بابا الهُدوء في زَمَنِ الضَجِيج

كابي طبراني*

ستّةُ أشهرٍ مَرّت على انتخاب البابا لاوُن (ليو) الرابع عشر، وما زالَ العالمُ يبحثُ عن ملامح واضحة لهذا الرجل الذي صعدَ إلى رأس الكنيسة الكاثوليكية من خارجِ كلِّ التوقُّعات. فهو أوّل بابا أميركي في تاريخ الفاتيكان، لكنّه في اللحظات الحاسمة يُفضّلُ الإسبانية أو الإيطالية على لغته الأم. وهو يحملُ كثيرًا من هموم سلفه البابا فرنسيس، لكن من دونِ أن يَنسَخَ طريقته أو نبرته. بل يُمكن القول إنّ حضوره يوحي ببابا يُريدُ أن يتركَ بصمتهُ عبرَ الأسلوب قبل المَضمون، وعبرَ الهدوءِ قبل الشعارات.

رحلته الخارجية الأولى، التي اختار أن تكون إلى تركيا ولبنان، فتحت الباب واسِعًا أمامَ مُحاولةِ قراءةِ هذا الأسلوب. فاختيارُ الشرق الأوسط ليس تفصيلًا بروتوكوليًا. البابا الجديد كان قادرًا على بدءِ زياراته من بلد كاثوليكي، يضمَنُ فيه حرارةَ الاستقبال وسهولةَ الرسائل. لكنّه اتّجَهَ مُباشَرةً إلى منطقةٍ تتقاطعُ فيها الأزمات، وتتشابكُ فيها الهَويّات، ويعيشُ فيها المسيحيون والمسلمون والملل المختلفة تحت ضغطِ التاريخ والجغرافيا والسياسة. بدا اختياره أقرب إلى رسالةٍ مُبكِرة تقول: الفاتيكان لن يكتفي بإدارة شؤون البيت الكاثوليكي، بل يسعى إلى دورٍ يَتجاوزُ الانقسامَ والطوائف نحو ما يُشبِهُ “هندسة التهدئة”.

في ذلك، تبدو روح البابا فرنسيس حاضرة، لكن من دون الضجيج. وكما فعل فرنسيس حين بدأ زيارته الأولى من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية احتجاجًا على مأساة المهاجرين، يحمل ليو الرابع عشر القضايا الإنسانية نفسها: الفقراء، المُهَمَّشون، المهاجرون، ضحايا الحروب، البيئة المُنهَكة، وتحوّلات العالم الرقمي التي تُهدّدُ الإنسانَ أكثر مما تخدمه. وثيقته الأولى كانت عن الفقر، ولم يتردّد في دعوةِ الأساقفة الأميركيين إلى رَفضِ حملات ترحيل المهاجرين الواسعة. كما كانَ من أوائل رجال الدين العالميين الذين تحدّثوا عن مخاطر الذكاء الاصطناعي بلغةٍ تقتربُ من التحذيرِ الأخلاقي لا التقني.

لكنَّ الفارقَ بين الرجلَين واضح. ففرنسيس كان مُباشِرًا، صريحًا، لا يتردّدُ في إطلاقِ تعبيراتٍ تهزُّ الإعلامَ والكنيسة معًا. أمّا ليو، فيميلُ إلى لغةٍ هادئة، مَحسوبَة، ترفضُ الانجرارَ إلى الخطابِ الانفعالي. تأمّل مواقفه في الملفّ الفلسطيني–الإسرائيلي: لم يُكرّر توصيف “الإبادة” الذي استخدمه البابا فرنسيس، لكنه لم يُساوِم في إدانة العنف على الطرَفَين، ولا في التأكيد أنّ ما جرى في غزة وما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 كلاهما “مجازر”. هو لا يرفع صوته، لكنّه يكتفي بنبرةٍ تجعَلُ الرسالةَ واضحة بلا صدام.

زيارة لبنان لم تُغيِّر ملامح ليو الرابع عشر، بل أكّدت ما كان يُلمَحُ في شخصيته: مَيلٌ إلى الاقتراب من الوَجَعِ الإنساني من دونِ ادِّعاءِ القدرة على معالجته، ورغبةٌ في تقديم حضورٍ أخلاقي في أماكن استُنزِفَت فيها السياسة. حين وقف في بيروت—مدينة لم تخرج بعد من انفجارها، ولم تَستفِق من انهيارها—بدا كما لو إنّه يُكرّرُ طريقته ذاتها في كلِّ مكان: لا بيانات قاسية، لا أحكام، فقط حضورٌ يُريدُ أن يضبطَ الإيقاعَ في عالمٍ فَقَدَ القدرة على الإصغاء.

