عُمرٌ جديدٌ يُكتَبُ للجمهورية الإسلامية: كَيفَ عزَّزَت الضرباتُ الأميركية-الإسرائيلية قوّةَ النظامِ الإيراني

من الواضح  أن إيران لن تستسلم، ومن غير المرجح أن تتصرَّفَ بشكلٍ مختلف عما كانت عليه سابقًا. هذا يعني أنَّ إسرائيل قد تُقرِّرُ شنَّ هجومٍ جديد، وقد تردُّ إيران بسرعة. الصراعُ بين هذين الطرفَين لم ينتهِ بعد، وعلى الشرق الأوسط أن يتوقَّعَ المزيد من الاضطرابات في المستقبل.

المرشِدُ الأعلى علي خامنئي: نظامه انتعش من جديد؟

محمد آية الله طبار*

يُعَدُّ هجومُ إسرائيل في 13 حزيران (يونيو) على إيران، والذي صُمِّمَ لضربِ برنامج طهران العسكري والنووي، من أسوَإِ النكساتِ التي شهدتها الجمهورية الإسلامية على الإطلاق. ففي أقلِّ من أسبوعين، نجح الجيش الإسرائيلي في اغتيال العشرات من كبار قادتها وعلمائها النوويين، كما دَمّرَ العديد من أنظمة دفاعها الجوي وألحق أضرارًا جسيمة بمنشآتها النووية. وقصفت إسرائيل البنية التحتية للطاقة في إيران، والقواعد العسكرية، ومواقع إنتاج الصواريخ المختلفة. كانت الضرباتُ دقيقة، مما يشير إلى أنَّ الاستخبارات الإسرائيلية اخترقت أعلى مستويات القوات المسلحة والحكومة الإيرانية. ومع اقتراب نهاية الهجمات، انضمّت الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، أصبح الجيش الإيراني الآن أضعف مما كانَ عليه قبل شهرٍ واحدٍ فقط.

ولكن بدلًا من الانهيار تحتَ وطأةِ الصدمة، يبدو أنَّ الجمهورية الإسلامية قد اكتسبت فرصةً حياةٍ جديدة. لقد أثارت الضربات حالةً من التضامن الشعبي، إذ أدانها الإيرانيون ورحّبوا بردِّ الحكومة. نعى النظام الإيراني مسؤوليه وقادته الراحلين، لكنه سرعان ما عيّن بُدَلاءً لهم. وهكذا، زادت هذه العمليات من تماسك الأمة الإيرانية، وعزّزت نفوذَ الحرس الثوري الإسلامي.

من غير المرجح أن يُصبِحَ المجتمعُ الإيراني أكثر تشدُّدًا في التوجُّه الإسلامي ردًّا على الضربات. وللحفاظ على الاستقرارِ الداخلي، قد تتسامح الحكومة مع مزيدٍ من الحريات الاجتماعية. لكن من المتوقع أن يُصبحَ النظامُ أكثر قمعًا، ويعتقل كل من يراه معارضًا أو خائنًا (حسب مقاييسه). والأهم من ذلك، قد يكون الإيرانيون أكثر استعدادًا لقبول الدولة كما هي. ويمكن للبلاد الآن أن يكونَ لديها عقدٌ اجتماعي جديد، عقدٌ يُعطي الأولوية للأمن القومي فوقَ كلِّ اعتبار.

مع ذلك، لا تزالُ استراتيجيةُ الأمن القومي الإيرانية بدون تغييرٍ يُذكَر. قد تكون الجمهورية الإسلامية أضعف في بعض النواحي، لكن قادتها فخورون بصمودهم في وجه الهجمات الإسرائيلية والأميركية. إنهم يرون في الأضرارِ الجسيمة التي ألحقوها بمدن إسرائيل إنجازًا كبيرًا. ولا يزالون يعتقدون أنَّ إظهارَ العزيمة في مواجهة العدوان هو السبيلُ الوحيد لردعِ خصومهم. وهكذا، سيشرع القادة الإيرانيون في إعادة بناء شبكة وكلائهم في الإقليم: ما يُسمى ب”محور المقاومة”. وستتراجع ثقتهم بالديبلوماسية أكثر من ذي قبل. بدلًا من ذلك، سيُمَهِّدون الطريق لحربِ استنزافٍ طويلة مع إسرائيل، واحتمالية اندلاع حرب نووية.

