تَرسِيمُ النُفوذِ قبلَ الحُدودِ: خَريطةُ العلاقةِ اللبنانيِّة–السورِيّة في عَهدِ الشرع

يتشارك لبنان وسوريا ماضيًا مُضطربًا قائمًا على التفوّق والإخضاع. ومع ذلك، تُوَفِّرُ التحوّلات السياسية الأخيرة في كلا البلدين فرصةً لإعادةِ ضبطِ العلاقات، شرط التحلّي بالشجاعة والبصيرة لاغتنامها.

وزيرا الدفاع اللبناني ميشال منسى والسوري مرهف أبو قصرة يجتمعان برعاية وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان: الإتفاق بينهما ما زال حبرًا على ورق.

صهيب جوهر*

تبحثُ سوريا ما بَعدَ بشار الأسد عن موقعها في لبنان. فمنذُ توليه الرئاسة في كانون الثاني (يناير) الماضي، يحرص الرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع على الإيحاءِ بأنّ بلاده اليوم تختلفُ عن تلك التي كانت تحت حكم نظام الأسد، الذي أدارَ الملفَّ اللبناني لعقودٍ طويلة بالأدواتِ الأمنية وعبرَ الحلفاءِ المحلّيين، إذ تسعى الإدارة الجديدة إلى بناءِ شرعيّتها وترميمِ علاقاتها الإقليمية والدولية والتخلّصِ تدريجًا من إرثِ تحالفات دمشق القديمة مع إيران وروسيا.

مع ذلك، تبقى العلاقة مع لبنان مُثقَلة بإرثِ الشَكِّ المُتبادَل. ففي حين يخشى اللبنانيون من محاولاتِ سوريا الخفيّة لاستعادةِ هيمنتها، يرى المسؤولون السوريون أنّ لبنان لا يُعيرُ اهتمامًا للتغيير الجوهري الجاري في بلادهم. وقد عبّرت دمشق عن استيائها من تَرَدُّدِ الجانب اللبناني في فتحِ قنواتٍ رسمية للتعاون، وهو ما تجلّى في عدمِ قيامِ الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون بزيارةٍ رسمية إلى دمشق، فضلًا عن عدمِ الانخراطِ في مُناقشةِ ملفّاتٍ مشتركة أساسية، على رأسها ملفّ الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، وترسيم الحدود، ووضع “حزب الله”. والواقع أنّ هذه القضايا أصبحت عَصيّةً على الحلِّ بسبب تعقيداتِ السياسة الداخلية لدى الطرفيَن والضغوط الخارجية المفروضة عليهما. ولتجاوز حالة الجمود والمضي قُدُمًا في مسارٍ جديد، لا بدّ من أن يُوَحِّدَ لبنان وسوريا رؤاهما السياسية، وأن يُحدّدا تصوّرًا واضحًا يمكّنهما من تجاوزِ إرثِ الماضي.

تاريخٌ شائك

لم تَكُن العلاقات اللبنانية-السورية يومًا طبيعية بين بلدَين جارَين تجمعهما الجغرافيا وتفرّقهما السياسات. فمنذ استقلالهما، بقيت العلاقة غير متكافئة، إذ نظرت دمشق إلى لبنان كامتدادٍ جغرافي لأراضيها وأمنها القومي، لا كدولةٍ مستقلّة ذات سيادة.

في ظلِّ حكم حافظ الأسد الذي امتدّ قرابة ثلاثة عقود منذ العام 1971، ترسّخت العلاقة بين البلدين في إطارٍ من الوصاية المباشرة. وبعد توقيع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية في العام 1989، مُنِحت سوريا دورَا مركزيَا في “حفظ الأمن” في لبنان، ما أضفى شرعيةً على وجودها العسكري والاستخباراتي. وتَعزّزَ هذا النفوذ بعد انضمامِ سوريا إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت في العام 1990، ما مهّدَ لغطاءٍ دولي ضمني لتكريس هيمنتها على لبنان. واستمرّ هذا التفاهم حتى اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في العام 2005، الذي شكّلَ نقطةَ تحوُّلٍ أنهت الوجود السوري المباشر في لبنان.

مع ذلك، استمرَّ التعاطي السوري مع لبنان بالذهنية نفسها في عهد بشّار الأسد، ولكن بتكيّيفها مع التحوّلات والتوازنات الإقليمية المستجدة. غير أنّ اندلاع الثورة السورية في العام 2011 قلب الموازين، ومع السقوط المفاجئ للنظام في كانون الأول (ديسمبر) الماضي وصعود قيادة جديدة برئاسة أحمد الشرع، أُعيدَ فتحُ ملفِّ العلاقات بين البلدين.

