ماكرون يَختارُ ظِلَّهُ: “الفتى المُعجِزة” لرئاسة حكومة فرنسا

محمّد قوّاص*

أطاحت “الثورة الفرنسية” الحُكمَ الملكي وأعدمت الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت وأقامت نظامًا جمهوريًا. غير أنّ المُتَهَكِّمين في هذه الأيام، لطالما وصفوا رئيس الجمهورية في فرنسا بأنّه “ملكٌ جمهوري”. فدستور “الجمهورية الخامسة” (1958) منحَ الرئيس صلاحياتٍ كُبرى يُعَيِّنُ من خلالها رئيس الحكومة ويُشارِكُ في تشكيلها وتعديلها وإقالتها. وإذا ما كان يملكُ في البرلمان الغالبية المُطلَقة، فعندها قد يُوصَفُ ساكن الإليزيه بـ “الديكتاتور الجمهوري”.

كان لويس الرابع عشر يقول “أنا الدولة، والدولة أنا”. وصار رئيس الجمهورية في فرنسا أيضًا يعملُ ضمنيًا بهذه العقيدة. ولئن يتولّى إيمانويل ماكرون رئاسة الجمهورية في الولاية الثانية، فإنّ أجندته وحساباته هما اللتان تفرضان مزاجًا حكوميًا أنهى صلاحية حكومة إِليزابيت بورن في التاسع من الشهر الجاري لصالحِ حكومةٍ جديدة يرأسها “الفتى المُعجِزة” غبريال أتال.

في الأمرِ مُفاجأة. أتال هو أصغر رؤساء حكومات فرنسا سنًّا (34 عامًا). ويكاد السياسي الشاب أن يكونَ صنيعةَ ماكرون نفسه الذي اكتشفه وعَيّنه في المناصب التي شَهِدَت صعوده الاستثنائي السريع منذ أن كان مُتحدِّثًا باسم “حزب الرئيس” وصولًا إلى تسلّمه أول منصب وزاري في العام 2018 وهو في سنّ 28 عامًا.

جرى ترويجُ همهماتٍ بشأنِ تبرُّمِ وزراءٍ كبار، مثل وزير الداخلية جيرالد دارمانان والمالية برونو لومير، من قرارٍ جعلَ أتال رئيسًا عليهم، وهم من الأوزان الثقيلة في السياسة والحكومة. لم يثبت ذلك، وجرى نفي الأمر، لكن الإنكارَ لا يُبدّدُ أجواءً غير حاضنة للوزير الأول الجديد. وراحت قريحةُ المُحلّلين تُبدِعُ في محاولةٍ لتفسيرِ وفَهمِ قرارِ ماكرون المُجازَفة في تعيينِ شخصيةٍ سياسية شابة لا خبرة لها، لإدارةِ حكومةٍ تُديرُ شؤونَ بلدٍ كبيرٍ مُعَقّدٍ كفرنسا. قيل إنّه رئيس حكومة شاب تشبه تجربته تجربة الشاب الاشتراكي لوران فابيوس الذي عُيِّنَ رئيسًا للوزراء في العام 1984 في عمر 37 عامًا.

غيرَ أنّ فابيوس كان قويًا بالحزب الاشتراكي حين كان حزبًا كاسحًا يحظى بغالبيةٍ مُريحة داخل الجمعية الوطنية. كما إنَّ فابيوس كان مُغطّى بإيديولوجية الزعيم الكاريزماتي الاشتراكي، رئيس الجمهورية آنذاك فرانسوا ميتران. في المقابل فإنَّ أتال لا يمتلكُ إلّا رضا رئيس الجمهورية ورعايته. ويتمّ تسويق رئيس الوزراء الجديد من قِبل أوساط الإليزيه بأنّه شخصية سياسية ناجحة، بارعٌ في التواصل واستخدام وسائط الإعلام الاجتماعي، وكان لافتًا في إدارة الوزارات التي تولّى قيادتها. لكنه يُوصَفُ أيضًا بأنّه جريءٌ ومُجازِف، ولطالما كان شجاعًا من خلال الإعلام في ردّ سهام المُنتقدين لماكرون وحكومته أثناء أزمة “السترات الصفر”، حين كان غيره يتردّد أو يعكف عن هذه المهمّة. قال في العام 2021: “أنا جندي أكون أينما طُلِبَ منّي أن أكون”.

