هنري زغيب*
طالِعًا من 35 سنة مُستشارًا ثقافيًّا لدى بعثة لبنان إِلى منظَّمة الأُونسكو في باريس، أَصدَرَ بهجت رزق أَخيرًا دراستَه البُنْيَوية “الازدواجية بين السياسيّ والثقافيّ” (بالفرنسية، 156 صفحة، سلسلة “حبْر الشَرق”، منشورات “إِريك بونْييه”، باريس). أَهداها “إِلى جميع ضحايا النزاعات الثقافية عبْر التاريخ”، وضَمَّنَها غضبَه وحزنَه معًا لــ”نصف قرنٍ مضى هَباءً على حربٍ في لبنان حصدَت 200 أَلف ضحية، أُضيفت إِلى سلسلة نزاعات ثقافية حضارية قاصمة تقوِّض الإِنسانية منذ انتقالها من مرحلة ما قبل التاريخ الجليّ إِلى مرحلة التاريخ الجليّ، أَي قبل نحو 5000 سنة”.
يمتدُّ غضَبُه كذلك على ثُلْث قرنٍ من العمل في منظمة الأُونسكو “ولَم يتغيَّر الوضع، بدخول العالَمِ العولَمةَ بعد الحرب الباردة، ونزاعاتٍ ثقافيةً ما زالت تتناسل، كان ذكَرَها تقرير الأُونسكو سنة 2000 في فصل “التنَوُّع الثقافيّ، التعددية، والنزاعات”.” بذا يستنتج الكاتب أَنَّ “جميع الصراعات الإِنسانية بين الناس والدُوَل، طالعةٌ من النزاعات الثقافية الحضارية، منذ 5000 سنة، وما تلاها منذ ولادةِ أَنظمةِ الكتابة، وظهورِ الدعوات الدينية الأُولى. مع ذلك لم نتوصَّل بعدُ إِلى تعريفٍ موحَّدٍ لِمفهوم الثقافة، يتَّصل بالفلسفة والسياسة وإِيديولوجيَّاتهما، وبالمواجهة من جهةٍ على المدى الكونيّ، ومن أُخرى على خطر النزاعات”.
هذا الأَمر يلاحظه الكاتب منذ توقُّفِ أَيِّ نقاشٍ فكريٍّ قبل نصف قرن، تحديدًا منذ الخَضَّة الفكرية التي أَثارها سنة 1917 عالِمُ الأَنتروبولوجيا وعضوُ الأَكاديميا الفرنسية كلود ليفي شتراوس (1908-2009) بمحاضرته الشهيرة “العِرْق والثقافة” (أَلقاها في باريس بدعوة من منظمة الأُونسكو في 22 آذار/مارس 1971).
واضحٌ من هذا الأَعلاه أَن مسؤُولية بهجت رزق الثقافية، طيلة 35 سنة لدى منظمة الأُونسكو، لم تكن وظيفةً بل تجربةً آلَت إِلى ما خلُصَ معها بأَنَّ الثقافة (في بُعدها الحضاري والتاريخي والتراثي) قلقٌ وُجُوديٌّ تنامى في وجدانه منذ نصف قرن الحرب في وطنه، وأَوصله إِلى الغضب الذي به افتتح كتابه. قياسًا على ذلك، واصلَ بحثه عن معايـير الهوية، كما في كتبه السابقة (“الهوية الهاربة”-1981، و”الهوية الثقافية اللبنانية المتعدِّدة”-2001). وقد تكون قاصمةً صَدمتُهُ بتَحَوُّل منظمة الأُونسكو مع الوقت “من مختبرٍ حضاريٍّ للأَفكار وواحةٍ واسعةٍ للثقافات، إِلى بُؤْرةٍ عقائديةٍ يتجاذَبُها أَصحابُ القرار السياسيون والاقتصاديون”.
مُؤَرِّقٌ هذا الشعور ومالح، لِلُبنانيٍّ طَموحٍ يحمل في وجدانه الوطني حضورَ والده الـمِثال: الكبير إِدمون رزق، ويَتوقُ إِلى اعتماد الثقافة فضاءً للحضارة والعلاقات الإِنسانية السامية. من هنا وضْعُهُ لكتابه عنوانَه الثانويَّ “35 سنة في خدمة الأُونسكو”، ودعوَتُهُ إِلى إِعادة النظَر في كونيَّة المنظَّمة عالَميةً شاملةً (كما نصَّ نظامُها عند تأْسيسها)، وفي تأْطيرٍ مُعاصرٍ مفهومَ الهوية يعانقُ تلازُمَ الأُمَّة والهوية. وخلُص من كل ذلك إِلى ضرورة أَن تستعيدَ منظَّمةُ الأُونسكو جوهرَ رسالتها التأْسيسية الذي استحال، مع قضْم السنواتِ أَلَقَ مسيرَتِها، إِلى ضغوطِ الدُوَل الأَعضاء ببيروقراطيا وظيفيةٍ جعلَت رسالتَها الأُمَّ باهتةً وشبهَ معدومةِ الفاعلية. وهو كان انتسبَ يوتوبيًّا إِليها، مدفوعًا بأَنها “مختبرُ الأَفكار الخلَّاقة التي تغيِّرُ اتِّجاهَ أَيِّ مسيرةٍ ومسارٍ في العالم”، وبأَنها الموطن الطبيعي لتفعيل مفهومِ الأُمَّة والهوية كما نادى به المؤَرِّخ اليوناني هيرودوت (484-425 ق.م.)، وكما تأَسَّس عليه ميثاق الأُونسكو. ولإِيضاح الأَمر أَكثر، خصَّص المؤَلفُ النصفَ الآخر من كتابه لِمعايير هيرودوت عن الهويَّات الثقافية الجَماعية، بين مفاهيم الدين واللغة والتقاليد والعِرْق، والمزاوجة بين الدولة/الأُمَّة والتعدُّدية الثقافية.
كتابُ بهجت رزق ركْنٌ أَساسٌ في هذا الطرح، يُحرِّض الوجدانَ لاستنباط الوعي حين يَغفلُ عن نداءات فجرٍ آتٍ على الإِنسانية وليس مَن يَتَهَيَّأُ له. فلا كنزَ لوارثينا أَغلى من إِيداعنا إِياهم فضاءً صافيًا لوساعات الهوية والوطن.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).
