كميليا كلوديل: ضحيةُ رودان؟ أَم مُلهمَتُه؟ (6 – الجزء قبل الأَخير)

زيتية “أُوجيني بْلو” بريشة كميليا

هنري زغيب*

بعد خمسة أَجزاء من هذا المقال المتسلسل، من مطالع كميليا كلوديل حتى لقائها رودان وارتيادها محترفه، وما كان بينهما من علاقة حب عاصف، بدأَت ملامح مرضها العصبي الذي سيغيِّر علاقتها برودان.

في هذا الجزء السادس (قبل الأَخير) كيف بدأَت تظهر لدى كميليا مطالعُ مزاج متقلِّب سيؤثِّر على حبها.

كميليا تعاند رودان

في ربيع 1886 دعت جيسي صديقتَها كميليا إِلى منزل أَهلها في إِنكلترا. وافقت كميليا وانتقلَت الصبيَّتان إِلى هناك في أَيار/مايو وأَمضتا ستة أَشهر. وكان رودان في الفترة ذاتها مصمِّمًا على زيارة صديق له في لندن مع نهاية أَيار/مايو. وحين علِمَ أَهل جيسي بذلك، دعَوهُ لتمضية نهار كامل في منزلهم (بيتربورو – 122 كلم شمالي لندن). قَبِلَ رودان الدعوة بفرح لأَن الزيارة ستتيح له رؤْية المرأَة التي يحبُّها. ولكنْ… فوجئَ بكميليا تتجاهلُه، ولا ترحّب به كما كان يتوقَّع. لذا أَمضى ليلةً واحدةً لدى أَهل جيسي وغادر صباح النهار التالي شاعرًا بخيبة مُرَّة.

أَمضت كميليا ذاك الصيف مع صديقتها جيسي في جزيرة وايت (نحو 8 كلم عن شاطئ هامشاير – جنوبي شرقي إِنكلترا) لدى صديق لها آخَر كان ذات فترةٍ يقاسمها العمل في المحترف. وفي آب/أُغسطس التحق بها شقيقُها بُول.

ظنَّ رودان أَن كميليا قد تعود في نهاية آب/أُغسطس، فدعاها وصديقتها جيسي لمرافقته إِلى بلجيكا. رفضَت كميليا، بحجة انهماكها في تهيئة تمثالها “جيغانتي” لمعرض الخريف في نوتنغهام (180 كلم شمالي غربي لندن). لكنَّ الواقع أَنَّ عوارض الاضطراب النفسي بدأَت تظهر لديها من دون سبب واضح.

كميليا: تمثال “ساكونتالا” بالمرمر

كميليا تستنجد برودان

مع كلِّ رفضها وعنادها المتوتر، كتبَت رسالة إِلى رودان تبوح له فيها عن بؤْسها في إِنكلترا، وتسأَل مساعدته إِياها في وضعها الصحي.

لم تعُد إِلى فرنسا إِلَّا في أَيلول/سبتمبر، وكانت أَنجزَت بين 1886 و1887 عددًا من التماثيل، بينها “رأْس جيسي ليبْسْكومْب” و”رأْس شقيقها بول”، وعددًا من اللوحات الزيتية، بينها “وجه أُوجيني بْليه Plé”، “وجه ماريا بايّيت Paillette”، “رودان بقرأ في كتاب” وسواها.

ما أَسباب مزاجها المتقلِّب مَرَضيًّا؟

أَكثرُ من سبب للتقلُّب والتغَيُّر في مزاجها نحو رودان: الأَرجح أَنَّ أَحدها بدايةٌ لـحالة انهيار عصبي حادّ تعاني من اضطراباته من دون أَن تكون لرودان علاقة مباشرة بها. سبب ثانٍ: أَنها كانت تحت ضغط الرعب من أَن تكتشف أُمُّها علاقتها السرية بــرودان فتزداد حالة التوتُّر بينهما وهي أَصلًا متوتِّرة قبلذاك. فالوالدة كانت تأْمل أَن تكون لابنتها حياة عائلية ذاتَ زواج شرعي وإِنجاب. وكانت كميليا تُشيح عن موقف والدتها وتتخطَّاها بأَن بقيَت في محترف رودان مرات موديلًا أَمامه، ومرات مساعدته في تماثيله. سبب ثالث: حَمْلُ كميليا من رودان وإِرغامُهُ إِياها على الإِجهاض.

