
هنري زغيب*
لن يكون لأَحدٍ أَن يحدِّد هذا الكائن العجيب الذي هو الشعر. أَقصى ما يمكن تعريفه أَنه فنٌّ جميل يتيح التعبير بالكلمات عن المشاعر. من عصرٍ إِلى عصر ومن جيلٍ إِلى جيل، يبقى هو ذاتُه جوهرًا وتعبيرًا. له قدرة عجيبة على هَزِّ عواطفنا وإِلهامنا، ووصْلِنا بالعالَم عبر القصائد في جميع الثقافات والأَزمنة.
في الأَربع الحلقات السابقة كتبتُ عن سبعٍ من أَشهر شاعرات العالَـم انتشارًا وترجماتٍ إِلى لغاتٍ عالَمية، وتأْثيرًا في مجتمعاتهنّ. في هذه الحلقة الأَخيرة شاعرتان أَخيرتان.
- أَدريانّ ريتْشْ
شاعرة أَميركية (1929-2012) وكاتبة متمرِّسة وناقدة مثقَّفة ومدَرِّسةُ أَدَب. كان لمجموعاتها الشعرية أَثَرٌ بيِّنٌ في النقلة من الشكل التقليدي المتَّبَع في جيلها، إِلى الشكل المميَّز الخاص والشخصي بأُسلوب شكَّلَتْهُ بموهبتها الخارقة. من هنا إِجماع النقاد ومؤَرخي الأَدب على تسميتها “إِحدى أَوسع الشاعرات إِقبالَ القرَّاء على شعرها، والتأَثُّر بها في النصف الآخر من القرن العشرين”.
عاشت حياة زوجية مضطربة مع زوجها أَلفرِد كونراد (أُستاذ الاقتصاد في جامعة كمبردج)، لأَنهما ذات فترة أَويَا في منزلهما عناصر من حزب “النمر الأسود”. بدأَت الخلافات بينهما، حتى تركت المنزل سنة 1975 إِلى شقة صغيرة قريبة منه، ما سبَّبَ حزنًا لكونراد فاختلَّ صوابه وراح يتنقَّلُ مشرَّدًا في الغابات إِلى أَن انتحر في زاويةٍ بعيدةٍ من غابة نائية.
أَشهر ما صدر لأَدريانّ: مجموعتها الأَخيرة “الليلةَ لا شعرَ سيَنْفع” (2011، قبل وفاتها ببضعة أَشهر)، وفيها خلاصاتُ تجربتها الشعرية العامة والشخصية، وكانت خلاصاتٍ جريئةً، خصوصًا بدخولها إِلى عالَم المرأَة الحميم. من هنا فوزُ مجموعتها “الغَوْص على الحطام” (1974) بـ”جائزة الكتاب الوطني” عامئذٍ، ما كرَّسَها أَيقونةً ساطعةً في الأَدب الأَميركي. وما زال شعرها حتى اليوم (بأُصوله وترجماته إِلى لغات عدة) مادةَ درسٍ وتدريسٍ في الجامعات والحلقات الأَدبية، لِما فيها من بحثٍ عن الهوية والانتماء.
وطيلةَ حياتها، مدةَ سبعة عقود مثْمرة، كانت تقطف هناءَة شهرتها في الأَوساط الأَدبية والثقافية العالية الأَميركية والأُوروبية التي قرأَتْها مترجَمَة إِلى لغاتها. من هنا انتشارُ عشرات الآلاف من النُسَخ من مجموعاتها الشعرية وقصائدها المتفرقة، خصوصًا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
منذ مجموعتها الشعرية الأُولى “العالم يتغيَّر” (1951)، نالت فورًا جائزة “جامعة ييل للشعراء الجدد”، وفي مجموعاتها اللاحقة بين الستينات والسبعينات تركَت بصمةً دامغةً في مواضيعها الجريئة، وشكْل الشعر المتفلِّت من القيود الشعرية العروضية. وهذا ما كان يظهر مرارًا في قسْم “الكتُب” من جريدة “نيويورك تايمز”. وعن معظم نقَّاد ذاك القسم الأَدبي أَنَّ قصائد أَدريانّ في السبعينات والثمانينات حرَّضَت موجاتٍ من الحركات النسائية. وعند وفاتها، كانت معتبَرَةً إِحدى أَشهر الشاعرات الأَميركيات.