غيرَ أنَّ خصومَ ماكرون ونهجه يُعارِضون خيار رئيس الجمهورية وينتقدون أداء أتال نفسه. وحين يروق لأوساط الإليزيه التذكير بإنجازات أتال في وزارة التربية وإقدامه، لا سيما في منع لبس العباءة (وهي ليست زيًا إسلاميًا) داخل المدارس ومكافحته لظاهرة التنمّر فيها، يردّ المعارضون: وهل الإنجاز “الأمني” هذا يرفع من مستوى التعليم في مدارس فرنسا، وهي التي تُعاني من تدهورٍ في مستوياتها الى حدود مقلقة؟

لم يأتِ ماكرون برئيسِ حكومةٍ سياسي من طرازٍ ثقيل منذ أن غادر إدوار فيليب هذا المنصب في العام 2020. قيلَ إنّ “الملك” لا يريد ملوكًا حوله ولا حتى أمراء. يأنس للبيروقراطيين المُتَّحَدّرين من إدارات الدولة، فيُمارسون دورهم كموظّفين كبار وليس كسياسيين كبار. لكنَّ أوساطًا مُراقِبة في باريس ترى أنّ الرئيس الفرنسي اختار هذه المرّة “ظلّه” في موقع رئاسة الحكومة على نحوٍ يجعلُ من أتال واجهةً تُنفِّذُ إرادة الاليزيه من دون أي استقلالية يُفتَرَض أن يتمتّع بها عُرفًا الوزير الأول.

لكنَّ الألسُنَ اللّاذعة بدأت تتحدّث عن أنَّ غبريال أتال قد يُصبِحُ المُرشَّح الأوفر حظاً لتمثيل حزب ماكرون “النهضة” في الانتخابات الرئاسية المقبلة في العام 2027، قاطعًا الطريق على كبار الطامحين في دوائر الماكرونية، وخصوصًا طموحات حليفها إدوار فيليب. والشاب يتمتّعُ بشعبيةٍ في استطلاعٍ للرأي أجرته جريدة “الفيغارو”، كشفَ أنّ الفرنسيين يُفضّلونه رئيسًا للحكومة بنسبة 36 في المئة مُتقدّمًا على شخصية ثقيلة مثل برونو لومير الذي حظي بنسبة 31 في المئة. لكن أمر رئاسة الجمهورية في المقابل ما زال مُبكِرًا، قابلًا للأخذ والردّ ويعتمد على قدرة رئيس الحكومة الجديد على إقناع فرنسا بأنّ سنّه ليست مانعة لطموحاته الرئاسية، وأنّ ما قد يُحقّقه في الحكومة العتيدة حتى ذلك الحين سيمنحه مفاتيح إضافية للإليزيه.

تمنح استطلاعات الرأي اليمين المتطرّف في فرنسا تقدّمًا مُقلقًا. والواضح أنّ ماكرون وحكوماته -كما تلك الجديدة التي يرأسها أتال- راحت وستروح باتجاه أقصى اليمين لمواجهة ذلك الشعبوي المتطرّف. عملت حكومة إليزابيت بورن المُستَقيلة على تمرير قوانين تكاد تكون من صلب البرنامج السياسي لحزب “التجمع الوطني” الذي تتزعّمه تاريخيًا مارين لوبن مرشحة رئاسة الجمهورية ضدّ ماكرون لمرَّتَين. وإذا ما يُعابُ على أتال أنّه غادر الحزب الاشتراكي اليساري ليلتحق بماكرون وحزبه في العام 2016 ويُمارِسُ معهما سياساتٍ يمينية، فإنّ ماكرون نفسه يُمثّلُ نموذجًا، من حيث أنّه أيضًا سياسي شاب برز كوزيرٍ في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند، فاستقال وغادر يساريته المُحتَملة وارتجل حزبًا قاده إلى قصر الرئاسة.

أمام الماكرونية وماكرون نفسه اختبارٌ جديد. ستكون الانتخابات الأوروبية في حزيران (يونيو) المقبل استحقاقًا قد يكون قاسيًا إذا ما فشل “حزب الرئيس” في الحصول على نتائج تكون على مستوى ما يريده الرئيس في السنوات المُتَبَقّية من ولايته. في البال أنّ “الغالبية الرئاسية” حقّقت في الانتخابات التشريعية عام 2022 فوزًا بسيطًا أفقدها الغالبية المُطلَقة، وحَوَّلَ البرلمان إلى مشهدٍ مُتَشَظٍّ يصعب من خلاله حُكم البلاد. اضطرت حكومة بورن إلى عقدِ صفقاتٍ مُوجِعة مع التيارات السياسية المتنافسة، أو الذهاب إلى خيارٍ دستوري تُجازِفُ فيه الحكومة ببقائها مقابل فرض تمرير القوانين.

في الهمس، أنَّ ماكرون أتى بغبريال أتال لأنّه لم يجد غيره مُنافسًا، وأنّه أراد الشاب الذي يستطيع أن يواجه جوردان بارديلا السياسي الشاب (28 عامًا) والموهوب الذي يرأس حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرّف. وإذا ما صحّ ذلك، فإنّ حكومة فرنسا وخطاب الماكرونية برمّتها قد يذهبان نحو مزيدٍ من النزوع نحو اليمين المتطرّف، لنزعِ البساط من تحت بساط لوبَن وحزبها وطموحاتهما. غير أنّ السحر قد ينقلبُ على الساحر، ذلك أنَّ الناخبَ الفرنسي في الانتخابات الأوروبية، بعد أشهر، أو تلك الرئاسية، بعد 3 أعوام، قد يُفضّلُ انتخابَ اليمين المتطرّف بصفته أصلًا، فيما تبدو الماكرونية واليمين التقليدي فرعًا ينهلُ من كتب لوبَن وصحبها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى