عُقْدَةُ لبنان العَميقة: الخَوفُ مِنَ المَجهولِ أقوى مِن فَشَلِ النِظام

البروفِسور بيار الخوري*

جاءت انتخاباتُ 2025 البلدية والاختيارية في لبنان لتُؤكِّد ما هو معروف: القوى التقليدية، تلك التي نسجت النظامَ الطائفي بخيوطِ الخوف والهوية، لا تزالُ قادرةً على الإمساك بالسلطة، لكنها خَرَجَت هذه المرّة أضعفَ من أيِّ وقتٍ مضى. لم يَكُن الانتصارُ الذي حقّقتهُ الأحزابُ والعائلاتُ السياسية انتصارَ قوّةٍ صاعدة، بل انتصار منظومةٍ مأزومة تعتمدُ على ما تبقّى لها من أوراق: شعورُ الناس بالحماية في ظلِّ ضعفِ الدولة. وبينما تتراجعُ نسبُ الاقتراع مُقارنةً بانتخابات 2016، ويزدادُ انكفاءُ شرائح واسعة عن المشاركة السياسية، يُصبِحُ السؤال الأخطر ليس مَن رَبِحَ في الانتخابات، بل لماذا لم تنجح قوى التغيير في تحريكِ بُنيةِ النفوس، تلك النفوس التي تعرفُ عجزَ النظام لكنها تخافُ ما هو أكثر غموضًا: المجهول.

من الأكيدِ أنَّ الحلقة المفرغة التي تحكم علاقة الناس بالسياسة لا تزالُ تعملُ بقوّة، لكنها باتت تضعف شيئًا فشيئًا من الداخل. الانتصارُ الذي حقّقته هذه القوى لم يكن انتصارًا حقيقيًا، بل انتصارُ منظومةٍ مُنهَكة تعجزُ عن تأمين مصالح جمهورها، لكنها لا تزالُ تُمسِكُ بخيوطِ اللعبة عبرَ تقديمِ شعورِ الحماية. الأرقامُ الميدانية تُؤكّدُ هذا التآكل؛ فقد سجّلت الانتخاباتُ الأخيرة تراجُعًا ملحوظًا في نسبة الاقتراع مُقارنةً بانتخابات 2016، ما يَعكُسُ فتورَ الحماسة الشعبية وانسحابَ شريحةٍ واسعة من الناس من المشاركة السياسية الفعلية (والهجرة ايضًا انسحاب)، بما يُنذِرُ بأنَّ الانتصارَ الظاهري يخفي وراءه أزمةً أعمق، أزمة ثقة مُتزايدة داخل صفوف الناس أنفسهم.

إنتخاباتُ 2022 النيابية قدّمت مؤشّرًا مزدوجًا؛ صحيح أنَّ نوابَ تغييرٍ دخلوا البرلمان، لكن هذا الاختراق لم يَكُن إلّا جُزئيًا، ونَتجَ جُزئيًا أيضًا عن ثغراتٍ داخل قوى السلطة أكثر من كونه تعبيرًا عن تحوُّلٍ جذريٍّ في الوعي الشعبي رُغمَ أنَّ جمهورَ التغيير سجّلَ اختراقًا لافتًا.

أما انتخابات 2025 البلدية والاختيارية فقد جاءت لتُؤكّدَ أنَّ الناس، في لحظةِ الاقتراع، ما زالوا يعودون إلى أحضان القوى التقليدية، لا لأنهم يثقون بقدرتها على تحسين حياتهم المعيشية هذه المرة ولا بآمل استمرار تبادُل الخدمات النفعية، بل لأنها تظلُّ المصدرَ الوحيد لشعور الأمان وسط ضعف الدولة وتفكّك مؤسّساتها. هنا تكمن المشكلة الأكبر: النظامُ مستمرٌّ ليس لأنه قوي، بل لأنَّ الدولة والقوى الجديدة لم ينجحا بعد في تقديمِ بديلٍ قادرٍ على تحريكِ البُنية النفسية للناس.

ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 شكّلت لحظةً فارقة من الغضب العابر للطوائف، لكنها سرعان ما كشفت محدودية قدرتها على تحويلِ ذلك الغضب إلى رأيٍ عامٍ فاعلٍ ومُتماسِكٍ ومُستدام. الناسُ الذين نزلوا إلى الساحات لم يتمكّنوا من ترجمةِ هذا الاعتراض إلى تصويتٍ جماعيٍّ كاسرٍ للبُنى القديمة، لأنَّ ما يَحكُمُ العلاقة بين الناس والنظام في لبنان ليس فقط الاقتصاد أو الفساد، بل شبكةٌ شعورية متكاملة. الحلقةُ المفرغة التي تُعيدُ إنتاجَ الطائفية لا تَقتَصِرُ على السياسة أو السلطة؛ إنها موجودة داخل اللاوعي الجمعي، حيث يتحوّلُ الزعيم إلى حارس الهوية، مهما كان فاسدًا أو سيِّئًا، ومهما خسر من أدواتٍ مادية واقتصادية. وهذا ما يجعلُ المشهدُ معقّدًا: فنحنُ أمامَ نظامٍ ضعيفٍ لكنه مدعومٌ بالنفوس التي ما زالت خائفةً من مجهولٍ لا تعرف حتّى ما هو.

ما تُظهِرهُ انتخابات 2025 البلدية والاختيارية في لبنان هو أنَّ القوى التقليدية خرجت أضعف رُغمَ فوزها، وأنَّ النظامَ باتَ في مواجهةِ لحظةٍ تاريخية تتطلّبُ من الناس أنفسهم إعادةَ تعريفِ ما يعنيه الأمان وما يعنيه الانتماء. هذا التحوُّلُ لا يزالُ بعيدًا، لكنه لم يَعُد مستحيلًا. الأزماتُ المُتلاحقة، إنهيارُ الاقتصاد، تَصاعُد مشاعر السخط حتى داخل القواعد التقليدية، كلّها عوامل تؤسّسُ ببطءٍ للشرخ المقبل. وإذا أضفنا إلى ذلك بروزَ أصواتٍ جديدة من محاولاتٍ شبابية جادة، حتى وإن كانت مُشَتَّتة، فإنَّ الساحةَ السياسية قد تشهدُ خلال السنوات المقبلة إعادةَ رسمٍ للمُعادلات الراسخة منذ عقود.

التجارِبُ التاريخية تُوضحُ أنَّ النظامَ الذي لا يُقدّمُ إلّا الخوف لا يستطيع الصمود والبقاء إلى الأبد، وأنَّ اللحظة التي يُصبِحُ فيها الخوفُ من الاستمرارِ أكبر من الخوف من التغيير، ستكونُ لحظةَ التحوّلِ الحقيقية المُنتَظَرة، لا بفعلِ قوّة النُخَب، بل بفعلِ تَغَيُّرٍ مُتَدَرِّجٍ، وربما طويل الأمد، في النفوس النافرة للأجيال والنُخَب والجماعات.

Exit mobile version