في منطقةٍ تُواجِهُ ضغوطًا مناخية مُتزايدة ومخاطرَ مُتعلِّقة بالمياه، فإنَّ ثمنَ العملِ مُنفردًا باهظٌ للغاية. الآن هو الوقتُ المناسب لدول الخليج العربية للتغلُّبِ على العوائق القديمة والالتزامِ بنموذجِ تعاونٍ استشرافي. فمستقبلُ الأمن المائي في المنطقة يعتمدُ على ذلك.
ناصر السَيِّد وجون كالابريس*
في 19 حزيران (يونيو)، أثارت تقارير كاذبة عن ضربةٍ إسرائيلية على محطة بوشهر النووية الإيرانية قلقًا بالغًا في جميع أنحاء الخليج العربي. ورُغمَ نفي المسؤولين الإسرائيليين لهذه التقارير، إلّا أنَّ الادِّعاءَ يعودُ إلى تحذيرِ رئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني من كارثةٍ مُحتَمَلة في حالِ التلوُّث النووي -لا ماء، لا غذاء، لا حياة- بسببِ اعتماد الخليج على مياه البحر المُحَلّاة. سارعت حكومات الخليج إلى طمأنةِ الرأي العام بأنه لم يتم رَصُدُ أيَّ إشعاعات. إلّا أنَّ هذه الحادثة أبرزت الشعورَ المُتزايد بالضعف في المنطقة، وبأنَّ من شأنِ اتِّباعِ نهجٍ إقليمي لأمنِ المياه أن يُسهِمَ في التخفيف من حدّةِ هذه المخاطر.
تأسّسَ مجلس التعاون الخليجي على مَبدَإِ التعاوُنِ الإقليمي لمواجهة التحدّيات المشتركة. ومع ذلك، ورُغمَ روحِ التعاون هذه، فإنَّ أحدَ أكثر تحدّيات المنطقة إلحاحًا -ندرة المياه- ظلَّ إلى حدٍّ كبير شأنًا وطنيًا وليس جماعيًا. مع تصنيفِ جميع دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء سلطنة عُمان، كدولٍ تُعاني من ندرةٍ مائية شديدة، وتلبية احتياجاتها المائية بشكلٍ كبير من خلال تحلية المياه كثيفة الاستهلاك للطاقة، تُواجِهُ المنطقة تهديداتٍ متزايدة ناجمة عن تزايُدِ الطلب، وتغيُّر المناخ، والمخاطر الجيوسياسية. يستكشفُ هذا المقال الفُرص الضائعة للتعاون الإقليمي في مجال المياه، وأسباب هذه الحوكمة المُجَزَّأة، والحاجة الاستراتيجية إلى استجابةٍ مُوَحَّدة.
تهديدُ (انعدام) الأمن المائي
سواءً من منظورِ أمنِ الدولة التقليدي أو الإطارِ الأوسع للأمنِ الإنساني، فإنَّ التعاوُنَ الإقليمي الأوسع نطاقًا بشأنِ قضايا المياه في دول مجلس التعاون الخليجي ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب، بل إنه أيضًا أمرٌ ضروري ومُلِحٌّ بشكلٍ متزايد. ومع تصاعُدِ مخاطر المناخ، وتفاقُمِ نقاط ضعف البنية التحتية، واستمرارِ حالةِ عدم اليقين السياسي، أصبحَ من الصعبِ تجاهُل ضرورة العمل الجماعي.
تُواجِهُ دولُ الخليج العربية مجتمعةً تحدّيًا خطيرًا في مجال الأمن المائي، حيث تعتمدُ اعتمادًا كبيرًا على مصادر غير مُتَجَدِّدة مثل المياه الجوفية الأحفورية والمياه المُحَلّاة، والتي تُمثّلُ معًا أكثر من 90% من إجمالي موارد المياه في المنطقة. ولا تزال المياه الجوفية تُمثّلُ الموردَ الرئيس للمياه في معظم أنحاء المنطقة، على الرُغم من أنَّ تحليةَ المياه تلعبُ دورًا متزايد الأهمية، وهي بالفعل المصدر الرئيس للمياه في بعض دول الخليج.
