نتنياهو يُفسِدُ فُرصةَ ترامب للسلام، ولكن…

يتطلّبُ وَضعُ المصالح الأميركية في المقامِ الأوّل التوسُّطَ لوقفِ إطلاقِ نارٍ فوريٍّ ودائمٍ في غزة. إذا مضى دونالد ترامب قُدُمًا ونجح، فقد يكون قد حقق إنجازًا يستحق عليه جائزة نوبل للسلام … ولكن ليس إذا ماتت غزة جوعًا.

الأمير فيصل بن فرحان: لا تطبيعَ سعوديًا مع إسرائيل إلّا إذا أقيمت دولة فلسطينية.

زَها حَسَن*

بعدَ الهجمات الإسرائيلية والأميركية على المواقع النووية الإيرانية وما تلاها من وقفٍ لإطلاق النار بين الجمهورية الإسلامية والدولة العبرية، بدا أنَّ اتفاقًا آخرَ باتَ وشيكًا، هذه المرة في غزّة. إلّا أنَّ كُلًا من الولايات المتحدة وإسرائيل أوقفتا مشاركتهما في المفاوضات أواخر الأسبوع الفائت، مُتَّهِمَتَين حركة “حماس” بغياب التنسيق وحُسن النية. “حماس”، المنظمة الإسلامية والسلطة الفعلية في قطاع غزة، تُريدُ من الولايات المتحدة ضمانَ استمرارِ وقف إطلاق النار، وسحب إسرائيل لجيشها، وزيادة الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الأخرى للمساعدات الإنسانية للفلسطينيين الذين يواجهون مجاعةً جماعية.

إنَّ استمرارَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التقيُّد بما تُقرّره إسرائيل والانسحاب من المحادثات يُعتَبَرُ خطأً فادحًا. ما لم يتم التوصُّلُ إلى اتفاق، فإنَّ رغبةَ ترامب في قيادةِ سلامٍ إقليمي أوسع يشملُ تطبيعَ العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية ستُصبحُ صعبةَ المنال والتحقيق. إنَّ مثلَ هذا الاتفاقَ الإقليمي الشامل ضروريٌّ ومُلحٌّ بشدة بعد 21 شهرًا من الموت والدمار في غزة والصراع المستمر بين إسرائيل ومعظم دول الشرق الأوسط.

مع ذلك، لم يُبدِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم القومي المتطرِّف أيَّ مؤشرات إلى استعدادهما لإعطاء الأولوية لسلامٍ دائم. وحتى في حال إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المُتَبَقِّين لدى “حماس” منذ نشرين الأول (أكتوبر) 2023، فإنَّ نتنياهو قد أكّدَ استحالة إنهاء الحرب في قطاع غزة إلى أن يتمَّ نزعُ سلاح “حماس” بالكامل ونفي قادتها. وحتى في هذه الحالة، يُريدُ أن تحتفظَ إسرائيل بالسيطرة الأمنية على القطاع والضفة الغربية إلى أجلٍ غير مُسمى. في هذه الأثناء، وبينما كان الوسطاء المصريون والقطريون والأميركيون يتنقّلون ذهابًا وإيابًا بين المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين، طرح وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس خطةً لنقل سكان غزة إلى ما يُسمى بالمدينة الإنسانية -ما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت بـ”معسكر اعتقال”- بُنيَ على أنقاض رفح بالقرب من الطرف الجنوبي للقطاع. وبموجبِ اقتراحِ كاتس، سيتم احتجاز أكثر من مليونَي فلسطيني في منطقةٍ تبلغُ ثلث مساحة واشنطن العاصمة، إلى حين إمكانية إعادة توطينهم في الخارج.

قال نتنياهو عن سكان غزة في أيار (مايو) الفائت: “نحنُ نُدمّرُ المزيد والمزيد من المنازل، وليس لديهم مكانٌ يعودون إليه”. وأضاف: “النتيجة الحتمية الوحيدة ستكون رغبة سكان غزة في الهجرة خارج قطاع غزة”. لذا، حتى لو وافق على وقف إطلاق نار قصير الأمد، فإنَّ تناولَ حقِّ الفلسطينيين في تقرير المصير لا يمكن أن يكونَ جُزءًا من أيِّ اتفاقٍ لأنه يعتبر فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة تهديدًا لإسرائيل، كما صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال زيارةٍ للبيت الأبيض في 7 تموز (يوليو).

لكن صيغة نتنياهو لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط غير مناسبة. لن تُرَحِّبَ أيُّ حكومةٍ عربية بالتهجير القسري للفلسطينيين. علاوةً على ذلك، أوضحت الدول العربية بشكلٍ مُتزايدٍ أنها لم تَعُد مُستَعِدّة لتعميق علاقاتها أو تطبيع العلاقات مع إسرائيل حتى تقبل إسرائيل بدولةٍ فلسطينية ذات سيادة. في غضونِ ذلك، أعلنت فرنسا أنها ستعترف بدولة فلسطين. وتتعرّضُ الحكومة البريطانية لضغوطٍ محلّية متزايدة لتتجاوز العقوبات التي فرضتها على وزراءٍ مُحدَّدين في الحكومة الإسرائيلية وتوافق على حظرٍ كامل على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل وتدعم ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية لنتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك التجويع المُتعمَّد لسكان غزة.

إذا تُرِكَ نتنياهو بدونِ رادع وبدون مراقبة، فقد ينجح قريبًا في إجبارِ الفلسطينيين على النزوح الجماعي، مما يمنعُ ترامب من إعادة ضبطِ سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بشكلٍ صحيح ومن تقليص الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. والحقيقة الصارخة هي أنَّ نتنياهو واحدٌ من حفنةٍ قليلة من الجهات الفاعلة الإقليمية التي لا تتوافق مصالحها بشكلٍ عام مع مصالح ترامب. ويتمتّعُ ترامب بمساحةٍ أكبر للمناورة من أيِّ رئيسٍ أميركي حديثٍ آخر. يجب عليه استخدام كامل ثقل القوة الأميركية لإجبار نتنياهو على إنهاء طموحاته الإقليمية وقبول سلام يتيح الاعتراف بدولة فلسطين المستقلة. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يكونَ بها ترامب صانعَ سلامٍ حقيقي في الشرق الأوسط.

عائقٌ ثابت

شَكّلَ نتنياهو عقبةً أمامَ أهداف ترامب في الشرق الأوسط منذ ولايته الأولى في البيت الأبيض. في ذلك الوقت، كان ترامب يأمل في جعل اتفاق سلام كبير في الشرق الأوسط إنجازه المُمَيَّز. لكن بسماحه لنتنياهو بالمشاركة في صياغة خطته لعام 2020 للسلام الإقليمي الشامل، قضى ترامب على أيِّ فرصةٍ كانت لديه للنجاح. سعت تلك الخطة إلى حلِّ جميع القضايا العالقة بين إسرائيل والفلسطينيين لصالح الدولة العبرية: لن يكونَ هناك انسحابٌ عسكري إسرائيلي من الضفة الغربية، ولا إخلاء لأيِّ مستوطنات إسرائيلية، ولا حقّ عودة للاجئين الفلسطينيين، سواء إلى إسرائيل أو إلى الأراضي الفلسطينية. وكما كان متوقَّعًا، رفض الفلسطينيون قبول خضوعهم الدائم لنظام حكمت محكمة العدل الدولية في العام 2024 بأنه يُعادل نظام الفصل العنصري. سمحت استراتيجية نتنياهو له بالظهور بمظهر صانع السلام، بينما حرمت ترامب من اتفاق سلام حقيقي يتناول الحقوق الفلسطينية بشكل مباشر، ويُمهّدُ الطريق لدمج إسرائيل في المنطقة.

ربما لم يُدرِك ترامب تمامًا مدى قيام هوية نتنياهو السياسية على إنكار الهوية الوطنية للفلسطينيين. وقد أكد نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأطول خدمةً، العام الماضي: “الجميع يعلم أنني أنا مَن عَرقَلَ، لعقود، قيامَ دولةٍ فلسطينية”. لم يكن يتباهى، بل قال الحقيقة. لأكثر من عقدين، كان له دورٌ فعّال في وضع العراقيل أمامَ أيِّ اتفاقٍ من شأنه تعزيز حقّ تقرير المصير الفلسطيني.

