فلسطين بين الإسلام السياسي والقوميّة الصهيونية: صراعُ مفاهيم لا مُجرَّد حرب

الدكتور داوود البلوشي*

منذ اندلاع الحرب في غزة، بدا أنَّ العالم بأسره يَنظُرُ إلى المشهد من عدسةٍ ثُنائية:” حماس الإسلامية” في مواجهة “إسرائيل اليهودية”. غيرَ أنَّ هذه الثُنائية تختزلُ الواقع وتحجبهُ. فالصراعُ، في جوهره، ليس دينيًا بقدر ما هو صراعُ مفاهيم، وصراعُ هوِيّات قومية، وصراعٌ على المعنى والمستقبل.

من المحرقة إلى النكبة: جرحان لا يقبلان المقارنة
خلال الحرب العالمية الثانية، عانى اليهود في أوروبا من مجازر عنصرية نازية عُرفت بالمحرقة (أو الهولوكوست)، حيث قُتل أكثر من 6 ملايين يهودي، في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية. هذه المأساة خلقت تعاطفًا عالميًا هائلًا، استُثمِرَ سياسيًا من قبل الحركة الصهيونية لإقناع الغرب بدعم قيام “دولة لليهود”. فجاء وعد بلفور1917  ثم الانتداب البريطاني على فلسطين، وصولًا إلى قرارِ التقسيمفي العام1947، لتُزرَعَ دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وسط طرد جماعي للفلسطينيين وارتكاب عشرات المجازر، بدايةً من دير ياسين.

المقاومة الفلسطينية ثم اختطافها
كانت البداية مقاومة فلسطينية شعبية بحتة. لكنها لم تلبث أن تحوّلت، بفعل التدخّلات العربية الرسمية، إلى صراعٍ “عربي-إسرائيلي” في حرب 1948، دخلت الجيوش العربية من دون تنسيقٍ أو تخطيط، وانتهت بهزيمة وتجزئة الأرض، مما جعل من الصراع قضية عربية أكثر منه فلسطينية. وحين عادت الفصائل الفلسطينية إلى الساحة في الستينيات، كانت مُحاطة بالتوظيف السياسي من أنظمة عربية استبدادية استُخدِمت فلسطين كواجهة، لا كقضية. فخسرت المقاومة استقلاليتها، وتم تمييع مطالبها تدريجًا حتى وصلت إلى اتفاقية أوسلو، حيث انتقلت القضية من مشروعِ تحرُّرٍ إلى “إدارةٍ ذاتية” تحت احتلالٍ مُستَمِرّ.

إسرائيل ليست دولة   بل مشروعٌ قومي يهودي استيطاني
من الضروري الإدراك من أنَّ إسرائيل، على الرُغم من كونها عضوًا في الأمم المتحدة، لم تكتمل كدولةٍ طبيعية. فهي مشروعٌ  قومي استيطاني يهودي، لا يُعرِّفُ نفسه كمجتمع مدني مُتنوِّع، بل كـ”دولة قومية للشعب اليهودي” فقط. وهذا التعريف يُقصي كلَّ مَن هو ليس يهوديًا، ويُشرعِن العنصرية، ويجعل الديموقراطية شكلية ومؤقتة.

المُفارقة أنَّ العالم يتقبّل هذه القومية اليهودية، رُغمَ عنصريتها، بينما يرفض القومية الإسلامية باعتبارها تهديدًا. يتمُّ وَصمُ حماس بالإرهاب لكونها “إسلامية”، ولكن لا أحدَ يصف الصهيونية بأنها مُتطرِّفة رُغم تبنّيها خطابًا دينيًا توسّعيًا. هنا يتجلّى التحيّز العالمي، لا في الموقف من الدين، بل من هوية مَن يحمل السلاح.

هل الجيوش العربية حمت فلسطين أم قوّضتها؟
من 1948 إلى 1967، ومن 1973 إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان، لم تُفلح الجيوش العربية في تحرير شبرٍ واحد من فلسطين.بل ساهمت، في كثير من الأحيان، في تعميق الانقسام، وتصفية المقاومة، وتمييع القضية. وفي كل مرة، يُعادُ إنتاج خطاب قومي عربي أجوف، بدون مراجعةٍ حقيقية لفشل الخيارات العسكرية الرسمية، وبدون الاعتراف بأنَّ الشعبَ الفلسطيني وحده، هو مَن يدفع الثمن .

لماذا غابت الجيوش فظهرت الحقيقة؟
في هذه الحرب الطويلة على غزة، لم تتدخل الجيوش العربية، وربما للمرة الأولى انكشفت إسرائيل دون غطاء .  ظهر وجهها القبيح للعالم  : إبادة ممنهجة، قصف عشوائي، تجويع مقصود، تهجير متعمد .  فالعالم، الذي تعاطف سابقًا مع مأساة اليهود، أصبح يرى كيف تحوّل الضحية إلى جلاد .  حتى الشعوب الأوروبية التي كانت صامتة بدأت تطالب بوقف المجازر، وظهرت بوادر تحوّل سياسي في فرنسا وإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا، وحتى داخل إسرائيل والولايات المتحدة نفسها .

حكومة نتنياهو ومحاولة الهروب إلى الأمام
إنَّ حكومة نتنياهو، بما عليها من ضغوط سياسية وقانونية، لا ترغب في وقف الحرب أو العودة إلى طاولة التفاوض، لأنَّ ذلك قد يؤدي إلى محاسبة رئيسها قضائيًا، خصوصًا بعد قرارات المحكمة الجنائية الدولية. كما إنَّ هذه الحكومة سعت منذ البداية إلى جرّ دول عربية وإيران إلى الحرب، حتى تُصَوَّر إسرائيل كدولة محاصَرة في صراع إقليمي عربي-إسرائيلي، وهو ما لم تنله حتى الآن، بسبب اتفاقيات التطبيع وبعض التحولات الإقليمية.

من صراعٍ قومي إلى دولةٍ لكلِّ مواطنيها
اليوم، ومع وضوح حجم المأساة، ينبغي طرح سؤال جذري: لماذا لا تكون فلسطين دولة حرة ديموقراطية، لكلِّ مَن يعيش فيها، من دون قوميات دينية؟ لماذا لا تكون دولة مدنية يتساوى فيها المسلم والمسيحي واليهودي، كما حدث في جنوب أفريقيا بعد سقوط الفصل العنصري؟ حلّ الدولتين، رغم دعمه الأوروبي أخيرًا، بات غير قابل للتحقيق عمليًا بسبب سياسة الاستيطان، بينما الدولة الواحدة الديموقراطية قد تكون الأفق الممكن والأخلاقي .

في الختام : حين انسحبت الأنظمة اقتربت الحقيقة
ابتعاد الدول العربية رسميًا عن الصراع، رغم سلبياته، كشف حقيقة الصراع.  لم تعد المسألة مغلّفة بخطابات القومية والشعارات الرسمية. الشعوب رأت الحقيقة، والعالم تغيّر. والمفارقة أن هذا الانسحاب فتح المجال لفهم أعمق: أنَّ فلسطين ليست ساحة لحرب إيديولوجية، بل أرضٌ لشعب حيّ، يريد أن يعيش بكرامة، ويقيم دولة لا دينية، لا قومية، بل إنسانية.

هل العالم مستعد لهذا التحوُّل؟ وهل نحن كعرب ومسلمين، قادرون على إعادة تعريف القضية خارج حدود الطوائف والقوميات؟

Exit mobile version