مع استمرارِ تدهورِ إمدادات المياه الجوفية وانخفاض موثوقيتها، تُعتَبَرُ تحليةُ المياه بشكلٍ متزايد الحلَّ الأمثل من قِبل حكومات المنطقة. دول الخليج هي أكثر دول العالم اعتمادًا على تحلية المياه، حيث تُنتِجُ مجتمعةً حوالي 40% من المياه المُحلّاة في العالم، ومن المتوقع أن تتضاعفَ قدرتها الإنتاجية بحلول العام 2030.
مع ذلك، فإنَّ الاعتمادَ على تحلية المياه كحلٍّ رئيس يطرحُ مشاكل عدة. أوّلًا، إنها تستهلكُ كميات كبيرة من الطاقة، مما يجعلها عرضةً لتقلّبات أسعار الطاقة وإمداداتها. ورُغمَ الجهود المبذولة لتطويرِ تقنياتٍ تُقلّلُ من استهلاكها للطاقة، إلّا أنَّ هذه العملية لا تزال مُكلِفة وكثيفة الكربون. علاوةً على ذلك، ولأنَّ غالبية محطات تحلية المياه تعتمدُ على مياه البحر، فإنها عادةً ما تقع على طول السواحل، مما يجعلها عُرضةً لآثار ارتفاع مستوى سطح البحر والمخاطر الساحلية.
من منظورٍ أمني تقليدي، يُمثّل اعتماد الخليج الكبير على البنية التحتية المركزية لتحلية المياه نقطةَ ضعفٍ استراتيجية واضحة. تُواجِهُ هذه المرافق، التي يقع العديد منها على طول المناطق الساحلية المنخفضة، تهديداتٍ مُتزايدة بهجماتٍ عسكرية أو إلكترونية محتملة. تُبرِزُ السوابق التاريخية، مثل الاستهداف المتعمَّد للبنية التحتية للمياه خلال حرب الخليج في العامين 1990 و1991، مدى انكشاف هذه الأنظمة خلال فترات الصراع.
بالإضافة إلى المخاوف الأمنية، فإنَّ لتحليةِ المياه عيوبًا بيئية كبيرة. يشهدُ الخليجُ العربي بالفعل تأثيرَ زيادةِ الملوحة الناتجة عن تصريفِ المياه المالحة، مما يضرُّ بالنُظُم البيئية البحرية. بالإضافة إلى ذلك، تستهلكُ تحليةُ المياه كمياتٍ كبيرة من الطاقة وتُساهِمُ في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وهي عاملٌ رئيس في تلوُّث الهواء. ونتيجةً لذلك، تُواجِهُ دول الخليج تحدّياتٍ كبيرة في جودة الهواء.
في حين تتدهور موارد المياه التقليدية، من الضروري ألّا تعتمدُ دولُ الخليج على تحليةِ المياه وحدها. فهي لا تُمّثلُ حلًّا شاملًا نظرًا لتكاليفها الباهظة، وتأثيراتها البيئية، ونقاط ضعفها الاستراتيجية – وكلها تُشكل مخاطر على الأمن المائي في المدى الطويل.
بالإضافة إلى تدهورِ موارد المياه ومحدودية تحلية المياه، لعلّ القضية الأكثر إلحاحًا في ما يتعلق بأمن المياه في الخليج هي الارتفاع المُذهل في الطلب، والذي من المرجح أن يؤدّي إلى زيادةِ الاعتماد إمّا على المزيد من تحليةِ المياه أو استمرار الإفراط في استخراج المياه الجوفية، والتي من المتوقع أن تَنفُدَ بين العامين 2078 و2108. وقد ارتفعَ الاستخدامُ السنوي للمياه في منطقة الخليج من 6 مليارات متر مكعب في ثمانينيات القرن الفائت إلى حوالي 28.5 مليار متر مكعب في العام 2020. وتُشيرُ التوقّعات إلى أنَّ الطلب على المياه سيصلُ إلى حوالي 33.7 مليار متر مكعب سنويًا بحلول العام 2050. وهذا يُشَكّلُ تهديدًا كبيرًا لأمن المياه الإقليمي.
هذه هي المناهج التقليدية للأمن المائي، التي تُبرِزُ هشاشةَ المنطقة. في الوقت نفسه، يجب فَهمُ الأمن المائي من منظورِ الأمن البشري، المُرتَبط ارتباطًا مباشرًا بالصحة العامة، ونُظُم الغذاء، والاستقرار المجتمعي. يُلقي تغيُّرُ المناخ بضغوطٍ هائلة على توافُرِ المياه وجودتها في الخليج، مع ما يترتّب على ذلك من آثارٍ على كلِّ شيء بدءًا من الزراعة ووصولًا إلى الوقاية من الأمراض. فبدون تخطيطٍ مُتكامِلٍ واحتياطيات طوارئ مشتركة، تُواجِهُ الدول الخليجية مخاطرَ مُتزايدة ناجمةً عن الأعطالِ الفنية أو الصدماتِ البيئية.
أظهرت الأحداث الأخيرة -من الحرب الإسرائيلية-الإيرانية إلى الأزمة الديبلوماسية القطرية- مدى سرعة إرهاق الاستجابات الوطنية في غيابِ التضامن الإقليمي. والواضح هو أنَّ تعزيزَ التعاون في قضايا المياه أمرٌ بالغ الأهمية.
على الرُغمِ من نقاطِ الضعف المشتركة والمصالح المشتركة، لم تُحرِز دول مجلس التعاون الخليجي سوى تقدُّمٍ محدودٍ نحو استراتيجيةٍ مُوَحَّدة للمياه. وقد أعاقت مجموعةٌ من العوائق المُستمرّة -الهيكلية والسياسية- تطويرَ أُطُرٍ متكاملة.
على سبيل المثال، انهارت خططُ توحيد محطّات تحلية المياه في جميع أنحاء المنطقة بعد سنواتٍ من النقاش. وبالمثل، كان لاستراتيجية المياه المُوحَّدة لدول مجلس التعاون الخليجي، التي أُشيدَ بها سابقًا باعتبارها خطوةً مهمةً في صياغة سياسات المياه الإقليمية، تأثيرٌ محدود. ورُغمَ أنها حَدَّدَت أهدافًا مهمة، مثل توحيد تعريفات المياه المقرر تنفيذه في العام 2018، إلّا أنها لم تتحَقَّق، مما يُبرِزُ النضال المستمر لتحقيق توحيد المياه.
من القضايا الحرجة الأخرى غيابُ الاتفاقيات الرسمية بشأنِ حَوكَمة المياه العابرة للحدود، على الرُغم من وجود العديد من طبقات المياه الجوفية المشتركة في المنطقة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك طبقة أم الرضومة-الدمام المائية، التي تشترك فيها سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة واليمن، بالإضافة إلى طبقة النيوجين المائية المشتركة بين الكويت والمملكة العربية السعودية والعراق. وتُظهر الأمثلة الدولية بوضوح أهمية اتفاقيات المياه العابرة للحدود في تخفيفِ حدّة النزاعات وضمان الإدارة المُستدامة للموارد. علاوةً على ذلك، لم تُصادق أيُّ دولة خليجية -باستثناء قطر- على اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية لعام 1997، مما يُبرز الغياب شبه التام للمشاركة في هذا الجانب الحيوي من حَوكَمة المياه. ولذلك، فإنَّ تعزيزَ التعاون في هذا المجال ليس ضروريًا فحسب، بل هو أمرٌ مُلحٌّ بشكلٍ متزايد. تُشكّلُ القيودُ المفروضة على التعاون الإقليمي تهديدًا كبيرًا للأمن المائي في الخليج، سواءً تعلّقَ الأمرُ بمشاركة طبقات المياه الجوفية أو غيرها من الموارد.
معوّقات التعاون المائي بين دول الخليج
لا تزالُ السيادة الوطنية تُشكّلُ أكثر العوائق رسوخًا وتأثيرًا على التعاون. ففي دول مجلس التعاون الخليجي، لا تُعامَلُ المياهُ كقضيةٍ تنموية فحسب، بل كمسألةٍ جوهرية للأمن القومي. ونتيجةً لذلك، تتردّدُ الدول في مواءمة سياساتها المائية أو تجميعِ السيطرة على ما يُنظرُ إليه على أنه موارد استراتيجية سيادية. إنَّ هذا التغوُّلَ على المياه يجعلُ الحَوكَمةَ المشتركة غير مقبولة سياسيًا وصعبة تقنيًا. وغالبًا ما تُرفَضُ الجهود المبذولة لإنشاءِ أنظمةِ نقل مياه عبر الحدود أو مرافق تخزين إقليمية خوفًا من أن تُعرَّضَ الدول للضغوط الخارجية أو تجعلها عُرضةً للخطر في أوقات الأزمات. وبالنسبة إلى الدول التي تستورد كل غذائها تقريبًا وتعتمدُ بشكلٍ كبير على تحلية المياه كثيفة الاستهلاك للطاقة، فإنَّ استقلالية المياه ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا باستقرارِ النظام وقدرته على الصمود.
