النكسة الأفريقية…

محمّد قوّاص*

تخسر فرنسا نفوذها في أفريقيا. كانت باريس استشعرت هذا المصير منذ سنوات، وخصوصٍا في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند. وحين لاحَ حينها أنَّ تنظيمَ “القاعدة” ودوائره المُحيطة باتت تُهدّدُ نظام الحكم في مالي، أطلقت باريس في أوائل آب (أغسطس) 2014 عملية “برخان” العسكرية تحت عنوان “محاربة الإرهاب”.

كان لافتًا أنَّ فرنسا لم تجد الدعمَ الكافي من واشنطن والحلفاء في أوروبا. كان يبدو أنَّ باريس تريد أن تخوضَ المعركة لوحدها تجنّبًا لمنافسةٍ تأتي من الحلفاء بمناسبة مشاركتهم في عمليةٍ عسكرية تفتح في الوقت نفسه الطريق لاختراق احتكار فرنسا لنفوذها على مستعمراتها السابقة. وحين أدركت باريس أنَّ المعركة ضد الجماعات الإرهابية قاسية معقّدة لها امتدادات جيوستراتيجية لم تكن في الحسبان، بدا أيضًا أنَّ داخل المعسكر الغربي مَن يريد لفرنسا أن تدبّرَ لوحدها ورطتها في الوحول الأفريقية. فكان أن أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 انتهاء عملية “برخان” بعد 8 سنوات من إطلاقها.

اكتشفت باريس (وحلفاؤها أيضًا) أن الجماعات الإرهابية، سواء كانت تعمل لحسابها أو لحساب الآخرين، هي أداةٌ ناجعة لمكافحة الوجود العسكري الفرنسي من جهة ومكافحة النفوذ الفرنسي في دول المنطقة من جهة ثانية ومكافحة التمدد الغربي في القارة السمراء من جهة ثالثة. وقد لا يبتعد هذا السياق من منافسة كلٍّ من روسيا والصين للنفوذ الغربي في أفريقيا وقيامهما بغزو قلوب الأفارقة بالإيديولوجيا والعسكر والمال.

سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تضييق هوة توسّعت بين فرنسا وحلفائها في أفريقيا. جال الرجل في دول المنطقة مروّجًا لفرنسا جديدة غير استعمارية، مُشَجِّعًا للديموقراطية وحقوق الإنسان، ساعيًا إلى تبرئة بلاده من آثامٍ تُعاني منها بلدان المنطقة. رعى في مدينة مونبيليه الفرنسية في تشرين الأول (اكتوبر) 2021 مؤتمرًا للشباب الأفارقة والنخب الجامعية الذين تحاوروا معه حول السيادة واستقلال قارتهم والتوق إلى بناء دول تتمتع بحرية كاملة غير تابعة للخارج تزدهر داخلها شروط الحداثة وحرفة التداول السلمي للسلطة.

وسواء تغيّر أسلوب فرنسا من دون أن تتغيّر أهداف شركاتها لاستغلال مناجم اليورانيوم (توفّر النيجر 25 في المئة من حاجة أوروبا من اليورانيوم، وهي الموّرد الثالث لفرنسا)، أم أنَّ باريس كانت تتطلع إلى تحديث سياساتها الأفريقية من خلال دعم ترشيق الأنظمة السياسية في أفريقيا، فإنَّ الأمرَ لم يُصدّقه الأفارقة وإن عوّلوا عليه لإحداث التغيير في بلادهم. لكن الأكيد أنَّ الأمرَ لم يَرُقْ للأنظمة الحاكمة حتى تلك الصديقة لباريس.

في هذا السياق يتمّ هذه الأيام تداول فيديو لماكرون في آخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 يقف بحضور رئيس بوركينا فاسو الأسبق روك كابوريا ويردّ على سؤال يطالب فرنسا بتزويد البلاد بالكهرباء. دافع ماكرون عن موقف بلاده لجهة مغادرتها حقبة الاستعمار، مُعتبرًا أنَّ مشاكل الكهرباء في بوركينا فاسو باتت من مسؤولية رئيسها. فكان أن ابتسم الرئيس الأفريقي متفاجئًا، ثم غادر مُمتعضًا، وسط ذهول ضيفه الذي كان يعلّق على الواقعة بتهكّم ومزاح.

تريدُ نخب أفريقيا الشابة والمتعلمة تخليص بلادها من هذه العلاقة المرضية مع المستعمر القديم. تتحمل فرنسا وغيرها مسؤولية النهل من خيرات دول أفريقيا، لكن مسؤولية الفقر والعوز وتنامي معدلات الهجرة هي مسؤولية أنظمة الاستقلال التي ورثت زوال الاستعمار في فترة 1960-1970. لم يُعرَف عن هذه الأنظمة إلّا النزوع إلى الديكتاتورية والاستحواذ على السلطة والثروة والعمل وفق منظومة فساد فاقمت من مشاعر اليأس لدى شعوب المنطقة منذ عقود.

والمفارقة أن الطبقة العسكرية التي أطاحت المدنيين واستولت على السلطة في بوركينا فاسو (كانون الثاني/ يناير 2022) ومالي (أيار/ مايو 2021) وغينيا (أيلول/ سبتمبر 2021) والنيجر هذه الأيام هي من صلب الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ استقلالها.

والمفارقة الأخرى أنها استولت على السلطة تحت شعار شعبوي يسهل من خلاله جذب العامة ومصادرة مطلبها بالتخلص من الاستعمار القديم-الجديد المتمثل بفرنسا فسهل عليها تسيير المظاهرات الشعبية الكارهة لفرنسا.

والمفارقة الثالثة أن مصارعة فرنسا تأتي من خلال الانخراط في الصراع الدولي ونقل تلك الدول إلى المعسكر المقابل الذي توفّره روسيا والصين في أفريقيا، بحيث رفعت المظاهرات المؤيدة للانقلاب ضد الرئيس المنتخب محمد بازوم في نيامي أعلام روسيا من دون خجل أو وجل. حتى أن بازوم في مقاله قبل أيام في ال”واشنطن بوست” حذّرَ من “أن تقع منطقة الساحل الوسطى بأكملها في يد النفوذ الروسي”.

لا تمثّل حلقة الانقلاب في النيجر في 26 تموز (يوليو) الماضي مسارًا ضد فرنسا وحدها. كانت أوروبا والحلف الأطلسي تنبهت لـ”جبهة أفريقيا” بصفتها الحدود الجنوبية ل”الناتو” بعد أن اكتشف أخسرًا حدودًا له في آسيا مقابل الصين في منطقة الإندو-باسيفيك. يتواجد في مالي حضور عسكري لفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة (ضمن تحالف لمكافحة الإرهاب) وهذا ما يجعل من الحدث في هذا البلد تحديًا للغرب ولمنظومته الجيوستراتيجية وليس تحديًا لفرنسا وحدها. وما جرى ضد الرئيس بازوم في النيجر قد لا يكون نهاية حقبة لفرنسا بل بداية حقبة مفصلية في صراع الكبار على النفوذ في القارة السمراء.

للصراع الغربي ضد الصين وروسيا امتدادات في أفريقيا. هكذا بدأت باريس وواشنطن وعواصم الغرب الكبرى تقيس الأمور. تلقت فرنسا صفعة جديدة اهتزت لها وجوه الحلفاء أيضًا. بدا أن ردّ الفعل وجب أن يتجاوز النسخة المُنفعلة الغاضبة التي أظهرتها باريس، وأنَّ على المقاربة أن تكون أكثر حصافة لمواجهة “النكسة الأفريقية” بأدواتٍ أفريقية أولًا، (تحرك دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا-ايكواس) وأدوات أممية مدافعة عن الديموقراطية في العالم تاليًا، قبل اللجوء إلى أدواتٍ خشنة أوسع ربما تكون من ضرورات المرحلة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى