا عن هذا النمط من التخطيط. لكنها الآن تدفَعُ به إلى مستوياتٍ أوسَع، مدفوعةً برغبتها في تَنويعِ مصادر الدَخلِ قبل أن يُصبِحَ التحوُّلُ العالمي عن النفط حقيقةً ملموسة.
تاريخيًا، ارتَكَزَ النموُّ الخليجي على دورٍ مَركزِيٍّ للدولة: بُنيةٌ تحتية ضخمة، شركاتٌ مملوكةٌ للحكومات، وخططٌ تَنمَوِيّة مُتَعدِّدةُ السنوات. وقد نَجَحَ هذا النموذجُ في تحويلِ اقتصاداتٍ صغيرةٍ نسبيًا إلى مراكز مالية ولوجستية وصناعية. البحرين أنشأت باكرًا مشاريعَ الألمنيوم وإصلاح السفن، ودبي أسّست البُنيةَ التي ستجعلها لاحقًا أحد أهم المراكز التجارية عالميًا، فيما طوّرت المملكة العربية السعودية صناعاتٍ بتروكيميائية شكّلت قاعدةً صلبة للتصنيع.
غير أنّ المرحلة الحالية تختلفُ بوضوح عن المراحل السابقة. فبرامج “الرؤية” المُمتَدّة إلى 2030 وما بعدها تضعُ أهدافًا غير مَسبوقة من حيثُ الحَجمِ ودرجةِ التعقيد: تحوُّلٌ جذري في سلاسل القيمة البتروكيميائية، استثماراتٌ هائلة في الطاقةِ المُتجدِّدة، تطويرُ صناعاتٍ غذائية تعتمدُ على التكنولوجيا، ومحاولاتٌ جادة للدخولِ إلى قطاعاتٍ عالية المخاطر مثل الذكاء الاصطناعي وأنظمة الرقائق الإلكترونية.
هذه “الأجندةُ” الطموحة تُقابِلُ مجموعةً من التحدّيات البُنيَوية، بعضُها خارجي وبعضُها داخلي.
خارجيًا، يبرزُ العاملُ المناخي كأحدِ أهمِّ المُتغيِّرات. الاتجاهُ العالمي نحوَ تقليلِ الانبعاثات يعني أنَّ الطلب على النفط والغاز سيتراجَعُ تدريجًا. وعلى الرُغمِ من محاولاتِ دول الخليج الاستفادة القصوى من الهيدروكربونات عبرَ التوسُّعِ في الصناعات التحويلية، إلّا أنَّ سوقَ البتروكيماويات نفسه تُواجِهُ ضغوطًا من فائضِ الإنتاج ومن التشريعات البيئية.
إلى جانب ذلك، يشهدُ النظامُ التجاري العالمي حالةَ تفكُّك. فتصاعُدُ الحمائية في الولايات المتحدة وأوروبا، وتزايُدُ التنافُس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، يُعيدان تشكيلَ سلاسل التوريد ويُقلِّلان من فاعليةِ النموذج التصديري الذي اعتمدت عليه مناطق مثل شرق آسيا سابقًا. دخولُ دول الخليج في قطاعاتٍ صناعية مُوَجَّهة للتصدير أصبح أكثر صعوبةً من ذي قبل، ليس بسببِ نَقصِ الموارد بل لأنَّ البيئةَ الاقتصادية الدولية أقلُّ استقرارًا.
أما داخليًا، فطبيعةُ الاقتصاد الريعي لا تزالُ تَفرُضُ قيودًا واضحة. فالمواطن الخليجي يُفضّلُ غالبًا العملَ في القطاع العام، وتظلُّ إنتاجية العمل أقل من المستويات المطلوبة لاقتصادٍ صناعي تنافُسي، فيما لا تزال الفجوة كبيرة في المهارات التقنية والعلمية، وهي مهاراتٌ ضرورية للانتقال نحو اقتصادِ المعرفة.
مع ذلك، تمتلكُ دولُ الخليج أدواتٍ تسمحُ بإعادة تشكيل مسارها الاقتصادي: رؤوسُ أموالٍ سيادية ضخمة، قدرةٌ تنفيذية عالية، وموقعٌ جغرافي يسمحُ لها بالتحكُّمِ في حركةِ التجارة بين الشرق والغرب. غير أنَّ فعالية هذه الأدوات تعتمدُ على كيفية إدارتها، لا على توفُّرِها فقط.
في هذا السياق، هناكَ مجموعةٌ من المبادئ التي تبدو حاسمة لضمان واقعية السياسات الصناعية الخليجية:
أوّلًا، التركيزُ على الأنشطة بدل القطاعات. فالاستثمار في البُنية الرقمية، وسلاسل التوريد المُتقدِّمة، والتعليم التقني، والابتكار، يخلقُ قيمةً تتجاوزُ قطاعًا مُحَدَّدًا. وهو ما يُقلّلُ مخاطرَ الفشل في حالِ تعثُّرِ مشاريع صناعية مُحَدَّدة.
ثانيًا، ضرورةُ تَحديدِ حدود تدخُّل الدولة بوضوح أكبر. فالدولةُ الخليجية تبقى لاعبًا أساسيًا، ولكن تركيزها يجب أن يكونَ في المجالات التي تمتلك فيها ميزة استراتيجية—كالطاقة والأمن الغذائي والبنية التحتية. التدخُّلُ الواسع في كلِّ القطاعات قد يحدُّ من قدرةِ الشركات الخاصة على النمو.
ثالثًا، بناءُ بيئةٍ تنافُسية حقيقية. فوجودُ شركاتٍ حكومية ضخمة أو مجموعاتٍ مَحمِيّة سياسيًا يؤدّي غالبًا إلى إضعافِ الديناميكية الاقتصادية. تعزيزُ قوانين المنافسة، كما بدأ يفعل بعض الدول الخليجية، خطوةٌ أساسية لجذب مستثمرين جُدُد وزيادة الإنتاجية.
رابعًا، إدارةُ دورات أسعار النفط بشكلٍ أكثر انضباطًا. فالتقلُّبات في الإنفاق الحكومي، المُرتَبطة تاريخيًا بأسعار النفط، تؤثر مباشرة في مشاريع التصنيع. استخدامُ أدواتٍ مالية—مثل القواعد المالية وصناديق الاستقرار—يُقلّلُ هذا التأثير.
خامسًا، التعامُلُ مع القطاعات التكنولوجية بعقليةٍ استثمارية مُنضَبِطة. الدخولُ في مجالات الذكاء الاصطناعي والرقائق يستلزمُ تَقَبُّلَ احتمالية الفشل، والقدرة على إغلاق المشاريع غير المُجدية، بدل الاستمرار فيها بدافع الاعتبارات السياسية أو الرمزية.
وأخيرًا، تبقى مسألة التعاوُن الإقليمي عاملًا مهمًّا. فتعزيزُ مشاريع الربط الكهربائي، وتطويرُ ممرّاتٍ لوجستية مُشتركة، وتنسيقُ السياسات الصناعية، يُمكنُ أن يخلقَ اقتصادًا خليجيًا أكثر توازُنًا وقدرةً على مواجهة المنافسة الدولية. إلّا أنَّ هذا يتطلّبُ مستوى أعلى من الثقة السياسية والالتزام المؤسَّسي.
ما يحدثُ في دول الخليج اليوم ليس مُجرَّدَ تحديثٍ اقتصادي، بل إعادة تفكيرٍ جذرية في موقع هذه الدول داخل الاقتصاد العالمي. فالمسارُ الذي تختاره اليوم سيؤثر ليس فقط في اقتصاداتها الداخلية، بل في حركة الطاقة والتجارة والاستثمار في مناطق واسعة.
إنَّ نجاحَ هذه السياسات الصناعية لن يَتَحَدَّدَ بحجمِ الموارد المَرصودة لها، بل بمدى قدرتها على خلقِ مؤسّساتٍ أكثر كفاءة، وأسواقٍ أكثر تنافُسِيّة، ونموذجِ تَنميةٍ أقلّ اعتمادًا على تقلُّبِ أسعار الطاقة. وفي عالمٍ يتبدّلُ بسرعة، تُصبِحُ القدرة على التَكَيُّفِ وإدارةِ المخاطر شرطًا أساسيًا للاستمرار، وليس رفاهية.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani
