الصمتُ حيالَ استهدافِ الوطن خيانةٌ!

الدكتور فيكتور الزمتر*

سوريا الجغرافية، سوريا التاريخية، سوريا الكُبرى، بلادُ الشام، الهلال الخصيب … جميعُها مُسمَّياتٌ، على تعدُّدها، تبقى قاصرةً عن توصيف سوريا الطبيعية، تلك الشامةُ المُتربِّعَة بخَفَرٍ أُنثويٍّ على خَدِّ شرق المتوسِّط!

فَرادةُ موقع سوريا أشبهُ “بواسطة العقد” بين ثلاث قاراتٍ، ما جعلَها نِعمةً، للعيش الرغيد، بقدر ما جعلَها نقمةً، لمطمعٍ الغُزاة من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ. لقد حباها اللهُ من الطبيعة أجملَ تضاريسها، ومن المناخ روعةَ تنوُّعه، وعلى بساطها الرطب الخصيب تعاقبت أعراقٌ ودياناتٌ ومذاهب .. ما هيَّأَها لتكونَ مشروعًا لمُختبرٍ مثاليٍّ للتآلُف والتراحُم، لو أحسَنَت نُخَبُها اكتناه فحوى رسائل أنبيائها ورُسُلها.

فسوريا الطبيعيةُ مُصطلحٌ جغرافيٌّ، يرمُزُ إلى وحدةِ طوبوغرافيةٍ مُتكاملة الموارد، تمتدُّ من جبال طوروس شمالًا، إلى سيناء جنوبًا، ومن البحر المتوسط غربًا حتى بادية العرب شرقًا. وبسبب موقعها الإستراتيجي الفريد على طُرُق المواصلات وبما يختزنُ باطِنُها من ثرواتٍ، تصارعت على تُراب سوريا التاريخية أمبراطورياتٌ وممالكٌ، خلَّفت تراكُماتٍ ثمينةٍ من الإرث الحضاري، بقدر ما تركت نُدوبًا بليغةً من غرائز الحقد والتسلُّط ومن شهوات الإنتقام والإحتراب.

إنَّ الحديثَ المُتنامي، راهنًا، على تفتيت الكيان السياسي السوري إنَّما يعني إيغالًا في تجزئة المُجَزَّإِ، أخذًا بالإعتبار ما فصَّلَه مقصُّ الثُنائي سايكس-بيكو (1916) من دولٍ على مقاس الدول المُقتدِرة. فمنذ أكثر من قرنٍ وسوريا الأُم قد تجزَّأت إلى كياناتٍ قائمةٍ لم ترتقِ بعد إلى مصاف الدول الكاملة الأوصاف!

أمّا هجمةُ التنظير الراهنةُ والمُراهنةُ على تقسيم المُقسَّم في سوريا، فمردُّها إلى سقوط نظام البعث، وعبثِ إسرائيل، ليس فقط بالمنطقة العازلة في مرتفعات الجولان واحتلالها، بل بمُكوِّنات سوريا المُجتمعية، واللَّعب على وتر حماية بعض عائلاتها العرقية والمذهبية شمالًا وشرقًا وجنوبًا.

ولعلَّ آخر تجلّيات هذه الهجمة، ما أدلى به، أخيرًا، وزيرُ خارجية الولايات المُتحدة، ماركو روبيو، في جلسةِ استماعٍ أمام مجلس الشيوخ: “إن رفع العقوبات سيساعدُ سوريا على مواجهة حربٍ أهليةٍ شاملةٍ وفوضى… نريدُ مساعدةَ حكومة سوريا على النجاح، لأنَّ تقييمنا هو أنَّ السلطةَ الإنتقاليةَ، وبصراحة في ضوء التحدّيات التي تواجهها، قد تكونُ على بُعدِ أسابيع، وليس أشهرًا عدة، من انهيارٍ محتملٍ وحربٍ أهليةٍ شاملةٍ ذات أبعادٍ مدمِّرةٍ تؤدي فعليًا إلى تقسيم البلاد”.

ولا بُدَّ، في هذا السياق، من التذكير بمواقف قادة إسرائيل المبدئية من قضية تفتيت سوريا، حيثُ أوردَ موسى شاريت، أوَّلُ وزير خارجيَّةٍ إسرائيليٍّ، في مُذكَّراته بعضَ ما أسرَّ به إليه دايڤيد بن غوريون، أوَّلُ رئيس وزراء لإسرائيل: “نحنُ قطرةٌ في محيطٍ من الكراهية، ولن تكونَ لنا اليدُ العليا إلّا بعد تدمير مصر وسوريا والعراق”. وعندما سألَه شاريت: “وكيف يكون ذلك؟”، أجابه بن غوريون: “الفتنُ والحروبُ الأهلية. نجاحُنا لا يعتمد على ذكائنا فقط، بل على غباء العرب. ننجح في سوريا والعراق بسبب الإختلاط العرقي والديني والمذهبي …”، أمّا مصر، فشعبُها واحدٌ، كان يؤمنُ بالآمونية ثم بالمسيحية ثم بالإسلام، والكُلُّ مُجْمِعٌ على ذلك، وهذا ما يجعلُ تفتيتَه صعبًا، “.. ومع ذلك سنحاولُ” (اللُّجوء إلى الضغط الإقتصادي والإسلام السياسي …).

وهذا ليس بالغريب على بن غوريون، الذي عُرِفَ عنه احتقارهُ للعرب، حيثُ نُقِلَ عنه قولُه: “… إنَّ العربَ لا يفهمون إلّا القُوٍّة …”. والحديثُ على تفتيت سوريا، واستتباعًا كامل العالم العربي، ورُبَّما الإسلامي، لا يكتملُ بدون استحضار مُخطَّط برنارد لُويس، المُستشرق البريطاني المولد والأميركي الجنسية (1916-2018) لتقسيم العالمين العربي والإسلامي، إلى دُويلاتٍ مُتناحرةٍ، بما يشملُ جميع الدول العربية الآسيوية والأفريقية، إضافةً إلى إيران وباكستان وأفغانستان والبلقان.