إتَّحِدوا وقاتلوا

في الأسابيع التي سبقت هجوم إسرائيل على إيران، بدا وكأنَّ طهران وواشنطن قد تتوصّلان إلى حلٍّ سلمي لنزاعهما حول البرنامج النووي الإيراني. ولأوّل مرة منذ التخلّي عن خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2018، وهي الاتفاق النووي الذي توصّلت إليه إيران مع الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى قبل ثلاث سنوات، أشار فريقُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى استعداده لقبولِ ترتيبٍ يسمحُ لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 3.67% -وهو المستوى الذي وافقت عليه الولايات المتحدة بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة- بدلًا من عدم التخصيب على الإطلاق. من جانبها، أبدت طهران انفتاحها مجدّدًا على التحدث مباشرةً مع المسؤولين الأميركيين بدلًا من التحدُّث حصريًا عبر وسطاء. واعتقدَ بعض المحللين والمتابعبن أنَّ اتفاقًا نوويًا جديدًا قد يكون وشيكًا.

لكن مع تقدُّمِ المفاوضات، بدأت إدارة ترامب التراجُعَ عن مرونتها الأوّلية، مُتَذبذبةً بين المطالبة بعدم التخصيب تمامًا والتفكيك الكامل للبنية التحتية النووية الإيرانية. في غضون ذلك، عملت إسرائيل على تدهور موقف طهران بشكلٍ مطرد من خلال ضرب “حزب الله” (أقوى شريك لطهران)، وتمزيق “حماس”، وتدمير بعض الدفاعات الجوية الإيرانية. وقد ازدادت الجمهورية الإسلامية ضعفًا في كانون الأول (ديسمبر) 2024، عندما أطاحَ المتمردون الرئيس السوري بشار الأسد – وهو حليف إيراني مخلص آخر. في النهاية، سادَ شعورٌ بالاستسلام في طهران: أصبح العديد من المسؤولين والمحللين على حدٍّ سواء يعتقدون أنَّ إسرائيل أو الولايات المتحدة أو كليهما ستهاجم – سواء تمَّ التوصُّلُ إلى اتفاقٍ أم لا.

مع ذلك، واصلت طهران تعامُلها بحذر. كانت تعلم أنَّ شعبها يغلي بعد عقودٍ من القمع وأنها تُخاطرُ بمزيدٍ من الغضب الداخلي إذا أثارت مواجهة مباشرة مع واشنطن. وهكذا، التزم المسؤولون الإيرانيون بطاولة المفاوضات، على أملِ تجنُّبِ أيِّ هجوم، في الوقت الذي يحاولون تعزيز دعمهم المحلي – على سبيل المثال، من خلال تعليق تطبيق القانون غير الشعبي الذي يُلزِمُ النساء بتغطية شعرهن بالكامل في الأماكن العامة، وتخفيف القيود الأخرى المفروضة على حرية التعبير.

ومن غير الواضح إلى أيِّ مدى ساعدت هذه الخطوات الحكومة عند سقوط القنابل الإسرائيلية الأولى. في البداية، افترضَ العديدُون من الإيرانيين العاديين أنَّ الصراعَ سيكون مواجهةً قصيرة بين حكومتين من غير المرجح أن تؤثّر فيهم أو تصل إليهم. ولكن مع تكثيف الضربات، واستهدافها للبنية التحتية وقتلها للمواطنين العاديين، بدأ الكثيرون من الإيرانيين يستنتجون أنَّ الهجمات لم تكن مجرّدَ حربٍ ضد النظام، بل هي حربٌ ضد الأمة نفسها. تفاقمت هذه المشاعر بعد أن حثَّ ترامب والمسؤولون الإسرائيليون سكان طهران على إخلاء منازلهم. وقالت سيدة من سكان طهران لصحيفة “فاينانشال تايمز”: “لستُ من مؤيدي الجمهورية الإسلامية، لكن حان الوقت الآن لإظهار التضامن مع إيران. يدعونا كلٌّ ترامب ونتنياهو “لإخلاء وترك بيوتنا” وكأنهما يهتمّان بصحتنا. كيف يُمكن لمدينة يسكنها عشرة ملايين نسمة أن تُخلى؟ أنا وزوجي لن نُمهّدَ الطريق لهما. فليقتلونا”.

بدلًا من إثارةِ غضبٍ شعبي ضدّ الدولة الإيرانية، أدّت الهجمات إلى اندلاعِ موجةٍ من المشاعر القومية. وبينما صدّت الجمهورية الإسلامية هجوم إسرائيل وردّت بصواريخ باليستية من جانبها، لاقى ردُّ النظام ترحيبًا حارًا من الكُتّاب والفنانين والمغنين الإيرانيين، وكثيرون منهم عادةً ما يكونون غير سياسيين أو معارضين للحكومة. شبّهَ المعلقون الإيرانيون من مختلف الأطياف السياسية الهجومَ الإسرائيلي بغزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفياتي في العام 1941، واصفين الصراع بأنه حربٌ وطنية إيرانية: نضالٌ وطني يتجاوز السياسة. حتى أنَّ بعضَ المعارضين القدامى والسجناء السياسيين السابقين انضمَّ إلى هذا الحشد. على سبيل المثال، أدانَ مئاتُ النشطاء السياسيين ونشطاء الحقوق المدنية -وكثيرٌ منهم سُجِنَ سابقًا- الهجمات الإسرائيلية في بيانٍ مشترَك. وجاء في البيان: “دفاعًا عن وحدة أراضي وطننا واستقلاله وقدراته الدفاعية الوطنية… نقفُ مُتَّحدين وحازمين”. وقد حرصت هذه الجهات الفاعلة على الحفاظ على مسافةٍ من النظام. لكن تأكيدها على التضامن تماشى مع رسالة الحكومة. وهكذا، خففت الضربات الإسرائيلية بعض الضغط الداخلي على الجمهورية الإسلامية.

ومن المرجح أن تستغلَّ الحكومة الإيرانية هذه الاستراحة لتسريع وتيرة تسليحها استعدادًا لصراعٍ طويل الأمد. ونظرًا لتراجع الضغوط الداخلية، ستُوجِّهُ مواردها إلى الحرس الثوري الإيراني وغيره من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، لا سيما وأنَّ الكثيرين في طهران يتوقّعون انهيارَ وقف إطلاق النار الهشّ في أيِّ لحظة. لكنها ستواجه صعوبة في إثباتِ قدرتها على التعامل مع حربٍ أخرى، لا سيما بالنظر إلى مدى اختراق عملاء المخابرات الإسرائيلية لصفوفها. واتَّهمَ النقادُ النظامَ بإعطاءِ الأولوية للولاء الإيديولوجي على الكفاءة، مما سمح لأفرادٍ يردّدون شعاراتٍ مُتشدِّدة بالصعود في صفوفه مع إخفاء ولاءاتهم الحقيقية. ويشيرُ آخرون إلى المفارقة المتمثّلة في أنه بينما كانت الحكومة تُركّزُ على تطبيقِ قانون الحجاب وقمعِ المعارضين السياسيين بحجّةِ مكافحة التخريب الأجنبي، كان خصومها الحقيقيون يتسلّلون بهدوء إلى أكثر مؤسّساتها حساسية.

أثارت التداعيات الناجمة عن ذلك دعواتٍ للتحقيق والمساءلة، بل وحتى استقالة كبار المسؤولين المُتَّهَمين بالإشراف على هذا الفشل الاستخباراتي الكارثي. ولم يتّضِح بعد ما إذا كان أيُّ مسؤولٍ كبير سيواجه عواقب فعلية. لكن يبدو أنَّ هناكَ ردَّ فعلٍ واحد مؤكّد: من المرجح أن تُطلِقَ طهران حملاتَ تطهيرٍ داخلية، وتُوسِّعُ نطاقَ جهاز المراقبة، وتعتمدُ على المواطنين العاديين للمشاركة في رَصدِ الأنشطة المشبوهة والإبلاغ عنها.

مع ذلك، يسعى قادةُ البلاد إلى الحفاظِ على وحدةِ المجتمع. وقد بدأ الخطباءُ الموالون للحكومة في جميعِ أنحاءِ البلاد فجأةً دَمجَ الأغاني الوطنية الأيقونية التي تعود إلى ما قبل الثورة في الطقوس الدينية الشيعية – وهو مزيجٌ من القومية والإسلاموية تَجَنَّبَهُ النظام تاريخيًا، لكنه يبدو الآن حريصًا على تبنّيه. وبالمثل، تستحضرُ وسائلُ الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة ومسؤولو البلديات الآن الأساطير الفارسية التي تعودُ إلى ما قبل الإسلام في رسائلهم، رابطين شخصياتٍ أسطورية بقادة الحرس الثوري الإيراني الذين قُتلوا. وقد أثارَ هذا المزيجُ ردودَ فعل مُتباينة، حيث يرى العديد من الإيرانيين المتشكّكين أنَّ هذه المبادرات مجرّد انتهازية. ومع ذلك، ينضمُّ مواطنون آخرون إلى هذا التيار، بعد أن خلصوا إلى ضرورة مواجهة هذه التهديدات الخارجية بالحكومة التي يملكونها، لا تلك التي يريدونها.

يعتقدُ بعضُ الإيرانيين أنه لضمان استمرار التماسُك الاجتماعي الحالي في المستقبل، سيتّخذُ كبار المسؤولين خطواتٍ نحو الاعتدال. فالحكومة، في نهاية المطاف، أقرّت بدعم الإيرانيين الذين عارضوا النظام تاريخيًا، وتعهدت، ضمنيًا، بمعاملةٍ أفضل للشعب، مُقِرَّةً بأخطاءِ الماضي. قد تُفرج الحكومة عن السجناء السياسيين وتُصلح علاقاتها مع الشخصيات المعتدلة المهمّشة، بمن فيهم الرئيسان السابقان محمد خاتمي وحسن روحاني، لإبراز الوحدة الوطنية. كما قد تُواصِلُ السماح للنساء بالخروج بدون حجاب، وتسمح بحرية أكبر في التعبير. لقد همّشت بالفعل بعض المتشددين، الذين دفعوا إيران لمهاجمة إسرائيل قبل 13 حزيران (يونيو). (جادلَ بعض هذه الشخصيات والمحللين بأنَّ البلاد في حالة حرب بالفعل، وبالتالي فهي بحاجة إلى توجيه ضربة، مع أنَّ القيام بذلك قد يُفاقم انزعاجَ وغضب شعبٍ مُنقَسِم أصلًا).

لكن لا يزالُ ما إذا كان وَعدُ الحكومة بالاعتدال يُشير إلى انفتاحٍ حقيقي غير واضح. يعتقدُ كثيرٌ من الإيرانيين أنَّ الحكومة ستُعزّزُ موقفها المتشدد، معتبرين المصالحة محفوفة بالمخاطر في زمن الحرب، ومتوَقِّعين أن تُمكّنها موجة التضامن الوطني من ممارسة المزيد من القمع مع الحدِّ من ردود الفعل السلبية. على سبيل المثال، تُعدِمُ الدولة من دون محاكمة من تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل. وقد أقامت نقاط تفتيش في المدن الكبرى لاعتقال المشتبه بهم بالتعاون، كما فعلت خلال ثمانينيات القرن الماضي – وهي آخر مرة تعرّضت فيها إيران لهجمات مماثلة. ويمكن للنظام أيضًا أن يُوفِّقَ بين هذه الممارسات، فيُطلقُ العنان لبعضها ويُشدّدُ القيودَ في جوانب أخرى. فالإيرانيون، في نهاية المطاف، مُترَدِّدون بشأن رد فعل الدولة. قال أحد سكان طهران لصحيفة “فاينانشال تايمز”، مُشيرًا إلى مُتطوِّعي الحرس الثوري الإيراني شبه العسكريين: “إنه لأمرٌ مُقلق، ولكنه مُطَمئن إلى حدٍّ ما أن أراهم بالقرب من منزلي. لا يُمكنني أبدًا أن أتخيّلَ رؤية الباسيج والشعور بالسعادة”.

واصلوا المسار

يركز المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون، بطبيعة الحال، على ما إذا كانت طهران تُشكل تهديدًا لهم أكثر من كونها تُشكل تهديدًا لشعبها. وبعد عام ونصف من الصراع المباشر وغير المباشر، يعتقد الكثيرون منهم أنَّ النظام لم يَعُد يُمثّلُ تهديدًا يُذكر كما كان من قبل. ووفقًا لهؤلاء، فإنَّ استراتيجية إيران العدوانية في الشرق الأوسط قد باءت بالفشل، نظرًا لانهيار “حزب الله” في لبنان، ونظام الأسد في سوريا، و”حماس” في غزة، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بالجيش الإيراني نفسه.

