إلى أيِّ مدى قد يَنخَفِضُ ​​سعرُ الدولار؟

يبدو أن الأزمة المالية في الولايات المتحدة ستتعمّق، خصوصًا بعدما وافقَ مجلسَي الشيوخ والنواب على موازنة الرئيس دونالد ترامب لعام 2025 التي ستزيد العجز 3,3 تريليونات دولار على مدى العشر سنين المقبلة. ولن يحدثَ أيُّ شيءٍ لمواجهتها حتى تحدث أزمةٌ تَصدُمُ الرأي العام وتُجبره على إدراك الأبعاد الكاملة للمشكلة. لقد استغرق الاقتصاد الأميركي عقدًا من الزمن ليتعافى من أزمة عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. وقد تكون هذه المرة أسوأ.

الدولار إلى أين مع دونالد ترامب؟

كينيث روغوف*

لا شك أنَّ ريتشارد نيكسون يُمثّلُ أقربَ تشبيهٍ لدونالد ترامب في ولايته الثانية في ما يتعلق بتغيير نظام سعر الصرف العالمي. فقد أدّى قرارُ نيكسون بتعليق ربط الدولار الأميركي بالذهب في 15 آب (أغسطس) 1971 إلى قلبِ النظامِ النقدي العالمي رأسًا على عقب، وأنذَرَ بعقدٍ كارثي من التضخُّمِ المُرتَفِع وانخفاضِ النمو، وضَعُفَ الدولار مع فكِّ ارتباطِ الدول الأوروبية بالعملة الأميركية. ورُغمَ أنَّ الفصلَ الأخير من سياسات ترامب الاقتصادية الدولية لم يُكتَب بعد، إلّا أنَّ حالةَ عدم اليقين التي أثارتها حربه الجمركية تُشيرُ إلى خطرٍ كبير يتمثّلُ في أن يُصبِحَ الدولار والتضخم والنمو ضحايا مرةً أخرى. هذه المرة، ستكون كتلة الرنمينبي -الصين والعديد من الدول التي تُعَدُّ شركاءً تجارييين رئيسيين، لا سيما في شرق آسيا، وكذلك في أميركا اللاتينية وأفريقيا- هي التي تنفصل عن ارتباطها الوثيق بالدولار، مع اكتساب كتلة اليورو القائمة بالفعل حصّة سوقية على حساب الدولار. كما إنَّ العملات المُشَفَّرة تُضعِفُ بالفعل هيمنة الدولار في الاقتصاد غير الرسمي، الذي يُمثِّلُ ما يصل إلى 20% من الدخلِ العالمي.

للإنصاف، كان كلٌّ من نيكسون وترامب يواجهان تحدياتٍ للوضع الراهن للدولار حتى قبل أن يُقرِّرا، كلٌّ على طريقته، تفجيرَ الأمور. عندما تولّى نيكسون الرئاسة في العام 1969، كان الدولار في أوجِ قوّته لمدة 25 عامًا منذ أن وافقت قوى الحلفاء على إطارِ عملٍ جديد لسعر الصرف في اجتماعٍ تاريخي في العام 1944 في “بريتون وودز”، ولاية نيو هامبشاير. (أدّى الاجتماع أيضًا إلى إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي). ومن المعروف أنَّ المندوب البريطاني آنذاك جون ماينارد كينز اقترحَ عملةً فوق وطنية، وهي البانكور (Bancor)، كبديلٍ من الدولار، لكنَّ الأميركيين رفضوا اقتراحه، إذ كانوا، في نهاية المطاف، يمتلكون جميع الأوراق نظرًا لتفوُّق الاقتصاد الأميركي على جميع الاقتصادات الأخرى بنهاية الحرب العالمية الثانية.

بدلًا من ذلك، وَضَعَ ما يُسمّى بنظام “بريتون وودز” الدولارَ كأساسٍ له، وألزَمَ جميع العملات الأخرى في النظام برَبطِ أسعارِ صرفها بالعملة الأميركية. كانت واشنطن حرة في إدارة سياستها النقدية كما تراه مناسبًا، مع وجودِ تحذيرٍ رئيسي واحد يتمثّلُ في أنه إذا رغبت البنوك المركزية أو وزارات المالية الأجنبية في عرض حيازاتها من الدولار الأميركي (معظمها على شكلِ سندات خزانة بفائدة، وليس عملة مادية) مقابل الذهب بسعر 35 دولارًا للأونصة، فإنَّ الولايات المتحدة كانت مُضطرّة لاستيعابها. تجدُرُ الإشارة إلى أنَّ جُزءًا كبيرًا من العالم، بما في ذلك ليس فقط الدول الشيوعية مثل الصين والاتحاد السوفياتي، ولكن أيضًا معظم العالم النامي، ظل خارج هذا النظام.