سنة 1886 أَنجز رودان بالطين تمثال “الفكرة” عن كميليا موديلًا أَمامه. وحين نحته بالمرمر جاء فيه رأْسٌ غارقٌ في الصخر، والمرأَة تائهة الأَفكار كأَنها مسجونة في ضِيق. وكان ذلك حدسًا من رودان أَن ستُصبح كميليا لاحقًا في الحجْر جراء انهيارها العصبي.

“لويز كلوديل” بريشة كميليا

كميليا في حالات هُدُوئها

بالفعل، حين لا تكون كميليا مضطربة المزاج، تَروح تَرجو رودان أَن يساعدها على تغذية مسيرتها الفنية. وأَكثر: في فترات صحوها الهادئ، كانت ترافقه علَنًا إِلى دعوات العشاء على أَنها طالبة لديه. وأَكثر بعد: اتصل رودان بصديقه الناقد بول لُوروَى كي يكتب في مجلة “الفن” مقالًا عن كميليا امتدح فيه تمثالها رأْس شقيقتها لويز. ونشر مع المقال رسومًا لكميليا كانت وضعتْها إِبان عطلة عائلية سنة 1885.

وسنة 1887 كتَب عنها لُوروَى مقالًا نقديًّا ثانيًا عن تمثال “رأْس شقيقها بول” كان معروضًا في صالة المعرض السنوي عامئذِ. وكذلك مع ذاك المقال نشر لها رسومًا بالفحم، وهنَّأَها على أَنها وَجدَت أَخيرًا أُسلوبها الفني الخاص.

على الرغم من فقدان رودان ثقته بعاطفة كميليا نحوه، ارتبط معها بعقْدٍ في تشرين الأول/أَكتوبر 1886، تعهَّد لها فيه أَنْ تكون طالبته الوحيدة ويُقدِّمها إِلى أَصدقائه ويقوم بكل ما يلفت الانتباه إِلى تماثيلها في المعارض. وأَكثر: عرض عليها أَن يسافرا معًا إِلى إِيطاليا ستة أَشهر وفي ختامها يتزوَّجُها. ذلك أَن كميليا سأَلته مرارًا أَن يتزوَّجها فتنال سمتين: الفنانة والزوجة.

على أن الرحلة لم تتم ولا تمَّ الزواج.

“رأْس جيسي” بإِزميل كميليا

“ساكونتالا” رائعة كميليا

سنة 1887 أَنجزت كميليا رائعتها الكبرى بالمرمر: تمثال ساكونْتالا” الكبير الحجم (190x110x 60 سنتم)، أَمضت لإِنجازه أيامًا طويلةً في محترفها تعمل 12 ساعة يوميًّا في انغماس كامل بلا توقُّف. يتشكَّل التمثال من رجل وامرأَة، مستوحًى من أُسطورة هندية ترقى إِلى القرن الخامس، عن أَمير صادف في رحلة صيدٍ الصبيةَ ساكونتالا وكان يتبناها ناسك. أَحبَّها بجنونٍ صاعق واتحدا فقدَّم لها خاتمًا رمز عهد الزواج، وعاد إِلى قصره. ولما طالت عودته إِليها، قصدَت القصر لكن الخاتم وقع منها في النهر، وكان الخاتم دليلها إِليه. عادت إِلى بيتها ووضعَت طفلها الذي كانت حبلَت به منذ ليلة زواجها. وذات يوم وَجَدَ الخاتمَ صيّادٌ في النهر فأَهداه إِلى الأَمير الذي راح يبحث عن زوجته حتى وجدَها وأَعادها إِلى القصر أَميرةَ القصر.

شكَّلَت كميليا تمثالها هكذا: الأَمير جاثٍ أَمام حبيبته، نادمًا على ضياعه عنها، فيما سانكونتالا تحضنُه بذراعيها، في جوٍّ من الحنان واللذة والفرح حتى العبادة.

ما الذي جرى في ما بعد بين رودان وكميليا؟

وكيف انتهَت قصتُهما؟

هذا ما أُفصِّلُهُ في الجزء المقبل والأَخير من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى