“حزبُ الله” هو قبل كلِّ شيء حركةٌ مسلَّحة ذات مشروعٍ سياسي–أمني مُتكامل، وليس مجرّدَ حزبٍ بالمعنى التقليدي. كلُّ ما في بُنيته – من عقيدةٍ وتنظيمٍ ومؤسّساتٍ وتحالفاتٍ صُمِّمَ لخدمة دوره العسكري والأمني. لذا فإن تحويله إلى “حزب سياسي عادي بدون سلاح يبقى وهمًا.
ملاك جعفر عبّاس*
أشارَ المبعوثُ الأميركي إلى لبنان السفير توماس برّاك، خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت، إلى أنَّ “حزبَ الله” هو حزبٌ سياسيٌّ يملكُ جناحًا عسكريًّا على الدولة اللبنانية ان تتعامَلَ معه. واعتُبِرَ هذا الكلام مُؤشِّرًا إلى صيغةٍ قد تقبلُ بها الإدارة الأميركية لتَحَوُّلٍ ينقلُ “حزبَ الله” من دائرةِ المنظّمات المُصَنَّفة على لوائح الإرهاب الى حزبٍ سياسي يعملُ تحت سقف الدولة والقانون، في حالِ قرّرَ تسليمَ سلاحه إلى الدولة. وهذا ما أعادَ السؤالُ القديم حَولَ ما إذا كانَ يُمكِنُ الفصلُ فعلًا بين السياسي والعسكري داخل الحزب إلى الواجهة.
لطالما اعتُبِرَت مسألةُ التمييزِ بين الجناحَين العسكري والسياسي ل”حزب الله”، والتي لجأ إليها بعضُ المؤسّسات الدولية كالاتحاد الأوروبي لتبرير تعاطيها مع الحكومات اللبنانية المُتعاقبة قانونيًا، نوعًا من الهرطقة لدى العارفين ببُنيةِ “حزب الله” وتركيبته، كما لدى قادة الحزب أنفسهم. فالأمين العام الحالي الشيخ نعيم قاسم كانَ قَطَعَ الشكَّ باليقين في إحدى مقابلاته الصحافية عندما نفى أن يكونَ هناكَ تمييزٌ بين السياسي والعسكري داخل المقاومة، “كلُّ ما لدينا في “حزب الله” من قياداتٍ وعناصر وإمكانيات مختلفة هي في خدمة المقاومة، ولا شيءَ لدينا غير المقاومة كأولوية… ليس عندنا جناحٌ عسكري وجناحٌ سياسي”. ويُسهِبُ قاسم، وغيره من قيادات الحزب، الشرحَ في كتاباتهم عن تكامُلِ عمل المؤسّسات المختلفة خدمةً لفكرة المقاومة. ويَعرِفُ القاصي والداني أنَّ القراراتَ التي تَحكُمُ عملَ الحزب لا تأتي من أيٍّ من نواب كتلة “الوفاء للمقاومة”، بل من مجلس شورى القرار الذي يرأسه الأمين العام نفسه ويُشرفُ من خلاله على عملِ المجلس الجهادي والمجلس السياسي. ويرتبطُ الحزبُ تنظيميًا وعسكريًا بالحرس الثوري الإيراني وهو الامتداد العقائدي اللبناني لولاية الفقيه التي قامت على سردية عسكرة الثورة الحُسَينية والجهاد المقدّس حيث يحتلُّ السلاحُ المساحةَ الأكبر من الإطار الفكري الناظم لها.
ولم يَكُن التنظيمُ المُسلَّح مَعنيًا بإطارٍ سياسي عند انطلاقته إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، فقد وَضعَ بصماتُهُ الأولى على الساحة اللبنانية من خلالِ عملياتٍ أمنية وعسكرية مُبهِرة كان أبرزها تفجير السفارة الأميركية في بيروت في العام 1983ومقر القوات المشتركة-“المارينز” في العام 1984 والتي وضعتهُ على رادار وكالات الاستخبارات العالمية. وقد تمكّنَ التنظيم الوليد، الذي لم يَكُن يُعرَفُ بعد ب”حزب الله”، من تحقيقِ هذا الصدى الكبير ليس فقط بسبب التدريب الذي وفرته إيران، بل لأنّ أعضاءهُ، بغالبيتهم، جاؤوا أصلًا من خلفيةٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ وتدرّبوا في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وأبرزهم الحاج عماد مغنية، العقل المُدبِّر لعمليتَي تفجير السفارة ومقر المارينز الأميركيين.
