حين يَتَوَقَّفُ العالمُ عن النمو

كابي طبراني*

لم يَكُن أحدٌ يتخيّلُ أنَّ العالم، الذي تضاعفَ عددُ سكّانه أربع مرات، من مليار إلى أكثر من ثمانية مليارات خلال قرنٍ واحد، سيَصِلُ إلى لحظةٍ يبدأ فيها البشر بالتقلُّصِ والتناقُصِ بدل النموِّ والازدياد. ومع ذلك، فإنَّ هذه اللحظة باتت أقرب من أيِّ وقتٍ مضى. للمرّة الأولى منذ اجتياح الموت الأسود (الطاعون الدبلي) أوراسيا في القرن الرابع عشر، تتجه البشرية نحو انكماشٍ سكاني عالمي، لا بسببِ الأوبئة ولا الحروب، بل نتيجة ملايين الخيارات الشخصيّة الهادئة المُتَكرّرة: أعدادٌ متزايدة من الناس تختارُ تأجيلَ الإنجاب أو تقليصه أو الاستغناءَ عنه.

الأرقامُ العالمية واضحة وصادمة، لكنَّ اللافتَ أنها لم تَعُد بعيدةً من العالم العربي. ففي العقد الممتد بين 2011 و2021، سَجّلَ الأردن انخفاضًا في معدّل الخصوبة بنحو 24%، وتراجَعَ المُعدّلُ في العراق بنحو 22%، فيما انخفضَ مُعدّل الخصوبة في لبنان إلى ما يقارب طفلًا ونصفًا فقط للمرأة الواحدة وَسطَ أزماتٍ اقتصادية وهجرةٍ واسعة. وفي دول شمال أفريقيا العربية، تتكرّرُ الظاهرة بوضوح: فقد هبط معدّل الخصوبة في المغرب إلى أقلِّ من طفلين لكلِّ امرأة مع تباطؤ نمو السكان إلى 0.85% فقط سنويًا، بينما تراجعت الخصوبة في تونس إلى حوالى 1.9—من بين أدنى المعدّلات في القارة الأفريقية—وانخفضت في الجزائر من مستويات كانت تتجاوز 4 أطفال في التسعينيات إلى نطاقٍ يقترب من 2.5 اليوم. ليبيا هي الأخرى تشهد انخفاضًا مستمرًا، مع معدلات تتراوح بين 2.1 و2.3.

أما في دول الخليج العربي، فقد انخفضَ معدل الخصوبة في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى نحو 1.5—أقل من نصف ما تحتاجه الدولة للحفاظ على عددِ سكانٍ ثابتٍ من دون هجرة. المملكة العربية السعودية التي كانت تُسجّل معدّلاتٍ تجاوزت خمسة أطفال للمرأة في الثمانينيات الفائتة، تقترب اليوم من 2.1، أي عند خط الإحلال تقريبًا، بينما تتجه الكويت وقطر والبحرين إلى نطاقٍ يتراوح بين 1.7 و2.0.وبذلك، ينضمُّ العالم العربي إلى المسار العالمي نفسه: تراجُعٌ هادئ، مُستمر، وعميق في الولادات.

هذا التحوّلُ لا يقلّ دراماتيكية عما يحدث في كوريا الجنوبية، التي تراجعت خصوبتها إلى 0.72 في 2023، أو الصين التي هبطت إلى 1.09 وبدأت بالفعل تفقد سكانها. اليابان تعيش في مسارِ انكماشٍ مُستمر منذ أكثر من أربعين عامًا، وأوروبا بأكملها تحت خطِّ الإحلال منذ نصف قرن، بينما سجّلت فرنسا أقل عدد ولادات منذ العام 1806، وإيطاليا أدنى مستوى ولادات منذ توحّدها.

وبحلول منتصف القرن، ستكون أكثر من 130 دولة في “منطقة الوفيات الصافية”، حيث تتجاوزُ الوفيّات الولادات سنويًا. هذا التحوّلُ سيقودُ إلى تقلّصِ القوى العاملة في معظم الدول بنسبٍ قد تبلغ 30% خلال العقود المقبلة، بالتزامن مع تضاعُفِ عددِ مَن هُم فوق 65 عامًا عالميًا إلى 1.4 مليار بحلول 2050. أما من تجاوزوا الثمانين عامًا فسيبلغون حوالى 425 مليونًا—رَقمٌ لم يَكُن يَخطُرُ على بالِ أيِّ ديموغرافي قبل جيلٍ واحد.

