دول المغرب العربي بين سندان أميركا ومطرقة الصين

لم تَعُد دول شمال أفريقيا تكتفي بتأدية دور المراقب السلبي فحسب، بل باتت طرفًا فاعلًا في صراع القوى العظمى المُتنافسة على الساحة العالمية. صحيحٌ أنّها ليست من اللاعبين المحوريين، لكن موقعها الإستراتيجي، ومواردها الوفيرة، وحاجاتها التنموية في مجال البنية التحتية تُكسِبها أهمّية متزايدة في معادلات الجغرافيا السياسية الدولية.

المفتش العام للقوات المسلحة الملكية المغربية وقائد المنطقة العسكرية الجنوبية اللواء محمد بريد (وسط-يمين) وقائد القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) الجنرال مايكل لانغلي (وسط) يتفقدان حرس الشرف خلال التدريبات العسكرية المشتركة السنوية “الأسد الأفريقي” بين القوات الأميركية والمغربية في منطقة طانطان في جنوب غرب المغرب في 31 أيار (مايو) 2024.

يحيى ح. زبير*

تُلقي التوتّرات المتصاعدة بين الولايات المتّحدة والصين بظلالها على منطقة المغرب العربي. وعلى الرُغم من أنّها ليست ساحةً مواجهة مباشرة، تجد المملكة المغربية والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا أنفسها في مهبّ التنافُس المُحتَدِم بين القوى العظمى، مع ما يترتّب على ذلك من تداعياتٍ اقتصادية وسياسية وأمنية وتكنولوجية. وفي مواجهةِ هذا الواقع، سعت هذه الدول إلى احتواء التوتّرات بحنكة، وبل توظيفها أحيانًا لتحقيق المكاسب من واشنطن وبكين على حدّ سواء. غير أنّه مع تفاقم حدّة الصراع وتزايُد الضغوط على الحكومات للاصطفاف مع أحد الطرفين، ستُصبحُ جهودُ المحافظة على هذا التوازن الدقيق تحدّيًا هائلًا ومهمّة شاقة.

يوفّر التنافس بين الولايات المتّحدة والصين فرصًا كما ينطوي على مخاطر. بالنسبة إلى دول الجنوب، يشكّل التعاون مع بكين وسيلةً لموازنة نفوذ القوى الكبرى الأخرى، ومن ضمنها الحلفاء مثل الولايات المتّحدة والقوى الاستعمارية الأوروبية السابقة. وبينما تحتفظ الجزائر بعلاقات سياسية وثيقة مع الصين، فإنّ بقية دول المغرب العربي يغلب على علاقتها مع الصين الطابع الاقتصادي، إذ تساهم في دفع عجلة تطوير البنية التحتية في المنطقة، كما توفّر للشركات الصينية مجالات لتصريف فائض طاقتها الإنتاجية. وقد انضمّت جميع دول المغرب العربي إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، ووقّعت اتفاقيات مع بكين في مسعى لاستثمار حدّة التنافس الصيني-الأميركي لتعظيم نصيبها من المساعدات والاستثمارات والاهتمام الديبلوماسي من الجانبين. غير أنّ هذا التوازن بات أكثر هشاشة.

تجنّب الاصطفاف الحصري

تتباين التوجّهات الإستراتيجية لدول المغرب العربي، غير أنّ جميعها تتأثّر بإعادة رسم موازين القوى العالمية. فالجزائر، بحُكمِ إرثها المُناهض للاستعمار وتقاليدها الراسخة في عدم الانحياز، لطالما فضّلت إقامة الشراكات مع الصين وروسيا. ومنذ العام 2013، باتت الصين الشريك التجاري الأول للجزائر، وقد توسّع التعاون بين الجانبين ليشمل معظم القطاعات. في المقابل، يحافظ المغرب على علاقة وثيقة مع الولايات المتّحدة، تُجسّدها اتفاقية التجارة الحرّة المُبرمة في العام 2006. كما تعزّزت هذه العلاقة بتوقيع اتفاقية التعاون العسكري لعشر سنين في العام 2020 ما يعكس متانة الشراكة الأمنية بين الرباط وواشنطن. ومع ذلك، لم يتردّد المغرب في فتح أبوابه أمام الاستثمارات الصينية، لا سيّما في قطاعَي الطاقة المتجدّدة وصناعة السيارات. وتسير تونس وليبيا وموريتانيا على النهج نفسه، إذ تسعى إلى تنويع شراكاتها وتفادي الاصطفاف الحصري مع أيٍّ من القوى الكبرى.

