استراتيجياتٌ مُتَقاطِعة: حفتر وأنقرة والرهاناتُ البحرية في المتوسط
دارت خلافاتٌ بين أنقرة وأثينا لسنوات حول الحدود البحرية والمطالبات بالموارد في شرق البحر الأبيض المتوسط. والآن، قد يُؤتي تقارب أنقرة مع بنغازي ثماره، لكن حكّام شرق ليبيا ليسوا بمنأى عن حساباتهم الخاصة.

علي بن موسى*
على مدى ما يقرب من ست سنوات، رفضَ مجلس النواب الليبي، الذي يتخذ من شرق البلاد مقرًّا له، محاولات السلطات المعترف بها دوليًا في طرابلس التصديق على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، بحجة أنّها غير قانونية وتنتهكُ السيادة الوطنية الليبية. غير أنّ البرلمان الشرقي، وهو الهيئة التشريعية الوحيدة المعترف بها دوليًا في ليبيا، قد غيّر موقفه في حزيران (يونيو) الماضي، في خِضمِّ التحسُّنِ الملحوظ في العلاقات بين حكومة الاستقرار الوطني المُعَيَّنة من قبل مجلس النواب وأنقرة، وأعلن عن تشكيل لجنة فنية لمراجعة مذكّرة التفاهم بشأن ترسيم الحدود ورُبّما التصديق عليها، بعد أن وُقِّعت للمرة الأولى من قبل حكومة الوفاق الوطني في طرابلس في العام 2019، وأُعيد التصديق عليها من قبل حكومة الوحدة الوطنية في العام 2022.
ولا تخلو هذه الخطوة من تداعياتٍ أوسع، لا سيّما في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تتصاعَدُ حدّة التوتّرات بين تركيا واليونان، اللتين تتقاسمان حدودًا بحرية مُتنازَعًا عليها مع ليبيا. وقد أدّى هذا الخلاف إلى مواجهاتٍ بين الخصمَين التاريخيَين بسبب تعارُضِ المطالب المُتعلِّقة بحقوقِ استغلال الموارد في المياه الغنية بالغاز الطبيعي. وبينما كانت طموحاتُ تركيا مُقيَّدة في البداية بعزلتها الإقليمية، زادت مناوراتها الجيوسياسية الأخيرة من نفوذها في كلٍّ من مصر وسوريا وليبيا، مما عزّزَ من موقعها في المنطقة في مواجهة اليونان. في الواقع، اعترضت أثينا منذ البداية على مذكّرة التفاهُم الأصلية بين أنقرة وحكومة الوفاق الوطني بشأنِ ترسيم الحدود البحرية، كما أكّدت معارضتها مُجَدَّدًا في حزيران (يونيو) الماضي خلال اجتماع المجلس الأوروبي، الذي أصدر بيانًا شديد اللهجة يُدينُ الاتفاقية.
مع ذلك، يُشكّلُ التقارُبُ المُتنامي بين شرق ليبيا وأنقرة تحدّيًا إستراتيجيًا لليونان، التي لا تتمتّعُ بنفوذٍ يُذكَرُ في ليبيا، لكنها تسعى جاهدةً إلى حشدِ دعمِ الاتحاد الأوروبي للتصدّي لأيِّ توسُّعٍ تركي مُحتَمَل في المناطق البحرية المُتنازع عليها. إلّا أنه قد يصعبُ مواجهة إستراتيجية أنقرة المزدوجة والقائمة على التعاون مع كلٍّ من طرابلس وبنغازي. وفي ظلِّ تَغَيُّرِ التحالفات الإقليمية، تعملُ تركيا على ترسيخِ دورها كفاعلٍ لا غنى عنه في مستقبل ليبيا، في حين يستغلّ المشير خليفة حفتر ببراعة المصالح المتضاربة لدى القوى الإقليمية المُنخرطة في الشأن الليبي. وعلى الرُغم من أنّ الفصائل المتنافسة في ليبيا تأملُ في الاستفادة من الدعم الخارجي لتحقيق مكاسب قصيرة الأمد، إلّا أنَّ مناوراتها قد تقودُ إلى تصعيدٍ إقليمي أوسع.
لماذا الآن؟
يعكس هذا التحوُّلُ في موقف مجلس النواب أحدث التطوّرات في التقارُب المُتنامي بين أنقرة وبنغازي. فما بدأ كعلاقاتٍ اقتصادية وتجارية قبل عامين، بعد سنوات من العداء العلني، تطوَّرَ الآن إلى شكلٍ من أشكال التعاون شبه الاستراتيجي بين تركيا وخليفة حفتر –إلى جانب أبنائه– الحكّامُ الفعليون لشرق ليبيا. برزَ هذا التحوّل بشكلٍ واضح في نيسان (أبريل) الفائت، عندما زار صدام حفتر أنقرة والتقى وزير الدفاع التركي، يشار غولر، وعددًا من كبار المسؤولين العسكريين. وقد تعزّزت هذه الشراكة الوليدة في أيار (مايو) الماضي، حين شاركت قوات حفتر في مناورات “عنقاء الأناضول 25” العسكرية المشتركة مع الجيش التركي.