يتمتّعُ نتنياهو الآن بوضعٍ أفضل من أيِّ وقتٍ مضى، ليس فقط لمنع قيام دولة فلسطينية، بل أيضًا لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة للاستيطان الإسرائيلي. بعد أيامٍ من هجوم “حماس” على إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، قدمت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية خطةً إلى نتنياهو -كانت نسخٌ منها مُتداوَلة منذ العام 2018- توصي بإخلاء غزة تحت ستار “الإجلاء الطوعي الإنساني”. شنّت الحكومة الإسرائيلية حملةً عسكرية دمّرت معظم القطاع وأراضيه الزراعية؛ وما تبقّى من المباني سوّيَ بالأرض بشكلٍ منهجي في قصفٍ مُحكم.

ادَّعى نتنياهو مرارًا وتكرارًا أنَّ قتلَ الفلسطينيين -الذين تجاوز عددهم 59 ألفًا- وجعل غزة غير صالحة للعيش كان ضروريًا للقضاء على “حماس”. غالبًا ما يردُّ ويُرَدِّدُ منتقدوه بأنه أطالَ أمد الحرب في غزة ليُحافظ على منصبه بينما يواجه اتهاماتٍ بالفساد في المحكمة. لكن أهدافه الكامنة أكبر، ولولا المحاكمة الجارية، لكانَ نتنياهو على الأرجح ينتهجُ السياسات نفسها في غزة. وقد أنشأت حكومته مكتبًا للبحث عن دولٍ ثالثة مُستَعدّة لاستقبال الفلسطينيين من غزة. وفي الضفة الغربية -حيث لا يوجد “حماس” كعدوٍ يُشار إليه- شنّت القوات الإسرائيلية ما يُسمّى بعملية الجدار الحديدي في كانون الثاني (يناير) لتطبيق دروس ما أنجزه الجيش في غزة، كما قال كاتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، صراحةً. أُجبِرَ أكثر من 40 ألف فلسطيني على ترك منازلهم، في أكبرِ نزوحٍ تشهده المنطقة منذ حرب 1967 العربية-الإسرائيلية. دُمّرت البنية التحتية الأساسية ورموز الهوية الوطنية الفلسطينية، وُسِّعت الشوارع لإفساح المجال للدبابات الإسرائيلية المستقبلية. كما سيطر نتنياهو على سجل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية لتسريع نقل ملكية الأراضي الفلسطينية الخاصة إلى المستوطنين الإسرائيليين.

لا ينوي نتنياهو الانحراف عن برنامج حزبه الليكود، الذي ينصُّ على أنَّ “ما بين البحر ونهر الأردن ستكون السيادة الإسرائيلية وحدها”. وكما صرّح في كانون الأول (يناير) 2022، فإنَّ المبادئ التوجيهية لحكومته هي أنَّ “للشعب اليهودي حقًّا حصريًا لا جدالَ فيه” في الاستيطان في كاملِ “يهودا والسامرة”، بما في ذلك الضفة الغربية بأكملها. تحت قيادة نتنياهو، تحوّلت الأحزاب الصهيونية إلى يسار الليكود نحو موقفه. في تموز (يوليو) 2024، وافق البرلمان الإسرائيلي بأغلبية ساحقة على مشروع قانون يعارضُ قيامَ أيِّ دولةٍ فلسطينية تشملُ أراضي غرب نهر الأردن؛ وفي الأسبوع الماضي، دعت أغلبية برلمانية أكبر إلى ضم الضفة الغربية.

الأغلبية الأخلاقية

إذا كانَ لأحداثِ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وما تلاها من أحداث أثرٌ بالغٌ على الدول العربية الرئيسة، فهو أنَّ الحاجة إلى السلام والأمن الإقليميَين مُلحّة، وأنَّ السلامَ بين إسرائيل والفلسطينيين لا ينفصلُ عن هذا الهدف. لقد أصبح غيابُ الحلِّ بمثابةِ حبلِ مشنقةٍ للأمن القومي يلفّ عنقَ كلِّ دولةٍ في الشرق الأوسط، سواءً بسبب امتداد القتال منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أو خطر تدفُّق اللاجئين عبر الحدود، أو تأثير الاضطرابات الإقليمية المستمرّة على قدرة الدول على تحقيق أهدافها التنموية الوطنية الأساسية. وحتى مع وجودِ رغبةٍ لدى القادة العرب في تعميقِ العلاقات مع إسرائيل، فإنهم الآن مُقيَّدون بحقيقةِ أنَّ آراءَ شعوبهم تجاه إسرائيل سلبيةٌ للغاية، كما كتب مايكل روبنز وأماني جمال في مجلة “فورين أفّيرز” الأميركية في كانون الثاني (يناير).

كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، واضحًا: فبعد ما وصفه بـ”الإبادة الجماعية” التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، لا يمكن لبلاده قبول سوى عملية تطبيع تُشبه تلك التي اقترحتها مبادرة السلام العربية لعام 2002، والتي اعتُمِدَت في قمة جامعة الدول العربية: يجب على إسرائيل أوّلًا قبول دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وعندها فقط ستُطبّع المملكة العلاقات. في أوائل تموز (يوليو)، كرّر وزير خارجية السعودية، الأمير فيصل بن فرحان، هذا الموقف، قائلًا إنَّ وقف إطلاق النار في غزة يجب أن يكون “مقدّمة لقيام دولة فلسطينية”. وعلى الرُغم من تصريحات مسؤولي إدارة ترامب في حزيران (يونيو) بأنَّ لبنان وسوريا قد يكونان على وشك احتضان إسرائيل كجار، فإنَّ الهجمات الجوية الإسرائيلية التي قصفت شرق لبنان وقلب دمشق هذا الشهر تجعل ذلك مُستَبعَدًا في الوقت الحالي.

في غضون ذلك، تريد عناصر مهمة من قاعدة ترامب المحلية منه إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية، التي يعتقدون أنها تتباعد عن رؤية نتنياهو للشرق الأوسط. تُشكّكُ شخصياتٌ مثل الإعلامي تاكر كارلسون في الدعم المالي والعسكري والديبلوماسي غير المشروط الذي تُقدمه الحكومة الأميركية لإسرائيل. ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك: ففي حزيران (يونيو)، على سبيل المثال، انتقد المُذيع المؤثر ثيو فون “الإبادة الجماعية” التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين خلال مقابلةٍ مع نائب الرئيس جي دي فانس. هؤلاء المؤثّرون من حركة “لنجعل أميركا عظيمة مجددًا” ليسوا استثناءً؛ بل يعكسون تغييراتٍ أوسع نطاقًا في الحزب الجمهوري والبلاد. فقد وجدَ استطلاعٌ أجراه مركز “بيو” للأبحاث في آذار (مارس) أنَّ 37% من الجمهوريين عمومًا ونصف الجمهوريين الذين تقلُّ أعمارهم عن 50 عامًا يحملون الآن نظرةً سلبيةً تجاه إسرائيل. ووفقًا لاستطلاعٍ أجرته شركة “إبسوس” ومجلس شيكاغو للشؤون العالمية في أيار (مايو)، فإنَّ أكثر من 60% من الأميركيين يُوافقون الآن على أنَّ إسرائيل تلعب دورًا سلبيًا في “حل التحديات الرئيسة في الشرق الأوسط”.

مسارٌ واضح

يمنحُ هذا الوضع ترامب بعضَ الحرية للتخلّي عن نهجِ واشنطن المُتَّبَع منذ عقود، والذي يقضي بعدم وجودِ أيِّ خلافٍ بين السياستَين الإسرائيلية والأميركية في الشرق الأوسط. ينبغي على الرئيس الأميركي الاستماع إلى رأي شعبه، وتغيير علاقة الحكومة الأميركية بإسرائيل بحيث تعكسُ بشكلٍ أفضل تفضيلات الأميركيين، وكذلك رغبات معظم شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وهذا يعني مَنعَ نتنياهو من إفشال وقف إطلاق نار دائم؛ وقبول استحالة القضاء على “حماس” في المجتمع الفلسطيني في المدى القريب؛ والمساعدة على تعزيز المؤسّسات الفلسطينية؛ ووضع إنشاء الدولة الفلسطينية في صميمِ أيِّ اتفاقٍ إقليمي. إنَّ أيَّ اتفاقِ سلامٍ يقترحه ترامب أو يدعمه يجب أن يكونَ مختلفًا تمامًا عن الاتفاق الذي طرحه في العام 2020، عندما وقف نتنياهو إلى جانبه في البيت الأبيض من دون نظيرٍ فلسطيني.

يجب على ترامب أن يسعى إلى اتفاقٍ يحظى بدعم مجموعةٍ واسعة من أصحاب المصلحة في الشرق الأوسط، وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي، وفي أوروبا. سيحتاجُ إلى دعم العديد من الحكومات في تلك المناطق للمساعدة على توفير مليارات الدولارات اللازمة لتمويل إعادة إعمار غزة. العناصر الأساسية لاتفاق وقف إطلاق النار الذي يمكن أن يضعَ الأساسَ لسلامٍ إقليمي أكثر شمولًا موجودة بالفعل في وثيقتين: ما يسمى بإعلان بكين 2024 (الذي وقعته الفصائل السياسية الفلسطينية الرئيسة، بما فيها “فتح” و”حماس”، العام الماضي) وخطة جامعة الدول العربية للإنعاش المُبكر وإعادة الإعمار والتنمية في غزة، بدعمٍ من منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 عضوًا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة. ووفقًا لتقرير الخبير في شؤون الشرق الأوسط جيريمي سكاهيل، فقد عرض مفاوضو “حماس” على إسرائيل صيغة “الكُل مقابل الكُل” طالما أنَّ الولايات المتحدة تضمنُ عدم استئناف إسرائيل هجماتها بعد إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين.

للاستفادة من هذه الفرصة، يجب على ترامب أن يكونَ مُستَعِدًا لإلزام إسرائيل بعدمِ استئنافِ الأعمال العدائية في أيِّ مكانٍ في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ثم سيتعيّنُ عليه الحصول على موافقة إسرائيلية للسماح لقوات حفظ سلام دولية بدخول غزة، وفي نهاية المطاف الضفة الغربية، بالتزامن مع التفاوض على اتفاقٍ سياسي أوسع. وقد تم نشر قوات مصرية وقوات من الاتحاد الأوروبي بنجاح خلال وقف إطلاق النار قصير الأمد الذي بدأ في كانون الثاني (يناير)، وينبغي استدعاؤها مرة أخرى. فوجودها قد يسمح للموقِّعين تنفيذ إعلان بكين، الذي وافقت فيه “حماس” على تسليم الحُكم والسيطرة الأمنية في غزة إلى السلطة الفلسطينية بقيادة “فتح”، ووافقت فيه “فتح” على إجراءِ انتخاباتٍ وبدء عملية دمج “حماس” في منظمة التحرير الفلسطينية.

تُظهِرُ الحلولُ الناجحة لصراعاتٍ أخرى كانت مستعصية في السابق، مثل عقود من الصراع الطائفي والأهلي في إيرلندا الشمالية، أنَّ السلامَ الدائم لا يمكن تحقيقه إلّا بدعوة جميع الأطراف المعنية. و”حماس” ليست الكيان الوحيد الذي يسعى إلى تحقيق النتيجة المحددة في إعلان بكين. أظهرَ استطلاعٌ للرأي أجراه معهد التقدم الاجتماعي والاقتصادي، وهو مركز أبحاث مقره مدينة رام الله بالضفة الغربية، في آذار (مارس)، أنَّ أكثر من 60% من الفلسطينيين في غزة يؤيدون حكومة وحدة وطنية لحُكم ما بعد الحرب، وأنَّ أكثر من النصف قالوا إنهم سيؤيدون أيضًا حكم السلطة الفلسطينية.