في الوقت الراهن، لا تزالُ دولُ المغرب العربي قادرةً على توظيفِ موقعها الجيوسياسي لعقدِ شراكاتٍ متنوّعة، في ما يشبه إستراتيجية التحوّط التي تُعزّزُ استقلاليتها السياسية وتُعَظّمُ مكاسبها الاقتصادية. لكن، في حال تصاعدت حدّة التنافس بين الصين والولايات المتّحدة وتحوّلَ النظام العالمي إلى نظامٍ ثُنائي القطب سيُجبَرُ عندها الشركاء على الانحياز إلى جانبِ أحد المعسكرين، وفي هذه الحالة فإنّ هامش المُناورة المُتاح لهذه الدول سيتقلّص إلى حدّ كبير.

مناطق النفوذ

بعدَ وقتٍ قصيرٍ على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) الماضي، وقّعت الولايات المتّحدة والجزائر أول اتفاقية تعاون عسكري بينهما. ومن المرجّح أن تكون واشنطن قد رأت في الاتفاق وسيلةً لكبح جماح النفوذ المتزايد لكلٍّ من الصين وروسيا في أفريقيا. أمّا بالنسبة إلى الجزائر، فيساعد الاتفاق على موازنة العلاقات العسكرية الوثيقة بين الولايات المتّحدة والمغرب، التي تتضمّن تدريبات عسكرية مشتركة منتظمة، مثل مناورات “الأسد الأفريقي” السنوية بين القوّات المسلّحة الملكية المغربية والقيادة الأميركية في أفريقيا، إلى جانب برامج المساعدات والتدريب العسكري. وتُعدّ تونس بدورها من أبرز المستفيدين من الدعم الأمني الأميركي، فقد وقّعت مع واشنطن “خارطة طريق للتعاون الدفاعي” لعشر سنين في تشرين الأول (أكتوبر) 2020.

تمتلك الجزائر أسبابًا وجيهة لتوخّي الحذر من إدارة ترامب. فقبيل مغادرته منصبه في العام 2020، تخلّى ترامب عن سياسة الحياد التقليدية التي تتبعها الولايات المتّحدة حيال ملف الصحراء الغربية، عبر اعترافه بسيادة المغرب على الإقليم، في مقابل انضمام الرباط إلى اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل. وقد أعادت إدارة ترامب الثانية التأكيد على هذا الموقف، ما دفعَ الجزائر إلى التعبير عن “أسفها”. ومع ذلك، يبدو أنّ واشنطن تتبنّى مقاربة جديدة حيال هذا الصراع. ففي مقابلة أُجرِيت في نيسان (أبريل) الماضي، أشار كبير مستشاري ترامب لشؤون أفريقيا، مسعد بولس، إلى أنّ واشنطن تسعى إلى تسوية تُرضي طرفَي الصراع الممتدّ منذ نصف قرن، وتُبَيِّنُ تصريحاته عن أهمية الجزائر بالنسبة إلى المصالح الأميركية، احتمال وجود تباين في مواقف واشنطن أو تحوّل محتمل في توجّهاتها السياسية. وعلى أيِّ حال، ستظل الجزائر متوجّسة من خطوات ترامب، لا سيّما في ظلّ مواقف وزير الخارجية ماركو روبيو الذي سبق أن انتقدَ علاقات الجزائر الدفاعية الوثيقة مع روسيا. ومن الواضح أنّ الجزائر ماضية في الحفاظ على هذه العلاقات، إلى جانب تعزيز علاقاتها العسكرية مع الصين.

وفي نيسان (أبريل) الماضي، وقّعت الجزائر وبكين عشر اتفاقيات رئيسة في قطاعات حيوية متنوّعة. غير أنّ الجزائر، وتماشيًا مع مبادئها في عدم الانحياز وسعيها الدؤوب إلى تنويع اقتصادها، حرصت أيضًا على توطيد علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتّحدة، لا سيّما في قطاع الطاقة، إذ وقّعت عقودًا مهمّة مع شركاتٍ أميركية مثل “أوكسيدنتال” (Occidental)و”شيفرون” (Chevron) و”إكسون موبيل”(Exxon Mobil). وتأمل الجزائر في جذب المزيد من الاستثمارات الأميركية مُستفيدةً من قانون الاستثمار الذي أقرّته في العام 2022.