مع ذلك، يرى الحرس الثوري الإيراني الوَضعَ بشكلٍ مختلف. يعتقدُ قادته أنَّ استراتيجية الدفاع الأمامي للبلاد -محاربة الخصوم من خلال شنِّ حربٍ غير متكافئة بالقرب من حدودهم أو داخلها بدلًا من الأراضي الإيرانية- قد أثبتت جدواها. نجحَ هذا النهج في ردعِ إسرائيل والولايات المتحدة عن شنِّ هجماتٍ لسنوات، وبالتالي منحَ طهران وقتًا حاسمًا لبناء البنية التحتية الصناعية والخبرة التقنية والمرونة المؤسّسية التي يُمكنها الآن استخدامها لإعادة بناء برامجها النووية والصاروخية الباليستية بسرعة، حتى بعد القصف المُدمِّر.

لطالما جادلَ قادةُ الحرس الثوري الإيراني لسنوات بضرورة نقل المعركة إلى الخارج لحماية الوطن، زاعمين، على سبيل المثال، أنَّ الفشل في دعم الأسد في دمشق سيؤدّي إلى ضرباتٍ في طهران. وقد ثبتَت الآن صحّةُ هذا الزعم. فقد صمّمت إيران وضعها الإقليمي لخلقِ طبقاتٍ دفاعية مُتمثّلة في شركائها المختلفين، معتقدةً أنَّ هذه الشبكة ستُجبِرُ خصومها على اختراق جبهات متعددة قبل ضرب الوطن. وهذا، بالطبع، ما فعلته إسرائيل بالضبط. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ مسارَ الحرب يسمح للحرس الثوري الإيراني وحلفائه المُتشدِّدين في النظام بتأكيد نجاح استراتيجيتهم. من السهل دحض هذه الحجة: فالدفاعُ المُتدرِّج أخَّرَ، لكنه لم يمنع، الهجمات على الأراضي الإيرانية. لكن بالنسبة إلى طهران، فإنَّ هذا التأخير هو جوهرُ المسألة: فقد منح الحكومة وقتًا للاستعداد، والتعلُّم من تكتيكات إسرائيل، وتصوير الحرب على أنها صراعٌ وطني وجودي.

لذلك، من غير المرجح أن تتصرَّفَ إيران بشكلٍ مختلف كثيرًا بعد هذا الهجوم، على الرُغم من أنها ستجري بعض التعديلات لتعكس الحقائق التي برزت خلال العام والنصف الماضيين. يمكنُ للنظام أن يتطلَّعَ إلى إعادة تشكيل “محور المقاومة” من خلال إعادة بناء “حزب الله” كقوة صغيرة أكثر مرونة وأقرب إلى شكله الأصلي بدلًا من شبه الجيش الذي أصبح عليه. (سيظل يُجَهِّزُ المجموعة بقدرات صاروخية متطوّرة). في سوريا، ستحاول طهران الاستفادة من فراغ السلطة الحالي من خلال تمكين الجماعات المسلحة الشعبية. لن تكونَ أيٌّ من هاتين الخطوتين سهلة: “حزب الله” تحت ضغطٍ من المسؤولين اللبنانيين وغالبية الشعب اللبناني ولا يزال يُعاني من القصف الإسرائيلي، والحكومة السورية الجديدة، التي تُعزّزُ السيطرة على أراضيها، مُعادية لإيران وبدأت الاقترابَ والتقرُّب من إسرائيل. ومع ذلك، ترى طهران فُرَصًا. لقد غذّت الحربُ في غزة غضبًا واسع النطاق تجاه إسرائيل في جميع أنحاء المنطقة، مما دفع من القاعدة إلى القمة إلى تجديد ودعم المقاومة لعدو الجمهورية الإسلامية. في الواقع، فإنَّ صمودَ إيران وضرباتها الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية قد أكسبها أيضًا إعجابًا بين العديد من السكان العرب.