ومن المشكلات الأخرى استمرارُ الحساسيات السياسية وانعدامُ الثقة المُستمِرّ بين الدول الأعضاء. فقد كشفت الأزمة الديبلوماسية بين العامين 2017 و2021 -والتي قطعت خلالها السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها مع قطر- عن تصدُّعاتٍ عميقة داخل مجلس التعاون الخليجي، وأدّت إلى تآكل الثقة في إدارة الموارد المُشترَكة بشكلٍ كبير. وعلى الرُغم من استعادة العلاقات الديبلوماسية منذ ذلك الحين، لا يزالُ انعدامُ الثقة قائمًا. المياه، كموردٍ بالغ الأهمية والحساسية، لا تزالُ مجالًا تتردّدُ فيه الدول بشكلٍ خاص في السعي إلى تحقيق الترابط في ما بينها. وتُعقّدُ التنافسات طويلة الأمد -مثل التنافس الاستراتيجي المتنامي بين السعودية والإمارات على القيادة الإقليمية، ونماذج التنويع الاقتصادي، وتأثير البنية التحتية- محاولات التخطيط المُنسَّق بشكلٍ أكبر.
تُفاقِمُ هذه العقبات السياسية والاستراتيجية تحدّيات مؤسّسية وفنية عديدة، تجعلُ التكامُل مُرهِقًا إداريًا وأقل إلحاحًا اقتصاديًا. ومن أبرز هذه العوائق ضعف آليات التنفيذ. فالالتزامات على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي غير مُلزِمة عمومًا، والتنفيذ غير مُتَّسِق، نظرًا لغياب السلطة المركزية أو أدوات التنفيذ. عمليًا، يُترَكُ التنسيقُ لمنصّاتٍ على المستوى الوزاري ذات وزنٍ مؤسّسي محدود، مما يجعل السياسات مُتفرّقةً ومتابعتها غير مُتساوية.
يفتقرُ مجلس أمانة مجلس التعاون الخليجي إلى آلياتِ التنفيذ، وأيُّ اتفاقٍ يتمُّ التوصُّلُ إليه يعتمدُ كُليًا على الدول المُتعاقدة في اتخاذ قرار التنفيذ. تتمتّعُ جميع دول الخليج باستقلاليةِ إنفاذ الاتفاقيات الإقليمية بناءً على تقديرها الخاص، وقد تفشلُ في تنفيذها من دون مُساءلة. ونتيجةً لذلك، يتوقّفُ التنفيذُ على حُسنِ نيّة الحكومات المُنفردة – وهو نموذجٌ غير مُستدامٍ وغير موثوقٍ به بشكلٍ مُتزايد في السياق السياسي والبيئي المُعقّد اليوم. هذا الاعتماد على الامتثال الطوعي يُضعِفُ بشكلٍ كبير آفاقَ التعاونِ الجاد والمُستدام.
ومن العوامل الرئيسة الأخرى التي تُضعِفُ الزخمَ نحو التكامُل هو تراجُعُ الجاذبية الاقتصادية لعمليات نقل المياه الإقليمية. انخفضت تكلفة تحلية المياه بشكلٍ ملحوظ خلال العقد الماضي، مما جعل محطات تحلية المياه الوطنية أكثر جاذبية من إنشاءِ خطوط أنابيب عابرة للحدود، باهظة التكلفة ومعقّدة سياسيًا. وقد قوّض هذا الفارق المنخفض في التكلفة الأساس الاستراتيجي للترابُط المائي.
علاوةً على ذلك، فإنَّ فوائد تكامل المياه مُوَزَّعة بشكلٍ غير متماثل. فبينما تُعَدُّ خطوطُ الأنابيب الإقليمية مُجدية من الناحية الفنية، كما يتّضح من البنية التحتية مثل خط أنابيب المياه بين تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية، إلّا أنها ستعودُ بالنفع بشكلٍ غير متناسب على دول الخليج الداخلية الأصغر حجمًا مثل الكويت والبحرين وقطر والإمارات. فهذه الدول أكثر عُرضةً لانقطاعات الإمدادات، لا سيما في حالة حدوث انسدادات بحرية أو حوادث في الخليج.
