إلى أينَ يأخُذُ ترامب أميركا والعالم؟

منذ عودته الثانية إلى البيت الأبيض بدأ دونالد ترامب اتباع استراتيجية داخلية وخارجية عدوانية وافتراسية تُهدد العالم بأزمة إقتصادية ومالية خطيرة.

رئيس البنك المركزي الأميركي جيروم باول: ترامب يُهدد بإقالته رُغم أنه لا يستطيع ذلك.

الدكتور داوود البلوشي*

في ظلِّ تصاعُد السجالات السياسية والاقتصادية داخل الولايات المتحدة، وتزايد التوترات التجارية بين واشنطن وباقي دول العالم، تعود إلى الواجهة ظاهرة “الحرب التجارية” التي دشّنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكن ما يحدث اليوم في ولايته الثانية (أو ما يُعرف بـ”ترامب 2”) ليس مجرد تكرار لسلوكيات ترامب 1، بل تصعيد غير مسبوق قد يُفضي إلى تغييرات جذرية في شكل العالم الاقتصادي والقانوني وحتى الفيدرالي.

في قلب هذه الأزمة يكمن صراع عميق بين ترامب والمؤسسة النقدية الأميركية، وعلى رأسها رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول. ترامب يقول صراحة: “الشعب انتخبني… إذن أنا أُمثّل إرادته” وهذه سابقة خطيرة، حيث بدأ فريق ترامب القانوني الترويج لفكرة أن للرئيس، بصفته منتخبًا من الشعب، الحق في إقالة رئيس الفيدرالي – رُغم أنَّ هذا المنصب محمي تقليديًا ولا صلاحيات رئاسية لإقالته وهو بعيد من التأثير السياسي المباشر لضمان الاستقلال المالي والنقدي. هذا الطرح يُهدد أحد أهم أعمدة الديموقراطية الأميركية: الفصل بين السلطات.

منذ الحرب العالمية الثانية، حافظ النظام التجاري الدولي على شكلٍ من أشكال الاستقرار تحت رعاية المؤسّسات الاقتصادية الدولية، خصوصًا منظمة التجارة العالمية. وهذه واحدة من النقاط الأكثر إثارة لمصير المؤسسات الدولية إذا انسحبت أميركا من هذه المؤسسات، أو رفضت قراراتها، أو منعتها من العمل على أراضيها، فإنَّ الشرعية الدولية لهذه المنظمات ستكون في خطر.

السياسات الحمائية التي يدعو إليها ترامب تثير قلقًا واسعًا في العواصم العالمية. من طوكيو التي تعتمد على التصدير، إلى برلين التي تُعدّ قاطرة الاقتصاد الأوروبي، هناك تخوُّفٌ حقيقي من اضطرابات سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف التجارة، وتهديد الاستثمار.

سياسة ترامب تُهدّد مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية. مع تراجع الثقة في النظام التجاري الذي تقوده واشنطن، قد يتجه بعض الدول، بخاصة الصين وروسيا، إلى البحث عن بدائل نقدية أو تعزيز استخدام العملات المحلية في المبادلات التجارية. هذا الاتجاه قد يؤثر على الاستقرار المالي ويضعف هيمنة الدولار. كما إنَّ منطقة الخليج والدول العربية تجد نفسها في قلب هذا الصراع الاقتصادي، نظرًا لاعتمادها الكبير على صادرات الطاقة وعلى الاستثمارات السيادية في الأسواق الغربية.

في المدى القصير، قد يبدو أنَّ الاقتصاد الأميركي يستفيد من تقليص العجز التجاري وزيادة الرسوم على السلع المستوردة، ما يدفع بعض الشركات إلى إعادة التصنيع داخل البلاد. لكن هذا التصوُّر سرعان ما يصطدم بواقع أنَّ هذه السياسات قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار داخليًا، وزيادة التضخم، وتباطؤ النمو، خصوصًا في حال ردت الدول المستهدفة بإجراءات مضادة.

ناقش عدد من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين تطورات الحرب التجارية التي يقودها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليس فقط ضد الصين كما في ولايته الأولى، بل هذه المرة ضد الاتحاد الأوروبي وباقي شركاء الولايات المتحدة التجاريين في آسيا والعالم والدستور الأميركي.

1. ترامب ضد المؤسسة: انقلاب دستوري مقنّع؟

من أخطر التحولات الحالية هو الصدام المباشر بين ترامب والمؤسسة النقدية الأميركية، ممثلة بـ”الاحتياطي الفيدرالي”. فبينما ينادي الفيدرالي بالاستقلال المالي، يسعى ترامب إلى إخضاعه سياسيًا عبر التهديد بإقالة رئيسه، بحجة أنَّ “الرئيس منتخب من الشعب ويملك الشرعية لاتخاذ أيِّ قرار”. و هذا الخطاب الشعبوي، الذي يُروّج له محامو ترامب، يُعدّ خرقًا للمبدَإِ الدستوري الأميركي القائم على فصل السلطات، ويمهد لما يُشبه “رئاسية اقتصادية مطلقة” تُقصي المؤسّسات التقليدية.

2. سياسات ترامب الاقتصادية: من الحمائية إلى العزلة الهيكلية

ترامب لا يُهاجم العولمة فقط، بل يسعى إلى تفكيكها وإعادة تشكيلها ضمن قواعد جديدة يحددها البيت الأبيض لا المؤسّسات الدولية.