القضايا الخلافية

بالنسبة إلى دمشق، يُعَدُّ ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية من أبرز التحدّيات الراهنة في العلاقة بين البلدين. وبحسب مصادر سورية رسمية، يتجاوز عددهم 2,000 موقوف بينهم مَن هم محكومين بجنايات، وآخرون متّهمون في قضايا “إرهاب”، بالإضافة إلى عددٍ لم تَصدُر بحقّهم أيّ أحكام قضائية. ويُواجه هذا الملف تعقيدات كبيرة، إذ تتعامل معه السلطات اللبنانية كقضيةٍ أمنية وقضائية، بينما تُعدّه دمشق مسألة سيادية وإنسانية واختبارًا لموقف بيروت تجاه الحكومة السورية الجديدة. وفي هذا السياق، أعلن الشرع عن نيّة إرسال وزير خارجيته أسعد الشيباني إلى بيروت في مهمّة ديبلوماسية عاجلة لمتابعة هذا الملف، مع التشديد على ضرورة وضع آليّة قانونية لإطلاق سراح المئات من غير المحكومين، أو تسليمهم إلى سوريا لمحاكمتهم هناك. ولمّحت القيادة السورية إلى احتمال اتّخاذ خطوات تصعيدية إذا لم يُقابَل هذا الملف بتجاوب لبناني، منها تعليق بعض أوجه التعاون الاقتصادي والأمني وفرض قيود على حركة الشاحنات والسلع عبر الحدود.

إلى جانب ملف الموقوفين السوريين في لبنان، يبقى ترسيم الحدود من أعقد القضايا الخلافية. إذ لم تُستَكمَل الإجرءات الأوَّلية لعملية ترسيم الحدود البرّية، ولا يوجدُ أيُّ اتفاقٍ واضحٍ بشأن الحدود البحرية، ما يفتح المجال أمامَ نزاعاتٍ مستقبلية مُحتَملة بشأن موارد الغاز والنفط في قاع البحر. وتطالب دمشق للمضيّ قدمًا في هذا الملف وجود موقف لبناني واضح من مستقبل العلاقات السياسية بين البلدين. في المقابل، يفضّل لبنان حصر الترسيم في إطارٍ تقني بحت، تجنّبًا لتسييسه، لا سيّما في ظلّ هشاشة القرار الداخلي، وضغوط بعض الأطراف اللبنانية التي تخشى من تقديم أيّ مكاسب استراتيجية لدمشق.

وفي هذا السياق، استضافت المملكة العربية السعودية نهاية آذار (مارس) الماضي اجتماعًا جمع وزيرَي الدفاع اللبناني ميشال منسّى والسوري مرهف أبو قصرة، وقدّمت نفسها كضامنٍ عربي لمسار تهدئةٍ واقعية يسبقُ أي تطبيع سياسي شامل. كما أدرج المبعوث الأميركي السفير توم بارّاك ملف الترسيم ضمن ورقته السياسية للبنان، مُشدِّدًا على ضرورة ضبط المعابر الحدودية وحصر السلاح بيد الدولة وترسيم الحدود مع سوريا كشرطٍ لتعزيز السيادة اللبنانية ومواجهة النفوذ الخارجي.

ويُضافُ إلى هذين الملفَّين ملفٌّ أكثر حساسية يتمثّل في وضع “حزب الله” الذي أدّى دورًا بارزًا في كلا البلدين في خلال السنوات الأخيرة. ومن المفارقة اليوم أنّ الدعوات لحصر السلاح بيد الدولة لم تَعُد مقتصرة على العواصم الغربية والخليجية وإسرائيل فحسب، بل باتت تصدر أيضًا عن دمشق، التي تتبنّى مقاربة مغايرة عن تلك التي اعتمدها الأسد تجاه “حزب الله”. وكما تُطالب واشنطن وباريس والرياض الدولة اللبنانية بوضع خطّةٍ لسحب سلاح “حزب الله”، لا سيّما في جنوب الليطاني، تعبّر دمشق عن قلقها من انتشار الحزب في البقاع حيث يكدّسُ ترسانةً صاروخية باتت تشكّلُ تهديدًا محتملًا لأمن سوريا.

وتخشى القيادة السورية من أن يستغلّ “حزب الله” وجوده الميداني في منطقة البقاع لتحريك خلايا في الداخل السوري، وتحديدًا في المناطق الحدودية ذات الولاءات العشائرية المختلطة، لا سيّما بين فلول النظام السابق. ويتعاظم هذا القلق مع احتمال استخدام “حزب الله” لخطوط الإمداد في منطقة البقاع لاستعادة نفوذه داخل الأراضي السورية، في ظلّ  تنامي الضغوط الأميركية والإسرائيلية عليه.