- إِملي ديكنسون
شاعرة أَميركية شهيرة (1830-1886) لفتَت قرَّاءَها بما كان لديها من صوت شعري مغاير، وأُسلوب غير تقليدي ولا اتباعي شكَّل تحديًا في عصره غير مسبوق. عالجت في قصائدها مواضيع مختلفة منها أَسرار الموت، وجمالات الطبيعة، وتعقيدات الحياة الروحية، وكل ذلك بأُسلوب شعري شدَّ إِليها القراء في عصرها وحتى اليوم.
المؤسف أَنها لم تنَلْ على حياتها شهرتها المستحَقَّة. لكنها مع مرور السنوات بعدها راحت شهرتها تتَّسع حتى بلغَت اليوم أَن تكون من أَبرز الأَسماء الشعرية المؤثِّرة في تاريخ الشعر الأميركي، خصوصًا بلُغة أَبياتها، ورؤْيتها الشعرية الفريدة، وسيطرتها على اللغة الإِنكليزية. وهو ما لا يزال يُذكَر اليوم في مسيرة الشعر الأَميركي. ويذهب بعض النقاد إِلى اعتبارها صوتًا مغايرًا في عموم الأَدب باللغة الإِنكليزية.
من مميزات شعرها: قدرتُها على استنباط رؤًى عميقة من عبارات يومية مأْلوفة ومعانيها المباشرة. ومن غراباتها الاجتماعية: ارتداؤُها دائمًا ثوبًا أَبيض، وطبيعتُها الانفرادية، واعتكافُها معظم الوقت منطويةً على ذاتها لا تخرج إِلَّا نادرًا، حتى أَنها لم تكن تودِّع ضيوفها على باب بيتها، وأَحيانًا كانت تخاطبهم من وراء بابها المغلق في غرفة نومها. بل هي نادرًا ما كانت تغادر غرفة نومها، وغالبًا لم تكن تستقبل أَحدًا.
لم تتزوج. وعلاقاتها مع أَصدقائها وصديقاتها كانت في معظمها عبر الرسائل. وما صدَر مطبوعًا على حياتها، كانت رسالة واحدة وعشْر قصائد فقط من أَصل 1800 قصيدة وُجدَت بعد وفاتها. ولاحقًا خضعت قصائدها المنشورة لتعديلات شكلية كي تصبح مفهومةً ومقروءَةً من الجمهور الواسع. فقصائدها كما كانت كتبَتْها، مختلفة وغريبة، منها ذاتُ سطر واحد، من دون عناوين، مبعثرة الأَسطر، وغالبًا من دون نقاط وفواصل، وبشكل عام متفرقة المواضيع، أَكثرها عن الموت والخلود، والجماليات والمجتمع والطبيعة والروحانيات.
ومع أَن المقرَّبين منها كانوا مدركين بعضَ ما في قصائدها، يعود الفضل في اكتشاف عدد كبير منها إِلى شقيقتها الصغرى لافينيا التي وَجدت دفاتر إِملي. ولم تصدر إِلَّا سنة 1800 بعد تنقيحٍ مُضْنٍ قام به توماس وِنْتْوورث ومابيل تود. سوى أَنَّ مجموعتها الكاملة لم تصدر إِلَّا سنة 1955 مع إِصدار الناقد توماس جونسون (1902-1985) مجلَّدًا ضخمًا لـ”قصائد إِملي ديكنسون”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).