في المقابل، تتمتع سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية بإمكانية الوصول إلى بحار أخرى وتتلقّيان كميات أكبر نسبيًا من الأمطار، مما يمنحهما مرونةً أكبر واعتمادًا أقل على البنية التحتية المشتركة. ونظرًا لهذا التبايُن، سعت الدول الأكثر عُرضةً للمخاطر، وإن كانت أكثر قدرة مالية، إلى حلولٍ أحادية الجانب. على سبيل المثال، تعمل دولة الإمارات على تطويرِ الاحتياطي الاستراتيجي للمياه في صحراء ليوا، بينما تعمل قطر على توسيع خزاناتها الضخمة للأمن المائي. لقد صُمِّمت هذه المشاريع الضخمة لتعزيز الاستقلال الوطني بدلًا من تعزيز الترابُط الإقليمي.
كما إنَّ تقاسُمَ التكاليف وعدم التوافق في الأسعار يُعيقان التكامل. يتطلّبُ إنشاءُ شبكة مياهٍ مشتركة توحيدَ التعريفات والدَعمَ بين الدول ذات أنظمة التسعير المحلية المُتباينة للغاية. وتحظى المياه في المنطقة بدعمٍ كبير، وغالبًا ما تُعتبَرُ حقًا عامًا، وستواجه أيُّ محاولةٍ لتوحيد هياكل التسعير مقاومةً سياسية كبيرة، وستُثيرُ تساؤلاتٍ حول العدالة وتوزيع التكاليف.
وأخيرًا، أدّى التبنّي المتزايد لاستراتيجيات الإمداد البديلة إلى تقليل الحاجة الضرورية والملحّة لاتّباعِ نهجٍ جماعي. ويعملُ العديد من الدول الآن على تعزيز إعادة استخدام مياه الصرف الصحي، والتحوُّل إلى استخدامِ المياه ذات الجودة الهامشية في الزراعة، وهي أساليب تتيح تحقيق الاكتفاء الذاتي التدريجي. وتُمكِّنُ هذه الابتكارات الدول من زيادة الإمدادات بشكلٍ مستقل، وتجنُّب العبء الإداري والتحدّيات السياسية المُرتبطة بالعمل الجماعي. وتُشيرُ مصادر مُتعدّدة إلى أنَّ إمكانيةَ توسيع نطاق إعادة استخدام مياه الصرف الصحي واستخدام المياه ذات الجودة الهامشية في الزراعة أمرٌ مُمكِنٌ وواعدٌ من الناحية التقنية، على الرُغم من استمرار وجود تحدّيات مثل التكلفة، والتصوُّر العام، والأُطُر التنظيمية.
تُعَدُّ هذه المسارات جذّابة بشكلٍ خاص في ظلِّ مناخ الثقة الهشّة السائد بين دول مجلس التعاون الخليجي اليوم، حيث يُنظَرُ أحيانًا إلى التنسيق حسن النية بعين الريبة، لا سيما في حالة العلاقات بين قطر والسعودية أو الإمارات.
تُفسِّرُ هذه التحدّيات مجتمعةً سببَ استمرار دول مجلس التعاون الخليجي، على الرُغم من نقاط الضعف المشتركة، في إعطاء الأولوية للاستراتيجيات الوطنية المُجَزَّأة على التكامل الإقليمي الهادف عندما يتعلق الأمر بالأمن المائي.
حالة التعاون الإقليمي في مجال المياه
من الواضح أنَّ هناكَ عوائقَ رئيسة لا تزالُ تُعيقُ التكامُلَ المائي الهادف على المستوى الإقليمي في جميع أنحاء الخليج، لكن فوائد التعاون تفوق هذه التحديات بكثير. لا تَكمُنُ الحجّةُ هنا في أنَّ التعاونَ الإقليمي في مجالِ المياه يوفّرُ ببساطة مستقبلًا مائيًا أكثر أمانًا لمنطقة الخليج؛ بل إنه أمرٌ مُلِحٌّ وضروري لحماية الأمن المائي في المدى الطويل، وليس مجرّد تعزيزه.