بدوره، سلك المغرب أيضًا مسارًا دقيقًا ومتوازنًا. وعلى الرغم من علاقاته الوثيقة مع الولايات المتّحدة، لم يتردّد في فتح أبوابه أمام الاستثمارات الصينية، خصوصًا في قطاعي الطاقة المتجدّدة وصناعة السيارات، كما عزّز علاقاته التجارية مع بكين.

وطوّرت تونس، التي تُعدّ حليفًا رئيسًا من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، علاقات اقتصادية أوثق مع الصين، ووقّعت معها شراكة إستراتيجية في أيار (مايو) 2024، ما أسهم في ترسيخ موقع الصين كأحد أبرز شركاء تونس التجاريين. وفي ظلّ الأزمة المالية الخانقة، من المرجّح أن تسعى تونس إلى الحصول على مساعدات من الولايات المتّحدة، غير أنّ إدارة ترامب قد تشترط تقديم هذه المساعدات بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي خطوة يبدو أنّ الرئيس الشعبوي قيس سعيّد متردّد في الإقدام عليها. وإذا ما فُرض هذا الشرط، فقد تجد تونس نفسها أقرب إلى بكين. والواقع أنّ النظام التونسي الذي يزداد سلطوية قد يجد نقاط تقاطع مصالحه مع النموذج السياسي الاقتصادي الصيني، حتى مع استمرار علاقاته العسكرية والأمنية الوثيقة مع واشنطن.

أمّا في ليبيا، فقد كانت مشاركة إدارة ترامب محدودة نسبيًا، إذ ركّزت على الإستراتيجية الإقليمية الأشمل وجهود مكافحة الإرهاب. في البداية، دعمت إدارة ترامب الأولى حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتّحدة، لكنها تسبّبت في إرباك السياسة الأميركية حين أشاد ترامب شخصيًا، في العام 2019، بالقائد العسكري في الشرق خليفة حفتر. واليوم لا تزال الدولة الليبية مُنقَسِمة، تديرها حكومتان متنافستان، ويستمر فيها الصراع، في مشهدٍ شديد التعقيد تمارس فيه قوى خارجية مثل تركيا وروسيا والإمارات نفوذًا أكبر بكثير من الصين أو الولايات المتّحدة.

حافظت الصين على موقف ديبلوماسي محايد، وامتنعت، على غرار واشنطن، عن التورّط في الصراعات الداخلية الليبية. لكن في حال استقرَّ المشهد السياسي الليبي واستؤنفت مشاريع الطاقة، فقد تعودُ احتمالاتُ التنافس الأميركي-الصيني إلى الواجهة. فعندئذ، قد تتحوّل ليبيا إلى ساحة نشطة لـ”دبلوماسية البنى التحتية”، خصوصًا إذا بدأت عملية إعادة الإعمار بشكلٍ جاد، وهو ما تطمح الصين إلى تأديةِ دورٍ محوري فيه.

وعلى الرُغم من تمسُّك الصين بموقف الحياد، تميلُ الفصائل الليبية المتنافسة إلى الاصطفاف ضمن تكتلات دولية متباينة، بعضها أقرب إلى الصين وروسيا، فيما يقترب البعض الآخر من الدول الغربية. وفي حال استقرّ النظام الدولي على تعدُّديةٍ قطبية، فقد تُعيدُ الصين والولايات المتّحدة استثمارَ جهودهما في إعادة إعمار ليبيا. ويمكن أن تستفيد البلاد حينها من هذا التنافس العالمي في مشاريع التنمية والبنية التحتية. ولكن إذا تصاعدت حالة الاستقطاب الثنائي على المستوى الدولي، فقد تصطف الفصائل الليبية مع معسكرات متعارضة، ما من شأنه أن يُفاقِمَ حالة عدم الاستقرار، ويؤدّي إلى تحوّل ليبيا إلى ساحة صراعات بالوكالة، ويُعيق جهود إعادة الإعمار. في الوقت الراهن، ستبقى الولايات المتّحدة يقظة تجاه التهديدات الأمنية المُنبَعثة من ليبيا، وستسعى إلى مواجهة تنامي نفوذ القوى المنافسة، مع تجنّب التورط العسكري أو الديبلوماسي العميق.