وقد شَكَّلَ الإطارُ العقائدي والإيمان المُطلَق بأفكار الإمام روح الله الخميني القاعدة الصلبة لهَوِيّةِ الحزب التي لا تُشَكِّلُ فيها البندقية مجرَّدَ شعارٍ على عَلَم، بل منظورًا فكريًا يُفسِّرُ الدين والسياسة والاجتماع. وبعدَ عقدٍ على التأسيس حطّت الحربُ الأهلية أوزارها ودخلت البلاد مرحلةَ إتفاق الطائف، واحتاج الحزب في حينه الى إطارٍ يُؤمِّنُ له موطئَ قدمٍ داخل التركيبة الجديدة للدولة التي وصفها بالطائفية والفاسدة في رسالته المفتوحة في العام 1985، رافضًا حينذاك أن يكونَ جُزءًا منها، فقرّرَ المشاركة في انتخابات 1992 ليتَّسع حضوره السياسي والعسكري والمالي تدريجًا، حتى باتَ يُشارُ إليه في الأدبيات السياسية بأنه يُشَكِّلُ دولةً داخل الدولة. والحقيقةُ أنَّ الحضورَ الاجتماعي والسياسي للحزب لاقى قبولًا كبيرًا من جمهورٍ رأى في انضباطه العسكري ومناقبية عناصره، خصوصًا من الرعيل المؤسِّس، وجاذبية خطابه الهَوِيّاتي أملًا في استعادةِ كرامةٍ أهدرتها الميليشيات و”زعرانها” ومُستَقبلًا يُهدّدهُ الاحتلالُ وإهمالُ الدولة وتهميشها للشيعة.
وقد تحدّثَ قادةُ الحزب صراحةً عن مشروع “مجتمع المقاومة”، بحيثُ يتمُّ تربيةُ جميع فئات المجتمع على قِيَمِ المقاومة عبر المؤسّسات التربوية والكشفية والنسوية التابعة له. فعلى سبيل المثال تنشَطُ منظمة جهاد البناء في إعمار ما تُهدِّمهُ الحروب الإسرائيلية وتقديم خدمات للبنية التحتية، مما يُعزّزُ التفافَ السكان حول الحزب بعد كلِّ مواجهة مسلّحة. وكذلك تضطلعُ الهيئة الصحّية الإسلامية ومستشفيات الحزب بدورِ علاجِ الجرحى ورعاية عائلات الشهداء والمقاتلين، فتُخفّفُ أعباءَ الحرب عن المجتمع وتمنعُ أيَّ حالةِ نقمة قد تنتجُ عن كلفة الصراع. هذه الخدمات الاجتماعية ليست حيادية، بل هي في الواقع الوجه المدني للمقاومة، بمعنى أنَّ “حزب الله” يُقدّمُ الدعمَ للمجتمع ليضمَن ولاءه، وفي الوقت نفسه يُجنّدُ من هذا المجتمع المقاتلين والمتطوِّعين ويُبرّرُ استمرارَ تسلُّحه. وقدّرَ باحثون أنَّ نحو نصف ميزانية “حزب الله” تُنفَقُ في قطاعات الخدمات الاجتماعية كالصحة، وإعالة أُسَر المقاتلين، وإعادة الإعمار في مؤشِّرٍ إلى أولوية البُعدِ المدني لخدمة المجهود العسكري. وضمنَ هيكل الحزب الرسمي، تعملُ الوحدة الاجتماعية التابعة لمجلسه التنفيذي في إدارة مؤسّسات الدعم والرعاية لعناصر الحزب وعائلاتهم. أما الآلة الإعلامية فتعملُ على تأصيل فكرة المقاومة المُسلَّحة لدى جمهوره وتأصيل فكرة السلاح كمُكَوِّنٍ هَوِيَّاتي ضامن في صراع البقاء الشرق أوسطي. كلُّ تلك الأذرع المدنية تصبُّ في خدمة الهدف العسكري سواءً برفد خزينة الحزب بالأموال عبر جمع التبرّعات والخُمس الشرعي، أو برَفدِ صفوفه بالشباب المؤمن بفكر المقاومة، أو بتحصين مجتمعه من الاختراق الفكري والمعارضة لسياسته. بهذا التكافُل العميق، يُصبِحُ من الواضح أنَّ “مدنيّات “حزب الله” و”عسكرياته” وجهان لعملة واحدة، وقد أثبت “حزب الله” في كلِّ الاستحقاقات الداخلية السابقة أنه مُستَعِدٌّ للدفاع باستماتة عن هذا السلاح “فاليد التي ستمتد إليه ستُقطَع” كما قال الأمين العام السابق السيد حسن نصر الله يومًا.