وحجَّةُ برنارد لُوِيس مُرتكزةٌ على نظرته الدُونية للعرب والمُسلمين، لاعتباره “أنَّ العربَ والمسلمين قومٌ فاسدون مُفسِدون فوضَويون، إذا ُتركوا لأنفسهم، فسوف يفاجئون العالمَ الُمتَحَضِّرَ بموجاتٍ إرهابيةٍ، تُدمِّرُ الحضارات، وتُقَوِّضُ المجتمعات. فالحلُّ السليمُ للتعامل معهم، هو إعادةُ احتلالهم، وتدمير ثقافتهم”.

لقد تكرَّمَ “برنارد لُوِيس” على العالمين العربي والإسلامي بتقسيمهما، بالعدل والقُسطاس المُستقيم، إلى ما يقربُ من خمسين دُويلةٍ، ولكن على قواعد العرق والدين. أمّا حصَّةُ سوريا من مُخطَّطه الجُهنَّمي فهي أربعُ دُوَلٍ، كُرديةٌ في الشمال، علويةٌ في الساحل الغربي، سنِّيةٌ في حلب وإدلب ودمشق ودرزية في الجنوب.

وتأميناً للوصاية الأنكلوساكسونية، أودَعَ “برنارد لُوِيس” مُخطَّطه التقسيمي لعناية “زبيغنيو بريجنسكي”، مستشار الأمن القومي، زمن الرئيس جيمي كارتر، قبل أن يوافقَ الكونغرس الأميركي عليه، في جلسةٍ سريَّةٍ، في العام 1983. تلك الخلفيةُ قد تُسهِّلُ فهمَ الفتن والحروب والقلاقل، التي عرفها العالمان العربي والإسلامي منذ الثمانينيات الفائتة، بدءًا بتأجيج الأصولية الجهادية لطرد السوڤيات من أفغانستان، وُصولًا إلى تفريخ الحركات السلفية من تنظيم “القاعدة” إلى أخوته وأخواته في مشارق العرب ومغاربهم.

وتكادُ لا تُحصى الدلائلُ والمُخطّطات، الإسرائيليةُ تحديدًا، لزعزعة العالم العربي. فقد سبقَ لمجلَّة “كيفونيم”، التي تُصدِرُها “المُنظَّمة الصهيونية العالمية” في القدس، أنْ نشرت، في عددها 14 لشهر شباط (فبراير) 1982، دراسةً بعنوان “خططُ إسرائيل الإستراتيجيةُ في عقد الثمانينيات”، جاء فيها “أنَّ العالمَ العربي ليس إلّا قصرًا من الأوراق، بنته القوى الخارجيةُ في عشرينيات القرن الماضي. فهذه المنطقةُ قُسّمت عشوائيًا إلى 19 دولة تتكوَّنُ كلُّها من مجموعاتٍ عرقيةٍ مختلفةٍ ومن أقلّياتٍ يسودُها العداءُ لبعضها (…) وأنَّ هذا هو الوقتُ المناسبُ لدولة إسرائيل، لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها، وتقسيم البعض الآخر إلى دويلاتٍ على أساسٍ عرقيٍّ وطائفيٍّ”.

ولا يخرجُ تصريحُ رئيس حكومة إسرائيل الراحل “شيمون بيريز”، خلال الإجتياح الإسرائيلي للبنان، في العام 1982، عن هذا السياق، بقوله “.. أنَّ الحلَّ الأقربَ للتحقيق بالنسبة إلى مستقبل لبنان هو تقسيمُه وإعادتُه مُصغَّرًا إلى الحدود التي كان عليها قبل الحرب العالمية الأولى، أي إلى نظام متصرفية جبل لبنان”.

ومع تلك الدسائس، لا مكانَ للتذرُّعِ بأطماع الخارج، على قاعدة “الحقّ على الطليان”، ولا بأنْ يلوذَ المواطنُ السوري والعربي بالصمت واللّا مبالاة أو الإستقالة من المسؤولية. فإنْ لم ينتصرْ الشعبُ لوطنه ويرذُلْ سوسةَ الإنقسام العرقي البغيض والطائفية المقيتة، ذودًا عن حياض الأرض وحُرمة العرض، عَبَثًا يتحرَّرُ من وصمة الخنوع والتواطؤ والخيانة.

إنَّها لُعبةُ الأُمم القائمةُ على التسلُّط والتوسُّع، طالما ملَكَت أَيمانُ المُقتدرين، في غفلة الغارقين في قوقعة الجهل والتعصُّب. فالإنقسامُ العرقي والطائفي يصرفُ الشعبَ عن قضاياه الوطنية العُليا، ويُحفِّزُ الإقتتالَ الأهلي، ويرسُمُ بالأحمر القاني الحدودَ بين الأخ وأخيه.

فمسؤوليةُ السوريين والغَيارى على سوريا، قُبلة المشرق، أنْ يهبّوا هَبَّةَ رجُلٍ واحدٍ، أمام مخاطر الشرذمة الداخلية، تحت شعار “الدينُ لله والوطن للجميع”.

حبَّذا لو لبّوا النداء، قبل فوات الأوان، علَّهم ينتهوا إلى الإقتناع بأنَّ التنوُّعَ مصدرُ غِنى، لا عامل انقسامٍ، فيُحسِنوا التمييزَ بين تخوم الوطن وحدود الإنتماء العرقي والطائفي!

Exit mobile version