أولًا، في سياق موارد المياه العابرة للحدود، يجب معالجة هذه الحاجة الملحّة. في عالمٍ تتجلّى فيه صراعات المياه منذ سنوات، وفي ظلِّ السياق الأوسع لعدم الاستقرار السياسي والبيئي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من الضروري أن تحذو دول الخليج الأخرى حذو قطر وتُصادِقُ على اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية لعام 1997. سيُشكّلُ التصديق على هذه الاتفاقية أساسًا قانونيًا مُحايدًا لمعالجة النزاعات، والاستغلال الجائر، والإدارة المشتركة، وحماية البيئة، مما يدعمُ كُلًا من القدرة على التكيُّفِ مع تغيُّرِ المناخ والأمن المائي، ويُعزّزُ الاستقرارَ الإقليمي، ويُلزِمُ دول الخليج بالقانون الدولي للمياه، مع الحدِّ من فُرصِ التوتّرات الإقليمية بشأن الإجهاد المائي في المستقبل، وتحويل بؤر التوتر المحتملة إلى فُرَصٍ للتعاون.
ويجب أن يتبعَ ذلك، بدوره، إبرام اتفاقية مياه إقليمية مُلزِمة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي – اتفاقيةٌ تضمنُ الوصولَ السهل والعادل والآمن إلى طبقات المياه الجوفية المشتركة، وتلتزمُ بالمبادئ الأساسية لاتفاقية العام 1997. وتشملُ هذه المبادئ الاستخدام المُنصِف والمعقول، والالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ جسيم، وواجب التعاون. وسيكونُ هذا الإطارُ ضروريًا لتحقيق الأمن المائي في المدى الطويل في منطقةٍ تُعاني أصلًا من ندرة المياه الشديدة. وفي مواجهةِ تغيُّر المناخ وزيادة الضغوط المائية، فإنَّ البنية التعاونية القائمة على القواعد من شأنها أن تشكّلَ حجرَ الزاوية للتعاون السلمي، وتُلزمُ البلدان بتقاسُم موارد المياه بدون اللجوء إلى الصراع، وتضعُ الأساسَ للاستقرار الإقليمي والمرونة في المدى الطويل.
ثانيًا، يُمكِنُ لشبكة تحلية مياه متكاملة إقليميًا، قادرة على إعادة توزيع المياه خلال فترات الانقطاع، أن تُعزِّزَ المرونة. كما إنها ستُوفّرُ أساسًا ملموسًا للتخطيط المُنسَّق للطوارئ، وحماية البنية التحتية، والمساعدة المتبادلة. وبينما قد تكون تحلية المياه حاليًا أقل جدوى اقتصادية عند تطبيقها بشكلٍ فردي، وأنَّ الشبكة الإقليمية تتطلّب تكاليف أوَّلية أعلى للبنية التحتية، فإنَّ قيمتها الاستراتيجية تكمُنُ في فوائدها الجماعية طويلة الأجل.
وكما هو الحال مع مبادرة شبكة الكهرباء الخليجية، التي وُسِّعَت بالفعل لتشمل العراق، يُمكِنُ أن تكونَ شبكة تحلية مياه مشتركة أكثر أهمية، نظرًا للدور المحوري للمياه في استقرار الخليج. في مواجهةِ أزمةِ المناخ، وفي سيناريوهات نقصِ المياه الناجم عن درجات الحرارة القصوى، والتي شهدتها المنطقة بالفعل، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية أو الهجمات الإلكترونية، فإنَّ شبكة إمدادات المياه المترابطة ستُمثّلُ نظامًا احتياطيًا مشتركًا، مما يُساعد على التخفيف من خطرِ النقصِ الحاد في جميع دول الخليج الست.
بالعودة إلى الصراع الإيراني-الإسرائيلي، يُمكِنُ لشبكة تحلية مياهٍ إقليمية أن تُساعدَ على حمايةِ الخليج من تصاعد التوترات وخطر التلوث النووي في الخليج العربي. كما يُمكِنُ لشبكةٍ تمتدُ من ساحل عُمان على المحيط الهندي إلى البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية أن تُوفِّرَ حمايةً بالغة الأهمية لدول مثل قطر والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت.
بالإضافة إلى ذلك، يمكنُ لهذه الشبكة أن تدعمَ تبادُل الخبرات وتقنيات تحلية المياه بالطاقة المتجدّدة. ويمكن لدول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان -وهي دولٌ رائدة بالفعل في هذا المجال- أن تساعدَ على توسيع نطاق هذه الابتكارات في جميع أنحاء المنطقة. وإذا اقترنَ هذا النهجُ بآليةٍ متكاملة لتقاسم الطاقة، فإنه من شأنه أن يُخفّضَ التكاليف الاقتصادية مع الحدِّ من الانبعاثات الكربونية، وتعزيز الأمن المائي والمناخي في الخليج.