في غضون ذلك، تُبدي طهران تشكُّكًا أكبر في الديبلوماسية أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. فقد أضعفت صدمة الهجمات -التي شملت اغتيال قادة كبار في الحرس الثوري الإيراني ومحاولة فاشلة لاغتيال علي شمخاني، المفاوض النووي الرئيس- أي مصداقية كانت تتمتع بها الضمانات الأميركية. في الماضي، لم تكن إيران تثق بواشنطن، لكنها رأت في المحادثات سبيلًا محتملًا لتخفيف العقوبات وخفض التصعيد. أما الآن، فلن يفترضَ المسؤولون الإيرانيون أنَّ الولايات المتحدة ستنتهك أي اتفاق فحسب، بل سيفترضون أيضًا أنَّ المفاوضاتَ غطاءٌ للإكراه أو العمل العسكري، نظرًا لأنَّ الهجومَ الإسرائيلي وقع قبل يومين فقط من المحادثات المقرَّرة بين طهران وواشنطن. ومع ذلك، من المرجح أن تظلَّ إيران منخرطة، جامعةً أقصى درجات المقاومة للنظام الإقليمي وأقصى درجات الديبلوماسية، لتوضيح خطوطها الحمراء وكشف ما تعتبره سوء نية الغرب. وبذلك، تستطيع طهران تبرير سلوكها أمام الجمهورين الداخلي والخارجي على حد سواء، والضغط على إسرائيل والولايات المتحدة.

مع ذلك، لا يبدو أن إيران تُسرع نحو امتلاك القنبلة. بتجاوزها العتبة النووية، تُثبت طهران صحة الاتهامات التي طالما نفتها، وتُخاطر بإشعال صراع أوسع مع القوات الأميركية. كما إنَّ إيران لا ترى في الأسلحة النووية بديلًا من جيشٍ تقليدي قوي. فهي دولة كبيرة ذات حدود مخترقة مع العديد من الدول المجاورة غير المستقرة. وهي متورِّطة في نزاعاتٍ إقليمية مُتداخلة حول حقول النفط والموارد المائية والحدود البحرية. وتتفاقم هذه التحديات الخارجية بسبب نقاط الضعف الداخلية لإيران، بما في ذلك التوترات العرقية المُزمِنة على طول محيطها. ولها تاريخٌ طويل من الغزوات والتدخلات الأجنبية. وهناك سببٌ وجيه وراء استثمار أجيال من القادة الإيرانيين بكثافة في بناء جيش تقليدي، بغض النظر عن نوع وماهية النظام.

بدلًا من الاندفاع نحو امتلاك قنبلة نووية، من المرجح أن تُواصِلَ طهران سعيها وراء الغموض النووي، بتعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومن شأن هذا أن يضغط أيضًا على الوكالة الدولية للطاقة الذرية للعمل والضغط ضد شنِّ هجماتٍ مستقبلية على إيران، لأنَّ الوكالة لا تستطيع استئناف عمليات التفتيش إلّا إذا لم تعد المواقع النووية الإيرانية تحت التهديد. تعتقد طهران أنَّ هذا النهج، الذي يُخفي نشاطها في التخصيب، سيُتيح لها مرونة أكبر للمضي قدمًا في برنامجها بدون إشعار. وترى طهران أنَّ هذا التعليق جزاءٌ عادلٌ للوكالة: إذ يشعر المسؤولون الإيرانيون بالغضب لعدم إدانة الوكالة للهجمات الإسرائيلية والأميركية، رُغمَ أنَّ إيران طرفٌ مُوقّع على معاهدة حظر الانتشار النووي (التي هددت بالانسحاب منها)، والتي تضمن لأعضائها الاستخدام السلمي للطاقة النووية. في الواقع، يعتقد المسؤولون الإيرانيون أنَّ الوكالة زوَّدت إسرائيل والولايات المتحدة بمعلومات استخباراتية مفيدة، واستُغِلَّت لتبرير الهجمات. وكما أشارت طهران، أصدرت الوكالة تقريرًا قبل أيام قليلة من الهجوم، أعلنت فيه أنَّ تعاونَ إيران مع مفتشي الوكالة “لم يكن مُرضيًا”.

هذا لا يعني أنَّ إيران ستصنع سلاحًا نوويًا في نهاية المطاف. ولكن ما إذا كانت البلاد ستحصل على الردع النهائي، ومتى ستحصل عليه، يظلُّ سؤالًا مفتوحًا. إلّا أنه من الواضح هو أن إيران لن تستسلم، ومن غير المرجح أن تتصرَّفَ بشكلٍ مختلف عما كانت عليه سابقًا. هذا يعني أن إسرائيل قد تُقرِّرُ شنَّ هجومٍ جديد، وقد تردُّ إيران بسرعة. إنَّ الصراعَ بين هذين الطرفَين لم ينتهِ بعد، وعلى الشرق الأوسط أن يتوقّعَ المزيد من الاضطرابات في المستقبل.

Exit mobile version