وقد شَكّل الدعمُ الإيراني الذي تلقّاه “حزب الله” على مدى أربعة عقود تكريسًا لهذه الطبيعة المركّبة، فهو لا يهدفُ إلى تعزيز “حزب الله” كحزبٍ سياسي داخل البرلمان فحسب، بل لتمكينه عسكريًا في إطار “محور المقاومة” وكقاعدةٍ مُتقدِّمة للدفاع عن النفوذ الإيراني في الإقليم. وكذلك كانَ الأمرُ بالنسبة إلى التحالف مع النظام السوري البائد الذي كان يُؤمِّنُ للحزب خطَّ إمدادٍ بالسلاح عبر أراضيه. وقد ساعدت هذه الامتدادات الخارجية الحزب على إنشاءِ شبكاتٍ اقتصادية موازية مثل تهريب النفط والمخدرات وتبييض الأموال يستفيد منها لتعويض أيِّ ضغوطٍ مالية. وقد وَثّقت وزارةُ الخزانة الأميركية وجهّاتٌ دولية عدة تورّطَ مؤسّساتٍ وأفراد مرتبطين بالحزب في أنشطةٍ اقتصادية غير مشروعة تهدفُ لدَعمِ تَمويلِ هيكله العسكري. وبالتالي فحتى أنشطة الحزب المدنية والمالية دوليًا مُرتبطة بسلاحه وتمويل معاركه، مما يجعل تصوّر “حزب الله” بلا هذا الجهاز العسكري–الأمني تفكيكًا لشبكة مصالح كاملة بناها على مرِّ العقود.
في ضوءِ ما سبق، تبدو الإجابةُ عن السؤال: هل يستطيع “حزب الله” أن يتحوّلَ إلى حزبٍ سياسي؟ واضحةَ المعالم. إنَّ “حزبَ الله” هو قبل كلِّ شيء حركةٌ مسلَّحة ذات مشروعٍ سياسي–أمني مُتكامل، وليس مجرّدَ حزبٍ بالمعنى التقليدي. كلُّ ما في بُنيته –من عقيدةٍ وتنظيمٍ ومؤسّساتٍ وتحالفاتٍ صُمِّمَ لخدمة دوره العسكري والأمني. الجناحُ السياسي بالنسبة إليه ليسَ إلّا امتدادًا مُكمِّلًا لهذا الدور، يُوفّرُ له الغطاءَ والشرعية والتأثير داخل مؤسّسات الدولة بدونِ أن يُلزِمَ نفسه بقواعد اللعبة السياسية وأهمّها احتكار الدولة وحدها للسلاح.
لذا فإنَّ فكرةَ التخلّي عن السلاح والتحوُّلِ إلى حزبٍ مدني صرف تُناقِضُ جَوهَرَ هَوِيَّةِ “حزب الله” ورسالة وجوده. لذا يضعُ الحزب الشرط تلوَ الآخر للبدء بمناقشة ما يسميه استراتيجية دفاعية تُمكّنُ الدولة من الاستفادة من سلاحه من دونِ أن يُعلِنَ أبدًا أنه في واردِ تسليم سلاحه لها رُغمَ الخسارة الهائلة التي تعرَّضَ لها نتيجة دخوله في حرب الإسناد لغزة، والانهيار شبه الكُلّي ل”محور المقاومة”، وتحجيم إيران عسكريًا وماليًا بعد حرب الاثني عشر يومًا مع إسرائيل. “حزب الله” بدون سلاحه يَفقُدُ سببَ وجوده الأساسي. إنَّ فكرةَ التحوُّل إلى حزبٍ سياسي اعتيادي، مهما بدت مُغرية للبعض على طريق استقرار لبنان، تصطدمُ بواقعِ أنَّ المقاومة ليست نشاطًا عابرًا عند “حزب الله”، بل هي “عمود خيمته”، وكل أجنحته الأخرى، سياسية كانت أو اجتماعية، ليست سوى أدواتٍ لدعم ذلك العمود. من هنا، فإنَّ عبثية الفصل بين جناحٍ عسكري وآخر سياسي التي أكدها الحزب نفسه تنطبقُ أيضًا على تصوُّرِ “حزب الله” كفاعلٍ سياسي مُنفَصلٍ عن قوته المسلحة. وفي ظلِّ استمرارِ عوامل الصراع الإقليمي التي تُغذّي دور “حزب الله” القتالي، سيبقى سلاحه عنصرًا جوهريًا لاستمراره. لا يستطيعُ “حزب الله” أن يكونَ حزبًا سياسيًا وحسب، إلّا إذا تغيّرت طبيعته والأُسس التي بُني عليها جذريًا – وهذا تغييرٌ لن يأتي من داخل الحزب طوعًا على الأرجح، ولا يبدو أنَّ الضغطَ الأقصى الذي يقع تحته الآن كافٍ لتفكيكه. سيبقى “حزب الله” حزبًا مسلحًا، يعيش بسلاحه وربما يزول بزواله.
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “Linkedin” على: linkedin.com/in/malakjaafar