نجحَ هذا الترتيب بشكلٍ ملحوظ على الرُغمِ من الحاجة العرضية إلى إعادةِ تنظيمٍ متواضعة للعملات، بالإضافة إلى أزمات الديون المُتكرِّرة في المملكة المتحدة التي تطلّبت سلسلةً من عمليات الإنقاذ. ازدهرت الاقتصادات الكبرى. ومع ذلك، كانت لنظامِ رَبطِ الدولار بالذهب بعد الحرب العالمية الثانية نقاطُ ضُعفٍ كامنةٍ عميقة. فمع نموِّ أوروبا واليابان، ازدادت حاجتهما إلى الاحتفاظ باحتياطياتٍ من أصول الدولار الأميركي؛ فقد احتاجتا إلى “القوة النارية” لمواجهة المُضارِبين الذين قد يُحاولون الإطاحة بربط أسعار الصرف. وعلى الرُغمِ من أنَّ الحكومة الأميركية التزمت عمومًا بضَخِّ الديون، إلّا أنَّ احتياطياتها من الذهب لم تَنمُ بالمعدّلِ نفسه، مما يعني أنَّ الدعمَ الذهبي للدولار أصبح يتضاءل أكثر فأكثر. في الواقع، تنبّأ روبرت تريفين، الخبير الاقتصادي في جامعة ييل، في شهادةٍ أمام الكونغرس في العام 1959، بأنه إذا فقدت الحكومات الأجنبية ثقتها بالدولار وبدأت محاولةَ تداوُلِ سندات الخزانة، فستكون النتيجة تهافُتًا تقليديًا على سحب الودائع من البنوك، مما سيؤدّي إلى انهيار النظام المالي.

استغرقت نبوءةُ تريفين أكثر من عقدٍ لتتحقّق، ويعودُ ذلك جُزئيًا إلى أنَّ النظامَ كان يعملُ بكفاءةٍ عالية لجميع المشاركين الرئيسيين، ولم يرغب أحدٌ في تحفيزِ تفكّكه. بمرور الوقت، بدأت عوامل عديدة تُقوِّضُ الثقة في النظام. أوّلًا، بدأت أسواق رأس المال العالمية تتوسّعُ وتزدادُ سيولتها، ما أدّى إلى نشوءِ جيشٍ أكبر من المُضارِبين الأفراد الذين قد يَتَّحِدونَ ضد الدولار. ثانيًا، وربما الأهم، بدأت الولايات المتحدة تُعاني من التضخُّم، الذي، على الرُغمِ من اعتداله نسبيًا، كان ذا أهمية تراكُمية لأنه قلّلَ من القوة الشرائية للدولار وجعلَ السعر الذي حددته الولايات المتحدة للذهب يبدو صفقة رابحة. (في أوائل حزيران/يونيو الماضي، تجاوزت قيمة أونصة الذهب 3,300 دولار أميركي، أي ما يقرب من مئة ضعف السعر المحدد في ظلِّ “بريتون وودز”).

ومع ذلك، ورُغمَ الإغراء، كانت الحكومات الأجنبية مُتردّدة في المخاطرة بإسقاط النظام، الذي كان يعملُ بكفاءةٍ عالية لاقتصاداتها وشعوبها. بدأت دولٌ عدة، وخصوصًا فرنسا، بسحب دولاراتها نقدًا، لا سيما بعد أن اتَّضَحَ أنَّ الولايات المتحدة، تحتَ وطأة دفع تكاليف برامج الرعاية الاجتماعية التي أطلقها الرئيس ليندون جونسون، وتكاليف حرب فيتنام المُتفاقمة، كانت تكافح لوقف زحف التضخّم. وهكذا، كان قرارُ نيكسون بإلغاء آلية “بريتون وودز” لسعر الصرف الثابت بمثابة استسلامٍ للمَحتُوم. ومع ذلك، جاء توقيته صادمًا للغاية، لا سيما وأنَّ معظم الخبراء اعتقدَ أنَّ النظام قادرٌ على الصمودِ لفترةٍ أطول.

بعد تعليقه لقابلية تحويل الذهب -مما أدى في النهاية إلى التخلّي عنه تمامًا- أرسل نيكسون وزير الخزانة جون كونالي إلى روما لمواجهة زملائه الأجانب الغاضبين، الذين كانوا قلقين من أنَّ الولايات المتحدة، بتخلّيها عن قابلية تحويل الذهب، قد وضعت نفسها في موقفٍ يسمحُ لها بتضخيم قيمة أرصدتها الضخمة من سندات الخزانة بشكلٍ جذري (وهو ما حدث، بالطبع، بالضبط خلال العقد التالي). رَدَّ كونالي عليهم قائلًا: “قد يكون الدولار عملتنا، لكنه مشكلتكم”.

للأسف، لم يُدرك نيكسون ولا كونالي تمامًا أنَّ فقدان قابلية تحويل الذهب كان أيضًا مشكلة الولايات المتحدة. كانت فترةُ السبعينيات من القرن العشرين فترةً صعبةً للغاية بالنسبة إلى البلاد، حيث تباطأ النمو بشكلٍ حاد وبلغَ التضخُّم مستوىً مزدوجًا بشكلٍ غير مُريح، ووصل في مرحلةٍ ما إلى 14%.