هذه المُقاربة جعلت بعض المراقبين يصفونه بـ”بابا مكافحة الاستقطاب”. والواقع أنّ العالمَ اليوم يعيشُ حالةَ استقطابٍ خانق: سياسيًا، دينيًا، ثقافيًا، وحتى داخل الكنيسة نفسها. فالأسئلة حول دور المرأة، ومستقبل العائلات المُفكَّكة، ومكانة المثليين في “الحياة الأسرارية” ( ممارسة الحياة الروحية في المسيحية)، كلها تحوّلت إلى خطوطِ تماسٍ داخل الكاثوليكية. البابا الجديد يبدو واعيًا أنّ الدخولَ في هذه الملفات من بوّابةِ الصدام سيُعمّقُ الانقسام، لذلك يُفضّلُ إعادةَ بناءِ لغةٍ مُشتَرَكة قبل إطلاقِ أيِّ تغيير.

وأكثر ما يُعقّدُ صورته أنّه البابا الأميركي الأوّل. العالم كان يَنتَظِرُ رجلًا مشحونًا بالثقافة الأميركية وصراعاتها، لكن ليو قضى عقدَين في بيرو، ويحمل الإسبانية كلغته الثانية. لا يتهرَّبُ من أصله، لكنه لا يَسمَحُ له بأن يتحوّلَ إلى عنوان. غير أنّ أميركيته تَظهَرُ فجأةً في التفاصيل الصغيرة: في لكنةٍ إنكليزية تحمُلُ أثرَ الغرب الأميركي الأوسط، وفي خياراته السينمائية، وفي خفّة ظلّه حين يتحدّث عن لعبته اليومية “ووردِل”. هو أميركي بحُكمِ الولادة، لكنّ شخصيته تبدو أقرب إلى نتاجِ ثقافاتٍ ثلاث: الأميركية والإيطالية والإيبرو-أميركية.

أما قائمة الأفلام التي قدّمها الشهر الفائت، فقد أثارت الفضولَ أكثر مما أثارت الجَدَل. اختار “صوت الموسيقى” و”إنها حياة رائعة” و”أُناسٌ عاديون” و”الحياة جميلة”. أفلامٌ تتناولُ العائلة والاختبار والأمل، لكنها لا تُقدِّمُ صورةً مثالية عن العائلة أو القداسة. في “أناس عاديون” مثلًا، تتركُ الأم أسرتها—مشهدٌ لا يبدو قريبًا من الرؤية التقليدية للكنيسة. لكنَّ البابا الجديد لم يبحث عن أفلامٍ تخدمُ الدرسَ الأخلاقي، بل عن أعمالٍ تكشفُ هشاشةَ الإنسان وضعفه، وتُلامِسُ الحقيقة قبل المثال.

من هذه الزوايا كلّها، تتكوّنُ صورةُ ليو الرابع عشر بوصفه بابا يُريدُ إعادةَ صياغةِ دور الكنيسة في عالمٍ يختنق بالمشاكل والأزمات والضجيج. ليس هدفه أن يُغَيّرَ العقيدة، ولا أن يُذهِلَ العالم بقراراتٍ كبيرة، بل أن يُقدِّمَ شكلًا جديدًا من القيادة: القيادةُ بصوتٍ مُنخَفِض. ففي عالمٍ يصعدُ فيه السياسيون على منصّة الخلاف، ويصنعون حضورهم عبرَ رَفعِ النبرة، يأتي البابا الجديد ليُقدِّمَ نموذجًا مُضادًا: رجلٌ يظنُّ أنَّ إصلاحَ العالم يبدأ بخَفضِ نبرةِ الخطاب، لا برفعها.

هذه ليست ثورةً صاخبة، بل ثورةٌ هادئة، أشبه بمحاولةِ إعادةِ ضَبطِ إيقاعِ عالمٍ فَقَدَ القدرة على الإصغاء. قد يرى البعضُ في هدوئه ضعفًا، لكنّ آخرين يَقرَؤون في صمته المقصود قدرةً على إعادةِ توجيه البوصلة. فالبابا ليو الرابع عشر لا يسعى إلى أن يسمعه الجميع من أوّلِ مرة، بل يُريدُ أن يجعلهم يقتربون ليسمعوا. وفي مثل هذا العالم، قد يكون ذلك تحديدًا أعظم قوة لديه.

إنه البابا الذي يُخفض صوته كي نسمعه بوضوحٍ أكبر.

Exit mobile version