في الطريق إلى “مؤتمر نيويورك”

الدكتور ناصيف حتّي*

شَهِدَت نهايةُ الأسبوع الفائت لقاءاتٍ أو مؤتمراتٍ ديبلوماسية مُتَعَدِّدة الأطراف للتشاوُرِ والتباحُثِ والتحضيرِ ل”المؤتمر الدولي لحلّ الدولتين”، الذي سيُعقَدُ في مقرِّ الأُمم المتحدة بعد ثلاثة أسابيع (من 17 إلى 20 حزيران/يونيو المقبل). وكان أساسَ الدعوة لعقدِ هذا المؤتمر، الذي سيكون برئاسةٍ مُشتركة سعودية-فرنسية، قراران للجمعية العامة للأُمم المتّحدة أصدرتهما في أيلول (سبتمبر) وكانون الأول (ديسمبر) 2024.

عُقِدَ لقاءٌ وزاري رُباعي تشاوُري في باريس بين ممثلين عن الدولِ المُهندِسة الأساسية لهذا المؤتمر: السعودية ومصر والأردن وفرنسا. كما حصلَ اجتماعٌ تحضيري واسع في الجمعية العامة في نيويورك حَمَلَ رسالةً واضحة من الرئاسة المُشتَرَكة أنَّ الهدفَ هو “إطلاقُ مسارِ تغييرٍ حقيقي، مسار عمل”، كما جرى التأكيدُ أيضًا على أنَّ المؤتمر “لن يكونَ مجرّدَ منصّةٍ للتوافُقِ في الآراء، بل إطار عمل تنفيذي في ترجمة الالتزامات إلى خطواتٍ ملموسة”. هناك الآن ثماني مجموعات عمل تستمرُّ في بلورة أفكارها ومقترحاتها، كما ظهرَ في اجتماعِ نيوريوك، لصياغتها بشكلِ مُقترحاتٍ عملية في ما يتعلّقُ بالتعامُلِ مع كافةِ أوجه تسوية النزاع في رؤيةٍ شاملة ومُتكاملة ومُترابطة بين مكوّناتها المختلفة. بدورها، احتضنت العاصمة الإسبانية أيضًا يوم الأحد الماضي مؤتمرًا لما يُعرَفُ ب”مجموعة مدريد” بشأنِ الموضوعِ ذاته، بمشاركة 20 دولة عربية وإسلامية وأوروبية إضافةً إلى البرازيل والمنظّمات المعنية، من أجلِ بلورةِ أفكارٍ عملية للمؤتمر المقبل.

بدونِ شكٍّ، إنَّ ما هو حاصلٌ من حراكٍ عربي ودولي “جديد”، والزخم الذي يحظى به يُفتَرَضُ البناء عليه وتحويله إلى مسارٍ شامل وعملي. مسارٌ يحظى بانخراطٍ ومواكبةٍ فاعلة مُستمرّة، وبالتزامٍ من الأطرافِ الدولية المَعنيّة مباشرةً أو ذات التأثير الفعّال. ولا بُدَّ من التذكير أنَّ المطلوبَ أيضًا موقفٌ عربيٌّ فاعِلٌ وناشطٌ وعمليٌّ في السياق ذاته. ذلك كله يبقى أمرًا أكثر من ضروري لإنجاحِ المسار الذي يُفتَرَضُ أن ينطلقَ من مؤتمر نيويورك في الشهر المقبل، رُغمَ إدراك العوائق والصعوبات الجمّة أمامه بسبب السياسات الإسرائيلية المستمرّة من دون أيِّ رادعٍ، والتغييرات التي أحدثتها تلك السياسات منذ عقود على الأرض (حروبًا واستيطانًا ناشطًا) وتعمل على تكريسها.

إنَّ ما يزيد من تعزيز سياسة تهويد الجغرافيا والديموغرافيا، كما نذكرُ دائمًا، هي هيمنةٌ أصولية دينية في قسمٍ منها، واستراتيجيةٌ في قسمٍ آخر تقومُ على فكر وسياسة إلغاء “الآخر” الفلسطيني، أو إنكار وجوده وبالتالي حقوقه كشعب. فلا يحقُّ له ما يَحقُّ لغيره من الشعوب، وذلك “باسم الدين أو التاريخ أو الأمن الوطني”.

يبقى سؤالٌ أساسي يتعلّقُ بالموقف الأميركي من المؤتمر الذي يُفتَرَضُ أن يُشَكِّلَ مُنعطفًا أساسيًا في مسارِ النزاعِ المُستمر والتسوية المُمكِنة والضرورية حسب الشروط المُشار إليها. فى هذا السياق لا بُدَّ من طرح السؤال التالي: هل سنشهدُ بعضَ التغيُّر، ولا أقول التحوُّل، في الموقف  الاميركي، ليس بالضرورة بين ليلةٍ وضُحاها، ولكن مع الوقت وبشكلٍ تدريجي خصوصًا في ظلِّ سياسةٍ أميركية تعملُ بالقطعة. سياسةٌ تقومُ على مَنطقِ التبادُلية المَنفَعيّة ولها مصلحة في الاستقرار في الشرق الاوسط. ولا بُدَّ من التذكُّر أنَّ “المسألة الفلسطينية” تُشكّلُ، ولو بصيغ ودرجات مختلفة، ورقةً أساسية و”جذّابة” في لعبةِ الأُمم في المنطقة وفي صراعِ القوى على مدِّ نفوذها في الإقليم، والأمثلة على ذلك كثيرة .

المُهِمُّ أن يُبَلوِرَ مؤتمر نيويورك المَرجعية التفاوضية (أُسُسها وأهدافها) وسلّة القضايا التي تجب معالجتها لإنهاء النزاع والأجوبة عن ذلك، والتوصُّل إلى السلام الشامل حسب الأهداف المعروفة والمُعترَف بها دوليًا، وكذلك خريطة الطريق. السلامُ الذي يستدعي لاحقًا التوصُّل إلى التسوية السلمية حسب المرجعيات القانونية والقرارات الدولية ذات الصلة على المسارَين اللبناني والسوري. طريقٌ طويلٌ يجب بلورته في “مؤتمر نيويورك”. صحيحٌ أن ذلك امرٌ شديد الصعوبة في ظلِّ ما أشرنا إليه، ولكنه الوحيد لتحقيق “ثُلاثية” الاستقرار والأمن والازدهار في الإقليم. فإذا كان تحقيقُ السلام، كما أشرنا امرًا صعبًا، فإنَّ غيابَ السلام يجعلُ تحقيق هذه الثُلاثية أمرًا مُستحيلًا .

Exit mobile version