3. أوروبا في قلب المعركة: من شريكٍ إلى هدف

الاتحاد الأوروبي، الذي طالما كان الشريك التجاري والسياسي والدفاعي الأوثق لواشنطن، يجد نفسه الآن في مرمى سياسة ترامب الانتقامية:

أوروبا تواجه خيارًا وجوديًا: هل تظل مرتبطة بأميركا والدعوة إلى التهدئة، اومحاولة الرد بالمثل، أم تتجه نحو شراكات جديدة مع الصين، الهند، وأفريقيا؟

4. العالم الآسيوي: خنق صناعي واسع

دول مثل الصين، اليابان، وكوريا الجنوبية تعاني من اضطراب سلاسل التوريد وتراجع الصادرات نحو السوق الأميركية:

5. الخليج العربي: بين المطرقة والسندان

دول الخليج، خصوصًا السعودية، الإمارات، قطر، والكويت، تتأثر بشكل مباشر:

كما قد يضعف موقف الخليج التفاوضي في مشاريع الطاقة والبتروكيميائيات، إذا استمرت الحرب التجارية في تقويض السوق العالمية.

6. أفريقيا: بين الضغط الغذائي وانخفاض المساعدات

7. الأفراد والقطاعات الاجتماعية: إرتفاع التكاليف وتراجع الفرص

الحرب التجارية تُصيب الفرد مباشرة:

8. مستقبل المنظمات الدولية: نحو التفكيك والانقسام؟

منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، والمنظمات البحرية والنقدية، كلها في مهب الريح:

9. هل تتفكك الفيدرالية الأميركية؟

التحركات الفردية لبعض الولايات الأميركية الكبرى مثل كاليفورنيا، ونيويورك، وواشنطن، توحي بإمكانية انفصال اقتصادي ناعم عن السلطة الفيدرالية:

وإذا استمر الصدام بين ترامب والمؤسسات، قد نصل إلى مرحلة تفكك سياسي-اقتصادي للفيدرالية الأميركية، أو على الأقل إلى تعددية مراكز القرار داخل أميركا نفسها.

10. الآثار قصيرة وبعيدة المدى على الكتل التجارية: خارطة شاملة

الكتلة قصيرة المدى بعيدة المدى
أميركا تضخم، فقدان ثقة، صدام داخلي تراجع هيبة الدولار، عزلة سياسية
أوروبا تراجع الصادرات، أزمة في الطاقة شراكات بديلة، قيادة عالمية جديدة
آسيا اضطراب الإنتاج، ضغط نقدي تمحور اقتصادي حول الصين والهند
الخليج انخفاض عوائد النفط، خطر على الصناديق إعادة توجيه نحو الشرق، دور جديد في الاقتصاد العالمي
أفريقيا ارتفاع أسعار الغذاء، توقف الدعم شراكات جنوب-جنوب، اندماج في تكتلات جديدة

11. الخاتمة: نحن لا نشهد مجرد أزمة… بل ولادة نظام عالمي جديد

نحن في مشهد يبدو وكأنه سيناريو لفيلم خيال سياسي، تُطرح الآن مخاوف حقيقية من أنَّ تصرفات ترامب قد تؤدي إلى إضعاف الحكومة الفيدرالية نفسها. والحقيقة ان ترامب، سواء أعيد انتخابه أم لا، فتح الباب على مصراعيه لمراجعة جذرية للنظام الاقتصادي والسياسي العالمي. لكن الأخطر من ذلك، أنه أطلق نقاشًا داخليًا في أميركا حول من يمتلك الشرعية الحقيقية: الرئيس المنتخب أم المؤسسات المستقلة؟

ما يُحدثه ترامب اليوم ليس مجرد صراع على الرسوم الجمركية، او تحديًا للخصوم، بل إعادة كتابة قواعد اللعبة، وهي بمثابة معركة فكرية واستراتيجية تهدف إلى قلب موازين القوى الاقتصادية العالمية. وقد يفتح الباب لنهاية نظام عالمي استمر منذ 1945، لصالح توازنات جديدة متغيرة لا مركز لها وإعادة تشكيل للنظام العالمي، بأبعاده الجيوسياسية والمالية، والتي قد تؤدي الى اضطرابات سلاسل الإمداد، وارتفاع تكاليف التجارة، وتهديد الاستثمار. وكما إنَّ أبعادَه ينتج عنها عالم مضطرب تزداد فيه الهوة بين الرؤية السياسية والواقع الاقتصادي.

نحن أمام مفترق طرق تاريخي، لا يشبه أي لحظة سابقة منذ الحرب العالمية الثانية. واللاعبون الدوليون، من الخليج إلى بكين، ومن بروكسل إلى جوهانسبيرغ، مطالبون بالتفكير بسرعة، والتكيف بذكاء، قبل أن يصبح “ما بعد أميركا” واقعًا لا مفرَّ منه.

العالم يتغيّر بسرعة، وما كان يُعتبر من المسلّمات الاقتصادية لم يعد كذلك. والتحدي الأكبر اليوم هو في القدرة على فهم هذه التحوّلات والتكيف معها قبل أن تفرض نتائجها قسرًا على الجميع.

Exit mobile version