لكن السؤال الأساسي ليس عن الأرقام، بل عن السبب. لماذا يتراجع الإنجاب بهذه السرعة؟

التفسيرُ لم يَعُد مُرتَبطًا، كما في الماضي، بالتعليم أو النموِّ الاقتصادي أو تحسُّنِ صحة الأطفال. فالانخفاضُ باتَ يشملُ مجتمعاتٍ ذات دخولٍ منخفضة، مثل العراق ونيبال وميانمار، تمامًا كما يشمل ألمانيا واليابان. العاملُ الحاسِمُ اليوم هو الرغبة الإنسانية نفسها: الأفراد يُريدونَ عددًا أقل من الأطفال. وتكشُفُ الدراساتُ العالمية عن تَطابُقٍ شبهِ كامل بين عدد الأطفال الذين تقول النساء إنهنَّ يَرغَبنَ بإنجابهم وعددِ الأطفال الذين يُنجِبنَه فعليًا.

الظاهرةُ أوسَعُ من الاقتصاد. هناكَ تحوُّلٌ عالمي في شكلِ الأسرة وقِيَمِها: الزواجُ يتأخّر أو لا يحدث، العنوسة ترتفع، الأعباء الاقتصادية تتزايد، الدين يَفقُدُ نفوذه التقليدي في تشجيع الولادات، ونمط الحياة الفردي—القائم على الاستقلال والمرونة وتحقيق الذات—يُصبحُ أكثر إغراءً من فكرة تكوين عائلة كبيرة. ومع تقلّصِ العائلات الواسعة، يَفقُدُ المجتمع ما يُسَمِّيهِ عُلماءُ الاجتماع “الذاكرة الإنجابية”: أي القدرة على تَخَيُّلِ الحياة ضمنَ أُسَرٍ كبيرة.

البُعدُ الجيوسياسي لهذا المشهد لا يقلّ أهمية. فالدولُ التي تَطمَحُ لقيادةِ النظام الدولي تُواجِهُ اليوم قيودًا ديموغرافية تزدادُ قسوة. الصين، التي تَوَقَّعَت أن تتصدَّرَ العالم اقتصاديًا، تتجه إلى مجتمعٍ يُمثّلُ فيه كبار السن نحو 40% من السكان بحلول 2050. روسيا تُسَجِّلُ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أكثر من 17 مليون وفاة إضافية عن الولادات. إيران تُعاني من أحد أسرع الانهيارات الديموغرافية في العالم. وحتى كوريا الجنوبية، القوة التكنولوجية، قد تنكمشُ بنسبة 95% خلال قرن واحد إذا استمرّت الاتجاهات الحالية.

في المقابل، يحافظ الخليج العربي على نقطة قوة نسبية: الهجرة. فكما تستفيدُ الولايات المتحدة من الهجرة لتجديد قوّتها العاملة، تعتمد دول الخليج—وخصوصًا الإمارات وقطر—على القدرة على استقطاب اليد العاملة والمهارات لتعويضِ انخفاضِ الخصوبة. لكن هذا المسار مُعرّضٌ للتقُّلبِ سياسيًا واقتصاديًا، ولا يمكنه تعويض الانخفاض في الولادات إلى ما لا نهاية.

ورُغمَ قتامة الصورة، فإنّ الانكماش السكاني لا يُساوي بالضرورة الانهيار. فقد أثبت القرن الماضي أنَّ النموَّ الاقتصادي يُمكِنُ أن يستمرَّ حتى مع تباطؤ السكان، شرطَ الاستثمار في التعليم، والابتكار، والتكنولوجيا، والصحة. غير أنَّ النجاحَ في عصر الانكماش يتطلّبُ مُراجَعةً قاسية للبنى القائمة: رَفعُ سنّ التقاعد، إعادة هيكلة أنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية، دعم التعلُّم مدى الحياة، زيادة الإنتاجية، والمنافسة العالمية على استقطاب المواهب.

يبقى التحدّي الأكبر اجتماعيًا: مَن سيرعى كبار السن في مجتمعاتٍ تتقلّصُ فيها العائلات وتتسع فيها العزلة؟ الدولة باهظة التكلفة، السوق غير مُهَيّأة لهذه المهمة، والتكنولوجيا—من الروبوتات إلى الذكاء الاصطناعي—لا تزالُ عاجزةً عن تقديم بدائل إنسانية حقيقية.

إنَّ العالمَ يَدخُلُ مرحلةً لم يَعِشها من قبل: مرحلةٌ لا يقومُ فيها النمو على الزيادة السكانية، بل على قدرةِ المجتمعات على إعادة ابتكار نفسها. وعندما يتوقّفُ العالم عن النمو، لن تكونَ الدول الأكثر إنجابًا هي الأقوى، بل تلك التي تستطيعُ التكيُّفَ مع واقعٍ جديد يُصبِحُ فيه الإنسان المورد الأكثر ندرةً.

Exit mobile version