وفي ما يتعلّق بموريتانيا، يركّز نهج إدارة ترامب على مكافحة الإرهاب، ويتعامل مع المساعدات الخارجية بمنطق الصفقات، مع إغفالٍ شبه تام لقضايا تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان. وتُعدّ موريتانيا، الدولة الأفقر في المغرب العربي، خارج دائرة الأولويات الأميركية، غير أنّ تعاونها في ملف مكافحة الإرهاب يتماشى مع المصالح الأميركية في منطقة الساحل المضطربة. وللحدّ من النفوذ الصيني والروسي، تسعى إدارة ترامب إلى دعم الشركات الأميركية في منافستها مع الحضور الصيني في القطاعات الأساسية. لقد حافظت الصين، التي تُعدّ الشريك التجاري الرئيس لموريتانيا، على تعاونٍ اقتصادي مستقرّ معها على الرُغم من التبدّل المتكرّر للحكومات في نواكشوط.

وستُركّزُ الجهود الأميركية غالبًا على تقليص نفوذ روسيا العسكري والسياسي. لكن انتقال واشنطن من نموذج المساعدات التقليدية إلى تشجيع القطاع الخاص في أفريقيا، عبر تحويل المنح إلى قروضٍ تُحفّزُ النمو الاقتصادي عبر الاستثمار، قد لا يكون جذابًا لدول مثل موريتانيا. وتُشكّل مشاريع بناء الموانئ أحد أهم عناصر مبادرة الحزام والطريق الصينية، إذ تربط هذه الموانئ بين دول تمتلك الصين فيها مصالح استراتيجية وتمنحها ميزة جيوسياسية. كما تهدف هذه المشاريع إلى تعزيز التكامل الاقتصادي في غرب أفريقيا. وقد تتعرّض موريتانيا لضغوط لتقييد دور الصين في مشاريع البنية التحتية المرتبطة بالأمن أو في الموانئ، لكن هذا الوضع قد يمنحها فرصة للحصول على مساعدات واستثمارات إضافية من الجانبين، شرط أن تحافظ على استقرارها السياسي.

ممارسة الوكالة السياسية

لم تَعُد دول المغرب العربي تكتفي بتأدية دور المراقب السلبي فحسب، بل باتت طرفًا فاعلًا في التنافس العالمي الدائر بين الولايات المتّحدة والصين. وعلى الرُغم من أنّها لا تُعَدُّ من اللاعبين المركزيين في هذا التنافس، إلّا أنَّ موقعها الإستراتيجي، ومواردها الوفيرة، وحاجاتها المتزايدة للبنية التحتية، تجعلها ذات أهمية متزايدة في الجغرافيا السياسية العالمية.

حتى الآن، نجحت حكومات المنطقة في تحقيق توازن دقيق بين المصالح المتنافسة عبر ما يُعرف بـ”التحوّط الإستراتيجي”. ومع تصاعد التوتّرات بين الولايات المتّحدة والصين، وتحوّلها إلى مواجهة أكثر حدّة وتصلّبًا، قد تواجه دول المغرب العربي ضغوطًا متزايدة للانحياز في مصالحها الاقتصادية والتكنولوجية إلى أحد المعسكرين. وتجسّد قرارات عدد من الحكومات الأفريقية بفتح أسواقها أمام شركة الاتصالات الصينية “هواوي” (Huawei) تجاهُلًا واضحًا لمحاولات واشنطن المتكرّرة لردعها عن التعاون مع الشركة وسواها من الشركات الصينية. ومع ذلك، فقد تواجه المشاريع التي تعتمد على بنية تحتية لشبكات الجيل الخامس من “هواوي” في الجزائر أو تونس عقبات مستقبلية، إذ قد تؤدّي العقوبات الأميركية المفروضة على الشركات الصينية إلى إحجام الشركات الغربية عن الدخول في مشاريع مشتركة معها.

للحفاظ على استقلالها الإستراتيجي، ينبغي على دول المغرب العربي أن تركّز على تنويع شراكاتها، وتعزيز التعاون الإقليمي، والاستثمار في بناء قدراتها المؤسّسية لإدارة النفوذ الأجنبي بفعاليّة. يكمن سرّ النجاح في ظلّ التنافس العالمي في ممارسة الفاعلية السياسية، أي اقتناص الفرص من دون التفريط في السيادة.

Exit mobile version