
هنري زغيب*
في الحلقة السابقة (رقم 21–“أَسواق العرب”، 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025) ذكرْتُ أَنَّ الشاعر (ومثْله الناثر)، عليه أَن يكون فارسَ لُغَة. ومن كان فارسَها، أَطاعتْه لقصيدته ونضيدته معًا، ليقينها أَنه سيُطْلِع منها، شاعرًا أَو ناثرًا، تُحفةً فنيةً مشغولةً بِمخاضِ ولادةٍ يتطلَّبه كلُّ نصٍّ إِبداعيّ.
اللغة، قلت؟ ولكنَّ اللغةَ كلماتٌ، والكلمات حروف.
فماذا عن الكلمة وما تتشَكَّلُ به من حروف؟
الكلمة كائنًا حيًّا
من معايشتي الكلمة، يوميًّا منذ نصف قرن، أَشعرُ جازمًا أَنّ لها تنفُّسًا، وفُسحةَ حركةٍ، وطبْعًا، ونبْضًا، ومزاجًا، ودورةً دمويةً خاصةً، وكلَّ ما يؤَمِّن لها الحياةَ الرغيدة وحقوقَ التصرُّف والسلوك.
هذا التعامُل مع الحروف، بهذه الرقَّة والدقَّة والشفافية والخيال، هو من ضرورات الأَديب، شاعرًا كان أَمْ ناثرًا. وحُسْنُ التعامل مع الحروف، بل “معرفةُ” التعامُل معها، يزيدُ الإِبداعَ إِبداعًا، لأَنها هي، لا أُمُّها الكلمة، الأَداةُ الأُولى للكتابة.
ستة شروط لكلمة واحدة
ذاتَ يومٍ كتب بول فاليري (وهو مَن هو في الأَدب العالي شعرًا ونثرًا): “أَبْحَثُ عن كلمةٍ معيَّنةٍ لعبارتي”.. وراح يَسرُدُ لهذه “الكلمة” المنشودة ستةَ شروط كي تَستقيم في المكان الذي يريدُها له. والمبدِع في الأَدب، شعرًا ونثرًا، ليس مَن يضعُ الكلمة المناسبة في المكان المناسب (هذه عادية وبديهية)، بل مَن يضَعُ في المكان المناسبِ “الكلمةَ” التي لا تُناسب إِلَّاها. وهنا اللمعةُ التي تُميّز ناثرًا عن ناثر، وشاعرًا عن شاعر.
“الكلمة” هنا ليست الشهقةَ الواحدةَ التي تنساب كما هي على القلم أَو الورق. أَبدًا. الكلمةُ كرةٌ أَرضيةٌ كاملةٌ، حروفُها القارّات. وكما لا يُمكن القارة الواحدة أَن تَختزلَ الكُرَةَ كلَّها، ولا حتى قارَّتان، وكما لا كرةَ أَرضيةً متكاملةً بدون كلِّ قارَّةٍ كاملةٍ على حدة، كذلك الكلمةُ لا تَختصر وحدَها في ذاتها جميع حروفها، ولا يُمكن الحرف الواحد أَن يَختزل الكلمة.
إِذًا: كما كلُّ قارّةٍ مستقلة بذاتها في الكُرَة الأَرضية، كذلك كلُّ حرفٍ مستقلٌّ بذاته في الكلمة الواحدة. وقبل أَن نتأَنَّى في تَجاوُرِ كلمَتَين، علينا، ضمنَ الكلمة الواحدة، أَن نَحسبَ حسابَ تَجاوُرِ الحروف واحدِها مع الآخَر. فرُبَّ حرفَين إِذا تَجاوَرَا تَنافَرَا، أَو غنَّيَا وأَطرَبَا، أَو ظَلَّا باردَين بدون أَداءٍ نابض. وعلى الكاتب فورًا أَن يَستبدلَهما بِحرفَين آخَرَين، أَو أَن يستبدلَ أَحدَهما بآخَرَ كي يَخدُمَ التجاوُرُ موسيقى الكلمة كَكُلّ. عندها تَجاورُ الكلماتِ يخدمُ موسيقى الجملة كَكُل.
اللغة وسيلة وغاية
هذه “الشروط” (وأُخرى سواها) ضروريةٌ لأَدوات الكاتب، وإِتْمامُها هو ما يُميِّز كاتبًا عن آخَر: مَن وعاها عملَ بِموجبها (كما في قصائد جوزف صايغ)، ومَن لم يَعِها بقيَ على سطْح التعبير دون جماليا عُمْقِه وجمال دَلالاته. كلُّ حرفٍ زهرةٌ، والكلمةُ باقةُ زهر، ولا يَحقُّ لأَديبٍ أَن يَدهسَ حرفًا، أَو يهملَ حرفًا، أَو يستعملَ حرفًا بدون قصْدٍ أَو انتباه، وإِلَّا كانت الحروف (وأُمهاتُها الكلمات) مُجردَ وسيلةٍ لبُلوغ المعنى، فيما الحروفُ للأَديب (والكلماتُ التي تتشكَّل منها) غايةٌ في ذاتها كغاية المعنى (كما لدى سعيد عقل شعرًا ونثرًا). والأَدبُ العالي، شِعرُه والنثر، هو الذي فارسُهُ يُدركُ أَنَّ الغاية هي حروفُ الكلمة ومعناها معًا. وبهذه الغاية المزدوجة، يبلغ الغايةَ التي ليس لها إِلَّا هدفٌ واحد: إِمتاعُ القارئ.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).