وفي ظلّ التحوّلات الجيوسياسية الجارية في المنطقة، والتي أعادت تشكيلها تطوّراتٌ بارزة مثل حرب إسرائيل على غزة وتدميرها غير المسبوق وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا واندلاع الحرب الإسرائيلية-الإيرانية الأخيرة، فمن المرجّح أن ترى أنقرة في التعاون مع بنغازي فرصةً ذهبية لتعزيز موقعها في معادلة الطاقة في شرق المتوسط. ويُسهِمُ انفراجُ تركيا في انشغالِ أطرافٍ رئيسة أخرى، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو مشتتًا ومنقسمًا بشأن مجموعة من التحديات المحلية والدولية. كما إنّ الموقفَ الغامض لمصر، الذي رُبّما تحكمه اعتبارات براغماتية في ضوء تزايد مصالحها المشتركة مع أنقرة وارتباطها الوثيق بحفتر حليفها الرئيس في ليبيا، يضيفُ مزيدًا من الغموض والفرص في آن معًا. وهذا يترك أثينا في موقفٍ صعب، بعدما أُبعِدَت أنقرة في السابق من خلال تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط في العام 2019، وهو منظمة دولية تضمّ اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر، وانضمّت إليها لاحقًا فلسطين، والأردن، وإيطاليا وفرنسا. أما اليوم، تجد أثينا نفسها بلا أوراق ضغط في المشهد الجيوسياسي الليبي المتغيّر، حيث تفتقر إلى النفوذ الإستراتيجي لدى أيٍّ من الطرفين.
الحسابات الليبية
من جانبه، يرى خليفة حفتر في أنّ مغازلة تركيا من خلالِ إبداءِ الاستعداد للمصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية قد يُعزّزُ موقعه في مواجهة خصومه في غرب ليبيا، الذين ازدادت تحالفاتهم السياسية والعسكرية تشرذُمًا، خصوصًا بعد الاشتباكات التي اندلعت في أيار (مايو) الماضي بين ميليشيات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي في طرابلس. كانت استجابة أنقرة لهذه الاشتباكات حذرة، بعدما دعت إلى التهدئة من دون إعلان دعمها الصريح لحكومة الوحدة الوطنية، خلافًا لما كانت تفعله في السابق عند تعرّض حكومة طرابلس لتهديداتٍ عسكرية.
وفي تطوّرٍ نادرٍ يعكسُ توافقًا في السياسة الخارجية بين سلطات طرابلس وبنغازي، أدانَ الطرفان طرح أثينا مناقصاتٍ لاستكشافِ الموارد الهيدروكربونية داخل المياه المتنازع عليها على حدود ليبيا في البحر المتوسط. وعلى مدى سنوات، استغلّت كلٌّ من تركيا واليونان الانقسامات الداخلية في ليبيا، سعيًا لكسب تأييد إحدى السلطتَين المتنافستَين – إما لإضفاء الشرعية على اتفاقية أنقرة وطرابلس البحرية أو للموافقة ضمنيًا على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية على الطرف المقابل بين اليونان ومصر، وغالبًا ما كان ذلك على حساب الحقوق السيادية لليبيا.
في حين أنّ هذا التوافقَ الناشئ قد يخدم، نظريًا، المصلحة الوطنية الليبية، إلّا أنه يبدو في الواقع مدفوعًا بأجنداتٍ سياسية ضيّقة. فحكومةُ الوحدة الوطنية، التي تواجه سخطًا شعبيًا مُتناميًا ومحاولات من قبل مجلس النواب وأطراف في المجلس الأعلى للدولة لاستبدالها، تُواصِلُ تعبئة ميليشياتها لإحكام قبضتها على طرابلس. وفي محاولةٍ لضمانِ بقائها السياسي، تسعى الحكومة إلى تغييرِ موقف أنقرة الداعم لخفض التصعيد في العاصمة، من خلال توقيع مذكرة تفاهم جديدة بين المؤسّسة الوطنية للنفط الليبية وشركة النفط التركية لإجراءِ مسوحاتٍ جيولوجية في أربع مناطق بحرية، ما يزيد من حدة التوتّرات مع اليونان.
في المقابل، يستغلّ حفتر التنافُس الإقليمي لاستعادة زخمه السياسي المفقود. فبعد إخفاقاته السابقة في نيل الشرعية الدولية، يستخدمُ الآن احتمال المصادقة على مذكرة التفاهم كورقةِ ضغطٍ إستراتيجية، سواء لاستمالة أنقرة أو للضغط على الاتحاد الأوروبي للاعتراف بدورٍ سياسي له على الساحة الدولية، كما يستغلّ حفتر أيضًا قضية شديدة الحساسية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وهي الهجرة من أفريقيا إلى أوروبا.
ففي 8 تموز (يوليو) الماضي، طردت سلطات شرق ليبيا وفدًا أوروبيًا رفيع المستوى مَعنيًّا بقضايا الهجرة من بنغازي بعد رفضه الاجتماع مع أسامة حماد، رئيس حكومة الاستقرار الوطني، بحجة أنّها غير معترف بها دوليًا. وفي الوقت نفسه، يبدو أنَّ قوات خفر السواحل المتمركزة في شرق البلاد تغضُّ النظرَ عن تزايد أعداد المهاجرين الذين يغادرون من السواحل الشرقية لليبيا باتجاه جزر كريت وجافدوس اليونانية. فمنذ بداية العام، سُجّل وصول 7,300 مهاحر عبر هذا المسار، بالمقارنة مع أقل من 5,000 في العام 2024 بأكمله.
في العادة، كانت غالبية موجات الهجرة غير النظامية من ليبيا تنطلق من السواحل الغربية باتجاه إيطاليا. لكن الارتفاع الأخير في حركة الهجرة من الشرق يوحي بوجود جهد مدروس من حفتر للضغط على الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاقيات تمويل وتدريب مع قواته، على غرار مذكرة التفاهم لمكافحة الهجرة التي وقّعتها إيطاليا مع حكومة الوفاق في العام 2017، وهو ما يبدو أنه قد أثمر فعليًا بعد زيارة وزير الخارجية اليوناني، جورج جيرابتريتيس، الأخيرة إلى بنغازي ولقائه بحفتر.
تجاوزُ أُفق التكتيكات البراغماتية
على الرُغمِ من أنّ المناورات التكتيكية التي تنتهجها سلطات شرق ليبيا مع تركيا واليونان والاتحاد الأوروبي قد تهدفُ إلى تعزيز موقعها الإستراتيجي، إلّا انها قد تنطوي أيضًا على مخاطر تصعيد غير مرغوب فيه. وإذا فشلت محاولات الحوار والتوافق، فقد تواجه المنطقة صراعاتٍ قانونية وتجارية ورُبّما عسكرية. ومن غير المرجّح أن تخوضَ اليونان هذه المعركة بمفردها، إذ ستعتمد اعتمادًا كبيرًا على دعمٍ قوي من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة.
في حين أنَّ دوافع ليبيا قد تشملُ آمالًا في الاستفادة من عائدات النفط والغاز البحرية، لا سيما مع اهتمامِ تركيا المُعلَن بمشاريع الاستكشاف، نظرًا لأن الاتفاق البحري –كما يَرِدُ في السردية التركية– يمنح ليبيا حقوقًا بحرية أوسع قد تُفضي إلى اكتشافاتٍ جديدة. ومع ذلك، وفي ظلّ استمرار التشرذم الليبي، يُرجَّح أن تضمن القدرات العسكرية والتكنولوجية المتفوِّقة لأنقرة بقاءها الطرف المهيمن في أيِّ ترتيباتٍ مستقبلية تتعلّقُ بليبيا في المتوسط.
وفي المدى المنظور، من المرجّح أن يظلَّ التعاون الإستراتيجي بين أنقرة وبنغازي براغماتي الطابع، مُتجذّرًا في مصالح متداخلة ومدروسًا بعنايةٍ للحفاظ على المكاسب المشتركة، من دون أن يلغي الريبة المُتبادَلة بين الطرفَين. وإذا ما صُدِّقَ على مذكرة التفاهم البحرية، فستسعى تركيا على الأرجّح إلى ترجمتها إلى عقودٍ ملموسة في مجالات الأمن والطاقة والبنية التحتية في كلٍّ من شرق ليبيا وغربها، فضلًا عن توسيع حضورها في شرق المتوسط. أمّا حفتر، فسيواصل تقديم تنازُلات انتقائية، مستغلًّا مذكرة التفاهم لتعميق علاقاته مع أنقرة، مع التعهّد بتشديد الرقابة على الهجرة وتعزيز التعاون الأمني مع أثينا والاتحاد الأوروبي. وبهذا النهج، سيسعى القائد العسكري إلى تنويع تحالفاته الخارجية وتعزيز شرعيته شبه الرسمية، من دون التفريط في استقلاليته عند اتّخاذ قراراته الميدانية.
- علي بن موسى هو زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّج أخيرًا من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملًا شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية. تشتمل مواضيع بحثه على الانتقال الديموقراطي، وبناء الدولة، والتاريخ السياسي والسياسات الخارجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.