في ولايته الثانية، يبدو أنَّ ترامب في طريقه لتكرار العديد من مشاكل الاقتصاد الكُلِّي التي واجهتها رئاسة نيكسون. تولّى ترامب منصبه باقتصادٍ محلّي كان محلَّ حَسَدِ العالم، على الرُغم من ارتفاع التضخم بعد الجائحة. ثم جاءت حربه الجمركية، ناهيك عن مجموعةٍ من السياسات الأخرى التي تُهدّدُ بتقويض هيمنة الدولار. وتشملُ هذه السياسات إضعاف سيادة القانون، وتآكل القوة الناعمة للولايات المتحدة، والحدّ من انفتاح أميركا على التجارة، والحد من الهجرة، ومهاجمة الجامعات البحثية، من بين أمور أخرى.

وإضافةً إلى الرسوم الجمركية، وَضَعَ ستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين لترامب، مُخَطَّطًا لما يُسمى باتفاقية “مار-ا-لاغو”، يتضمّن أحد بنودها قبول الحكومات الأجنبية سندات “مُخَفَّضة” لمدة مئة عام لا تدفع أي فوائد حتى تاريخ الاستحقاق، فيما قد يُمثل تخلفًا كبيرًا عن سداد الديون السيادية. وبغض النظر عن سعر الفائدة الذي تحدده الولايات المتحدة على السندات، فإنَّ الحكومات الأجنبية ستقلق بحق بشأن التضخم، تمامًا كما كانت تخشى عندما تخلى نيكسون عن معيار الذهب قبل خمسة عقود.

من المرجح ألا تُنَفَّذُ خطة “مار-ا-لاغو” أبدًا؛ إذ يرى كثيرون أنها مُبالغٌ فيها. لكن بالنظر إلى الأعراف الأخرى التي يُخالفها ترامب، هل يُمكن للمرء أن ينصحَ البنوك المركزية الأجنبية -التي تحتفظ بتريليونات الدولارات الأميركية كاحتياطيات من النقد الأجنبي- بعدم التحوُّط في رهاناتها؟

إنصافًا لترامب، كانت هيمنة الدولار بدأت تتلاشى تدريجًا مع عودته إلى منصبه. وكما أؤكد في كتابي الأخير “دولارنا، مشكلتكم” (Our Dollar, Your Problem)، بدأ فك الارتباط الصيني بالدولار بجدية في العام 2015، وتسارع في السنوات الأخيرة.

مع ذلك، فإنَّ أعمقَ نقاطِ الضعف تأتي من الداخل. فقد أصبحَ مسارُ الدين الأميركي غير مُستدام بشكلٍ واضح الآن بعد أن ارتفعت أسعار الفائدة طويلة الأجل حتمًا من أدنى مستوياتها بعد الأزمة المالية. ومع ضُعفِ الرغبة الواضحة لدى أيٍّ من الحزبَين السياسيَين في كَبحِ جماح الديون، يشكُّ المرءُ بشدة في أنه لن يحدثَ شيءٌ حتى تحدث أزمةٌ تَصدُمُ الرأي العام وتُجبره على إدراك الأبعاد الكاملة للمشكلة. من اللافت، أنه بعد أن انتقد ترامب بشدة إنفاق الرئيس جو بايدن القياسي البالغ 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي في زمن السلم (باستثناء العامين 2008 و2020، عندما ضربت الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد-19، على التوالي)، يبدو أنَّ عجزه سيتجاوز 7% لبقية ولايته، حتى في غيابِ ركودٍ اقتصادي عميق أو صدمة أخرى ذات أبعاد وبائية. ومع تجاوز مستويات الدين الأميركي بالفعل 120% من الدخل، فإنَّ الميزانيات المستقبلية حساسة للغاية للمخاطر الكبيرة المتمثّلة في المزيد من الارتفاعات في أسعار الفائدة من مستوياتها المنخفضة للغاية بعد الأزمة المالية. إذا انسحبَ الأجانب، وانخفضَ الطلب العالمي على الأصول الأميركية، فسيكون التأثير هو رفع أسعار الفائدة وجعل وضع الدين الأميركي أكثر صعوبة. في حين أنَّ الأزمة، التي من المحتمل أن تنطوي على موجةٍ كبيرة أخرى من التضخّم أو قمعٍ مالي خانق للنمو، ليست حتمية، إلّا أنَّ الاحتمالات آخذة في الارتفاع بشكلٍ حاد ويبدو الآن أنها أكثر ترجيحًا من عدمه خلال السنوات الأربع إلى الخمس المقبلة. لقد استغرق الأمرُ عقدًا من الزمن لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الأميركي بعد نيكسون. فهل ينطبق الأمر نفسه على ترامب؟

Exit mobile version