ويتزامن هذا الموقف السوري الجديد مع زيارة المبعوث الأميركي توم بارّاك إلى بيروت ودمشق، إذ عبّرَ في خلال لقائه بالشرع عن تقدير واشنطن لجهود الإدارة الجديدة في فرض سيادتها وضبط السلاح، داعيًا لبنان إلى الاقتداء بهذا النموذج. كما شدّدَ من بيروت على أنّ ترسيم الحدود مع سوريا، بما يشمل مزارع شبعا، لم يعد خيارًا بل ضرورة ملحّة. وقد يضع هذا التلاقي بين واشنطن ودمشق بشأن سلاح “حزب الله”، على الرغم من اختلاف خلفياتهما، لبنان أمام معادلة غير مسبوقة، إذ بات سلاح الحزب يشكّل مصدرَ قلقٍ مشترك للحلفاء والخصوم معًا، ما يضيق هامش المناورة أمام الحكومة اللبنانية الجديدة ويضعها في موقفٍ سياسي بالغ التعقيد.

الحاجة إلى سياسةٍ جريئة

يجد لبنان نفسه في وضعٍ معقّد بين ضغوط سورية ورعاية أميركية حذرة ومساعٍ عربية حثيثة لاحتواء التوتّرات وحلّ الملفات العالقة. فضلًا عن ذلك، إنّ غيابَ القرار الوطني المستقلّ ورؤية وطنية واضحة يضعفان من موقع لبنان التفاوضي، ويجعل علاقته بسوريا خاضعة لردود الفعل بدل المبادرة. كما يُعيدُ هذا الواقع إحياء المخاوف من تكرار تجارب سابقة، ولا سيّما تجربة التسعينيات حين تضافرت موازين القوى الإقليمية والدولية لترسيخ الهيمنة السورية على لبنان.

يفتح هذا الجمود المستمرّ الباب أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات اللبنانية-السورية. أوّلًا، أن يتوصّلَ الطرفان إلى تفاهُمٍ مشروط يقوم على تجاوب بيروت مع المطالب السورية، لا سيّما في ملف الموقوفين، في مقابل خطوات سورية للانفتاح تدريجًا على لبنان، وتشمل إعادة تفعيل التعاون الاقتصادي والحدودي برعايةٍ عربية. ثانيًا، أنّ تتدهور العلاقات أكثر وتدخل في حالة جمود رسمي مع فرض سوريا قيود على حركة التجارة والمعابر الحدودية مع احتمال تصعيد الاحتجاجات الشعبية على الحدود واستخدام ملف “حزب الله” كورقة ضغط متبادلة. وثالثًا، أن يعاد إنتاج تفاهم إقليمي دولي يشمل لبنان وسوريا، وربّما إسرائيل، برعاية أميركية ويؤدّي إلى إعادة توزيع النفوذ، كما حصل بعد اتفاق الطائف ولكن ضمن خريطة شرق أوسطية جديدة.

المضي قُدُمًا

لا يمكن للبنان وسوريا أن يواصلا إدارة الظهر لبعضهما أو التعامل مع التحوّلات الجذرية في دمشق وكأنّ شيئًا لم يتغيّر. لن يؤدّي غياب المبادرة واستمرار الانقسامات الداخلية إلّا إلى مزيدٍ من الاضطرابات، وسيحوّلان الضغوط الخارجية، ولا سيّما من إسرائيل، إلى تهديدٍ مباشر لكيان الدولة اللبنانية ومؤسّساتها. تفرض الواقعية السياسية على بيروت أن تبلور مقاربة إستراتيجية تجاه سوريا، تنطلق من الاعتراف بالتحوّلات الكبرى هناك، وترتكز على مصالح الدولة العليا، من خلال خارطة طريق تقوم على السيادة والتنسيق والتوازن. وبدلًا من أن يبقى لبنان ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، يمكن أن يتحوّلَ إلى مركز حوار إقليمي إذا امتلك جرأة المبادرة والتفاوض مع دول الجوار بوصفه شريكًا كاملًا، لا مجرّد ساحة نفوذ. وفي المقابل، ينتظر اللبنانيون من دمشق أن تبادر إلى دورٍ إيجابي جديد يقوم على احترام سيادة لبنان والشراكة المتكافئة، وأن تعتمد نهجًا تدريجيًا لتجاوز إرث الوصاية والصراع، وفتح صفحة جديدة من العلاقات الطبيعية والمتكافئة بين البلدين.

Exit mobile version