فقط عندما تخضع غزة والضفة الغربية لسلطةٍ واحدة، يمكن أن تبدأ المهمة الهائلة المتمثّلة في معالجة مشاكل غزة وإعادة إعمارها. ولا يُمكِنُ إلّا لقيادٍة فلسطينيةٍ مُوحَّدة وشرعية أن تضمنَ الالتزامَ بشروطِ أيِّ اتفاقٍ سياسي مستقبلي مع إسرائيل. في نهاية المطاف، وللتوسُّطِ في سلامٍ حقيقي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، سيحتاج ترامب إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وهي المحاور المُعتَرَف به دوليًا والذي يمتلك الأهلية القانونية لتوقيع اتفاقيةٍ نيابةً عن جميع الفلسطينيين. ومن خلال دعم إدراج “حماس” تحت مظلة المنظمة، فإنه سيخفف من احتمالية وجود مُفسدين.

كَسرُ القالب

كان تحقيقُ كل هذا على الأرجح مهمةً شاقةً بالنسبة إلى معظم رؤساء الولايات المتحدة على مدى العقود الثلاثة الماضية. لكن حرب غزة كلفت الولايات المتحدة مبلغًا هائلًا. ووفقًا لتقديرات كلية واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون، زوّدت الولايات المتحدة إسرائيل بما لا يقل عن 22.7 مليار دولار خلال الأشهر الاثني عشر الأولى من الحرب. وهذا يفوق بكثير الحد الأقصى السنوي البالغ 3.8 مليارات دولار المنصوص عليه في مذكرة تفاهم مدتها عشر سنين بين الولايات المتحدة وإسرائيل تمتد حتى العام 2028. علاوةً على هذه المساعدة المالية، تورّطت الحكومة الأميركية في لعبة “ضربِ خلدٍ” دولية نيابةً عن إسرائيل لمنع دول مثل فرنسا والمملكة المتحدة من فَرضِ عقوبات على إسرائيل أو الاعتراف بدولة فلسطينية.

بدلًا من إنفاق هذه الموارد والطاقة السياسية لكسب حرب إسرائيل الدائمة في غزة -وهي حربٌ يعارضها شركاء الولايات المتحدة العرب- يجب على إدارة ترامب إعادة ضبط السياسة الأميركية نحو تحقيق السلام. كان ترامب مستعدًّا بشكلٍ فريد للانفصال عن إسرائيل في العديد من القضايا، على سبيل المثال، من خلال عقد صفقات مع جماعة الحوثي المسلحة في اليمن وفتح حوار ديبلوماسي مع الزعيم السوري الجديد، أحمد الشرع، على الرُغم من تحالفه السابق مع تنظيم “القاعدة”. سيضطرُّ ترامب إلى الانفصال عن نتنياهو مُجَدَّدًا، بغضِّ النظر عن تداعيات ذلك على المستقبل السياسي للزعيم الإسرائيلي. عليه أن يتراجعَ عن تصريحه السابق الداعم لإعادة توطين الفلسطينيين خارج غزة، وأن يُوضّحَ للإسرائيليين مباشرةً أنَّ أمنهم مُرتبطٌ بأمن الفلسطينيين وسائر المنطقة. مع استطلاع رأي حديث أجراه مركز “بيو” للأبحاث، والذي أشار إلى أنَّ أكثر من 80% من اليهود الإسرائيليين يثقون بترامب كزعيمٍ عالمي، يُمكنه أن يجادلَ بثقة بأنَّ معارضة حقِّ تقرير المصير للفلسطينيين ستقوِّضُ أمن إسرائيل وتمنع التطبيع مع الدول العربية وتكامل إسرائيل الإقليمي.

في ما يتعلق بإسرائيل والفلسطينيين، أبدت إدارة ترامب بالفعل مرونةً من خلال الخروج عن تقليد واشنطن بفتح قنوات اتصال مع “حماس” لتأمين إطلاق سراح مواطن أميركي محتجز في غزة. والآن، يتطلّبُ وَضعُ المصالح الأميركية في المقام الأول التوسُّطَ لوقف إطلاق نار فوري ودائم في غزة. إذا مضى ترامب قدمًا ونجح، فقد يكون قد حقق إنجازًا يستحق جائزة السلام، ولكن ليس إذا ماتت غزة جوعًا.

Exit mobile version