وأخيرًا، فإنَّ وجودَ إطارِ عملٍ تعاوني لحوكمة المياه لن يعزّزَ قدرةَ المنطقة على حمايةِ سكانها فحسب، بل سيُساعدُ أيضًا على عزلِ سياسات المياه عن التنافسات السياسية التي غالبًا ما تُعيق التعاون. من الأهمية بمكان إدراك أنَّ دول مجلس التعاون الخليجي قد بدأت بالفعل الابتعاد عن نماذج حوكمة المياه المركزية التي تقودها الدولة. وتُعَدُّ التطوّرات، مثل الطرح العام الأوَّلي لهيئاتٍ حكومية مثل هيئة كهرباء ومياه دبي (ديوا)، والدور المُتنامي للشراكات بين القطاعَين العام والخاص في تشغيلِ وبناءِ محطات تحلية المياه، دليلًا على هذا التحوُّل.
وفي هذا السياق المتطوّر، من شأنِ وجودِ إطارِ عملٍ إقليمي مُوَحَّد لحَوكَمة المياه أن يُعزّزَ ثقةَ المستثمرين بشكلٍ كبير من خلال توفير أنظمة وقواعد منسَّقة واستقرار السياسات في المدى الطويل. من شأن هذا أن يدعمَ بشكلٍ مباشر أهداف الخصخصة في قطاع المياه في المنطقة، ويجذب الاستثمارات العابرة للحدود. وفي نهاية المطاف، من خلال تشجيع مشاركة القطاع الخاص وتحسين الكفاءة، سيُخفّفُ الإطارُ المُنَسَّق العبءَ المالي الثقيل الذي تتحمّله الدول حاليًا، مما يدعم الأهداف الأوسع للتنويع الاقتصادي.
الخلاصة
في الختام، إنَّ الفوائد طويلة الأجل للتعاون الإقليمي في مجال المياه في الخليج العربي واضحة ومُلهمة. بدءًا من تعزيز الأمن المائي والقدرة على التكيُّف مع تغيُّر المناخ، وصولًا إلى زيادة ثقة المستثمرين وتقليل الضغوط المالية، يوفّرُ النهجُ المُوحَّد عوائدَ واسعة النطاق ودائمة. ويُمكِنُ للتنسيق الفعّال للسياسات بين دول مجلس التعاون الخليجي أن يُعزّزَ هذه المزايا، من خلالِ إنشاءِ أُطُر عملٍ مشتركة، وأنظمة وقواعد تنظيمية مُنَسَّقة، وبنية تحتية متكاملة تُعزِّزُ مجتمعةً الأمن المائي الإقليمي.
في المقابل، تتزايدُ تكلفةُ النهج المُجَزَّأة والأحادية الجانب – من الاستثمارات المكرَّرة والاستجابات غير المُتَّسقة للأزمات إلى الفرص الضائعة للابتكار التكنولوجي. فبدون التعاون الإقليمي، تظلُّ دول الخليج العربية أكثر عُرضةً للصراعات والمخاطر النووية وانقطاعات إمدادات المياه الشحيحة أصلًا. إنَّ العملَ الجماعي يُوَفِّرُ مسارًا أكثر أمانًا للمضي قُدُمًا.
في منطقةٍ تُواجِهُ ضغوطًا مناخية متزايدة ومخاطرَ مُتعلِّقة بالمياه، فإنَّ ثمنَ العملِ مُنفردًا باهظٌ للغاية. الآن هو الوقتُ المُناسب لدول الخليج العربي للتغلُّب على العوائق القديمة والالتزام بنموذج تعاون استشرافي. فمستقبلُ الأمن المائي في المنطقة يعتمدُ على ذلك.
- ناصر السيد هو باحث دكتوراه في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، متخصص في حوكمة الموارد الطبيعية، والسياسات البيئية، وتغيُّر المناخ في منطقة الخليج العربي والجنوب العالمي. وهو زميل سياسات في مؤسسة “بورس آند بازار” ومبادرة رحلة، ويُركّز على النمو الاقتصادي الأخضر وإدارة الموارد في هذه المناطق.
- جون كالابريس هو زميل أول في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، ومحرّر مراجعات الكتب في “مجلة الشرق الأوسط” (Middle East Journal).