الإبتِكارُ في الطاقة المُتَجَدِّدة هو أكثر من مُجَرَّد تِقَنِيّةٍ جديدة

بقلم نوال الحوسني*

فيما نبدأ الإنسجام والتأقلم وإعادة التواصل مع عالمٍ مزّقته جائحةٌ لا تعرف حدوداً، تلوح أهدافُ اتفاقية باريس للمناخ بشكلٍ كبير في أفقٍ يقترب أكثر من أي وقت مضى. إذا أردنا تقليل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وزيادة حصة سوق الطاقة المُتجدّدة وتحسين كفاءات الطاقة، فإن الإبتكار في صناعة الطاقة المُتجدّدة أمرٌ ضروري في العقد المقبل. على الرغم من أن المطلوبَ كثيرٌ، إلّا أن المهمة ليست مستحيلة. في الواقع، إنها قابلة جداً للتحقيق.

لكن دعونا نُبدّدُ سوءَ فهمٍ شائعاً: الإبتكار لا يعني التقنيات الجديدة، ليس دائماً. على الرغم من أن هذَين المَفهومَين غالباً ما يتشابكان، إلّا أنّهما ليسا مُتشابهَين. في حين سيستمر البحث والتطوير اللّازمَين في شراء واختبار التكنولوجيا الجديدة لتعزيز قدراتنا في مجال الطاقة المتجدّدة، يُمكننا الإبتكار بطرقٍ أكثر من هذه فقط. في الواقع، ستُشكّل هذه النقطة مبدأً أساسياً للبينالي الثالث، وأسبوع الإبتكار الإفتراضي الأول للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (إيرينا)، والذي ينتهي يوم الخميس.

كان الابتكار في قلب صناعتنا منذ إنشائها. بفضل الرغبة الدؤوبة في إنتاج حلول طاقة أنظف وأكثر استدامة، تُمثّل مصادر الطاقة المُتجدّدة الآن أكثر الحلول فعالية من حيث التكلفة لتوليد طاقة جديدة في العديد من الاقتصادات. في الواقع، نظراً إلى زيادة الإنتشار والتسارع التكنولوجي، والطاقة الشمسية أو الكهروضوئية، فقد انخفضت أسعار الوحدات بنسبة تصل إلى 90 في المئة منذ نهاية العام 2009، وفقاً لتقرير “إيرينا” عن تحليل التكلفة من العام 2019 – وهي علامة تشجيع خاصة لاقتصادات الإمارات ودول الخليج الأخرى المُشمِسة التي تتبع استراتيجيات تنويع الطاقة.

اليوم، تُمثّل مصادر الطاقة المُتجدّدة ثلث إجمالي توليد الطاقة العالمي، ونحن نشهد نمواً كبيراً في حلول الطاقة المُتجدّدة المُتغيّرة. ومع ذلك، ستكون قطاعات الصناعة الثقيلة والنقل وحدها مسؤولة عن 38 في المئة من جميع انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون على مستوى العالم في العام 2050، ما لم نُقدِم على تغييرات كبيرة في صنع السياسات والنهج المُتَّبعَين بالنسبة إلى إنتاج الطاقة واستهلاكها.

لتحقيق انبعاثات صفرية في قطاعات الصناعات الثقيلة والنقل، والحدّ من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية، يجب أن تُشكّل مصادر الطاقة المُتجدّدة ما يصل إلى 50 في المئة من الطلب النهائي على الطاقة في هذه القطاعات بحلول العام 2050، وفقاً لأحدث تحليل ل”إيرينا”. وهي تُوفّر حالياً ما يقل قليلاً عن 25 في المئة. للتلخيص: إن المزيد من الإبتكار ليس رفاهية، إنه ضرورة.

إذاً، كيف نصل إلى هناك؟ نحن بحاجة إلى حلولٍ من شأنها أن تجعل إنتاج الطاقة ونقلها واستهلاكها في العالم أكثر مرونة، وتسمح باستخدامٍ أعلى وفعّال من حيث التكلفة لمصادر الطاقة المُتجدّدة وتمكين جيلٍ جديد من المُستهلكين.

لقد رأينا في السنوات الأخيرة كيف أثّرت مفاهيم الكهربة واللامركزية والرقمنة في تحوّل نماذج صنع السياسات والمشتريات، فاتحةً أنظمة مرنة لزيادة نشر التقنيات المُتجدّدة في جميع أنحاء العالم – والأهم، للإقتصادات النامية – خصوصاً مع إنتاج الطاقة الشمسية والهيدروجين والتخزين. حول هذا الموضوع، تُحدد “إيرينا” من خلال “30 موجزاً ​​للإبتكار” أولويات الابتكار التي يجب على صانعي السياسات مُعالجتها لإزالة الكربون من أنظمة الكهرباء في مرحلة التعافي من فيروس “كوفيد -19”.

عندما يتعلّق الأمر بإنتاج الطاقة الشمسية، فإن الثورة الصناعية الرابعة الناشئة، أو تكنولوجياتها، قد سهّلت وسرّعت الكفاءات بمعدل مُذهل. تقنيات الأتمتة مثل الطباعة المُضافة والثلاثية الأبعاد، على سبيل المثال، خفّضت بشكلٍ كبير التكاليف التشغيلية لأجهزة الطاقة الشمسية. في بعض الحالات، يُمكن الآن إنتاج ألواح كهروضوئية أكبر بثلاث مرات في وقت قصير – لقد تمّ تقليل العمليات التي كانت تدوم أياماً عدة إلى بضع ساعات. وتعني هذه العمليات المُبتَكَرة أن دولة الإمارات، التي تضم بالفعل أكثر من ثلثي إجمالي الطاقة المُتجدّدة المُثبتة في دول مجلس التعاون الخليجي، وفقاً لأرقام “إيرينا” لعام 2018، يُمكنها تسريع طموحها لتوليد 50 في المئة من طاقتها من مصادر الطاقة المُتجدّدة بحلول منتصف القرن تماشياً مع استراتيجية الإمارات للطاقة 2050.

إلى جانب إنتاج الطاقة الشمسية، ستلعب تقنيات الثورة الصناعية الرابعة أيضاً دوراً رئيساً في دمج المزيد من الطاقة المُتجدّدة في الشبكة. على سبيل المثال، يُمكن أن تُوَفِّر تكنولوجيا ال”بلوك تشاين” (blockchain) طُرُقاً جديدة لتشغيل نظام الكهرباء، من خلال السماح بدمج حصصٍ أعلى من توليد الطاقة المتجددة المُتَغيّرة.

لا يُمكن ل”بلوك تشاين” فقط تمكين مُستهلكي الكهرباء من خلال السماح لهم بالتحكّم في عادات استهلاك الطاقة وخطط الدفع الخاصة بهم، ولكنها تسمح لمُشغّلي أنظمة التوليد المُوَزَّع بتحسين عمليات الشبكة من خلال إدارة جميع الأجهزة المُتَّصلة من خلال جهازٍ ذكي مركزي واحد، ما يُتيح المرونة والتسعير في الوقت الحقيقي.

عندما يتعلق الأمر بالهيدروجين المُتجدّد، يُمكنه أن يدعم تكامل توليد الكهرباء المُتجَدّدة بشكل أكبر من خلال فصله عن الإستخدام المحلي في وقت مُعَيَّن لتحقيق التوازن بين الطلب والعرض. إن تعدّد استخدامات غاز الهيدروجين المُخَزَّن يعني أنه يُمكِن استخدامه في مجموعة واسعة من التطبيقات، مثل محطات الطاقة والتخزين والنقل وحتى في المنازل والشركات. ينبغي النظر في استخدامه على نطاق أوسع.

كما أن طُرُق التخزين الجديدة تُعتَبَرُ أيضاً عنصراً حاسماً في مشهدٍ مُبتَكَر للطاقة المُتجدّدة. تَبرُزُ أنظمة تخزين البطارية كواحدة من الحلول الرئيسة لدمجِ حصصٍ عالية بشكل فعّال من مصادر الطاقة المُتجدّدة في أنظمة الطاقة في جميع أنحاء العالم. أوضحت الأبحاث الحديثة التي أجرتها “إيرينا” كيف يُمكن استخدام تقنيات تخزين الكهرباء في مجموعةٍ مُتنوّعة من التطبيقات في قطاع الطاقة، من التنقل الإلكتروني وتطبيقات ما وراء العدّاد إلى حالات الإستخدام على نطاق المرافق.

مع تطور هذه التكنولوجيا الجديدة، يجب أن نظل مُدرِكين أنه لا يجب تحميلها إمكاناتٍ اقتصادية أكبر فحسب، بل أن تساهم أيضاً في إحداث تأثير إيجابي دائم في تنميتنا الإجتماعية وسُبُل عيش الناس.

هذا هو المكان الذي يجب أن يتجاوز فيه الإبتكار التكنولوجيا وأن يتسرَّب إلى تفكير صانعي السياسات. يجب أن نتطلّع إلى بدء نماذج أعمال جديدة وذكية تدعم قضية الخدمات الجديدة وتحفز المزيد من تكامل تقنيات الطاقة المتجددة – سواء كان ذلك من خلال الطاقة كخدمة أو تداول الندّ للند أو نماذج الدفع حسب احتياجاتك (pay-as-you-go). علاوة على ذلك، يجب أن نتطلع إلى تصميم هياكل سوق جديدة وأُطُرٍ تنظيمية التي تُنَشّط وتُوَلِّد فُرَصاً جديدة للداخلين إلى السوق، مُحَفِّزةً ريادة الأعمال والشركات الناشئة المُبتَكِرة.

إن مثل هذه الأدمغة هي التي نحتاجها في هذه الأوقات. في الواقع، في أوقات التغيير الكبير، تُحدِّدُ القدرة على التكيّف والإبتكار ما إذا كنّا سننجح أو سنفشل في المستقبل. إن 2020 هو أحد هذه الأوقات التاريخية؛ إنه عامٌ تاريخي حيث سيُحدِّد كيف نعيش نحن وذريتنا في السنوات المقبلة، وإلى أي مدى سيعيش جنسنا البشري على هذا الكوكب. والتحوّل العالمي للطاقة هو أفضل مكان لبدء التكيّف مع هذا الوضع الطبيعي الجديد من خلال تبنّي روح الإبتكار البديهية.

  • الدكتورة نوال الحوسني هي المندوبة الدائمة لدولة الإمارات العربية المتحدة لدى الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (إيرنا). يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @NAH_208

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى