الإنتخاباتُ الإسرائيلِيّة: إنتفاضَةٌ فَلَسطِينِيَّةٌ على الطَريق

الدكتور ناصيف حتّي*

الإنتخاباتُ الإسرائيليةُ الخامسة خلال السنوات الأربع الأخيرة، إن دَلَّت على شيء، فإنَّها تُؤشِّرُ إلى وجودِ أزمةٍ سياسيّةٍ كبيرةٍ في النظامِ الحزبي الإسرائيلي: من أهمّ سماتِ هذه الأزمة  تَعَدُّدُ الأحزابِ بعد التراجعِ المُدوّي لحزب العَمَل الذي حَكَمَ لسنواتٍ عديدة في إطارِ سقوط ِ اليسار، وكذلك تراجع قوّة حزب الليكود اليميني ولو بشكلٍ أقل من حزب العمل، وهو الحزبُ الذي كان له أيضًا وجودٌ طويلٌ في السلطة، وذلك لمصلحةِ صعودٍ قويٍّ للأحزاب الدينية المُتشدّدة. وقد أدّى ذلك كلّه إلى حالةِ عَدَمِ الاستقرارِ السياسي هذه. ويرى أكثر من مُراقبٍ أن الحكومةَ التي سيُشَكّلها بنيامين نتنياهو قد لا تُعمِّرُ طويلًا أُسوَةً بسابقاتها.

هناك سمتان أساسيتان طبعتا الإنتخابات هذه المرة: أوّلًا نسبة المشاركة التي زادت عن ٧١ في المئة، وهي الأعلى منذ العام ١٩٩٩. ويدلُّ ذلك على حالةِ الإستنهاضِ السياسي عند اليمين الديني. وثانيًا الفوزُ المُدوّي  لهذا اليمين الديني المتطرّف على حسابِ اليمين السياسي التقليدي. وللتذكير فإن التحالفَ الرباعي الذي فاز ب٦٤ مقعدًا، وسمح لنتنياهو أن يُكَلَّفَ بتشكيلِ الحكومة الجديدة، ضَمَّ إلى جانب تكتل الليكود الذي يرأسه نتنياهو ثلاثةَ أحزابٍ دينية مُتشدّدة. فيما فاز اليمين التقليدي الذي شكّلَ الحكومة السابقة (بشكلٍ خاص تحالف رئيس الوزراء السابق يائير لبيد ومعه شريكه في السلطة بيني غانتس) ب٥١ مقعدًا. والباقي ذهب الى أحزابٍ صغيرة.

أمام هذا الواقع، وجد نتنياهو نفسه أمام مأزقٍ حيث شعرَ بأنه أصبحَ أسيرًا لليمين الديني المُتشَدّد. لذلك حاولَ منذ اليوم الأوّل تشكيلَ حكومةِ وحدةٍ وطنية مع لبيد وغانتس، الأمر الذي رفضه الأخيران. لذا سيدفعه هذا الوضع إلى تأليفِ حكومةٍ من التحالف الفائز وهو ما سيُجبِره على منح حقيبة الأمن الداخلي الى إيتمار بن غفير، أحد أبرز الرموز الكاهانية (نسبة الى مائير كاهانا الحاخام الذي يُعتَبَرُ رمزًا  للتطرّف الديني في إسرائيل)، كذلك قد يضطر إلى منح وزارة الدفاع لحليفٍ انتخابي آخر وأحد رموز التطرّف الشديد، بتسلئيل سموتريتش.

لا شكَّ بأن حكومةً من هذا النوع سيكون عنوانها الفعلي المزيد من الاستيطان، وشنّ الحروب ضد الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، وشَرعنة الاحتلال عبر قراراتٍ مختلفة تُتَّخَذُ في الكنيست (ضمّ مناطق جديدة من الضفة الغربية الى إسرائيل). وفي هذا السياق بدأت إسرائيل العمل في فترة حكومة لبيد على إطلاقِ مشروعِ إقامة متنزه استيطاني يربط القدس بالبحر الميت على نحو مليون دونم من الأرض. سيؤدّي هذا المشروع، فيما لو تمَّ تنفيذه، أو بالأحرى سيُسَرِّع في قتلِ أيِّ إمكانيةٍ مُستَقبلية لإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ أنه سيؤدّي إلى فصلِ شمال الضفة الغربية ووسطها عن جنوبها كلّيًا.

تنشيطُ سياسة الاستيطان، وتقطيعُ أواصل الضفة الغربية، وتزايدُ النشاط الهادف إلى تهويد القدس، وكذلك الاعتداءات على المسجد الأقصى باسم الأصولية اليهودية، وإسقاطُ أو إلغاءُ العناصر الرئيسة على الأرض التي يُفتَرَضُ أن تُشَكِّلَ مداميكَ بناء الدولة الفلسطينية مُستَقبلًا حسب القرارات الدولية ذات الصلة، كلّها عناصرٌ تهدفُ إلى إلغاءِ أسُسِ الحلِّ السلمي العادل والشامل والواقعي والقائم على الدولتين اللتين تعيشان جنبًا إلى جنب (إسرائيل وفلسطين) والعودة بالنزاع الى نقطة البداية. نزاعٌ يقومُ من طرف إسرائيل، باسم الأصولية الدينية أو القومية، على العمل على إلغاءِ الآخر في هويته وخصوصيته وحقه ككل شعوب العالم في التعبير، عبر قيام الدولة المستقلة، عن هذا الحقّ الوطني .

الاستناد إلى موازين القوى القائمة في لحظة مُعَيَّنة على الأرض، وإلى عقائد دينية ودنيوية تحرمُ أو تنكرُ للآخر حقّه في الوجود وفي الحياة كجماعة وطنية، وتستفيد من لحظةٍ دوليةٍ وإقليمية سمحت أو ساهمت لوجود اولوياتٍ أُخرى ضاغطة، بوضعِ هذه المسألة على “الرف” لن تُنهي هذه القضية كما علّمنا التاريخ. والمعروف من دروسٍ مُشابِهة في التاريخ أنَّ هذا النكران والتجاهل لا بدَّ أن يؤديان إلى مزيدٍ من التعقيدات الحاملة لكافةِ أنواعِ التوترات والحروب والصراعات المختلفة الدرجات والأحجام أيًّا كان حجم مسرحها. هذا التغييب الذي هو نتيجة التهميش الإقليمي والدولي من جهة، وسياسة الإلغاء الإسرائيلية وغياب ميزان قوى ضاغطٍ على الأرض من جهة أُخرى، كلّها عناصرٌ أجَّلَت الانفجار ولكنها لم تُلغِ مُسَبّباته، ما يعني أن انتفاضةً فلسطينية ثالثة قد تُولَدُ في أيِّ لحظة في القريب.

كلمةٌ أخيرة: إن أيَّ طرفٍ مَعنِيٍّ بقيامِ استقرارٍ إقليمي بشكلٍ قوي، واحتواءِ كافةِ مصادرِ التوتّر التي تُوَظَّفُ في صراعاتِ المنطقة، عليه الانخراط الفعلي، وبالتالي الفعّال، في إعادةِ إحياءِ عملية السلام ولو بشكلٍ تدرّجي، مع إعادةِ التذكير أن الوقتَ لا يعملُ لمصلحةِ السلام الفعلي كما أشرنا سابقًا.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى