صفعة أوكرانيا… إفتِراقُ حسابات موسكو وبكين!

محمّد قوّاص*

مهما كانت الخسائر العسكرية الروسية إثر الهجوم المُضاد الذي شنّته القوات الأوكرانية في خاركيف شمالًا بعد خيرسون جنوبًا، فذلك لا يعني أن روسيا قد خسرت الحرب.
بيد أن حجم الخسائر وقدرة القوات المهاجمة على استعادة أراضٍ خلال أيام استغرق احتلالها ستة أشهر يوجّه صفعةً حادة للحملة الروسية في أوكرانيا منذ شباط (فبراير) الماضي ولسمعة دولة عظمى لطالما هاب العالم جبروت جيشها.
وإذا ما استطاعت موسكو إعادة ترتيب انتشارها وتغيير خططها، وفق ما دعا الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، وردّت بهجومٍ مُضاد قد يكون أكثر عنفًا وتدميرًا، فإن روسيا مع ذلك قد فقدت زمام المبادرة وانتقلت في حملتها إلى وضعيةٍ دفاعية ستحاول من خلالها الحفاظ على ما جنته ميدانيًا، والسعي إلى عدم الانزلاق نحو الاستنزاف القاتل.
والثابت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يواجه وضعًا داخليًّا صعبًا (لا سيما غضب وضغوط أنصاره من القوميين فما بالك بخصومه) ويحاول التعمية عليه من خلال استدراج تضامنٍ خارجي ولو شكلي من قبل مَن يعتبرهم حلفاء. وحتى اندفاعه نحو الصين وبقية دول “منظمة شنغهاي للتعاون” يُظهره في موقعٍ ضعيف حتى أمام حلفائه وهو الذي، من خلال حملته الأوكرانية، أراد أن يقود التحالفات ويديرها لا أن يلجأ لها ويلوذ بظلّها.
ويتسرّب من تصريحات بوتين في قمة شنغهاي في مدينة سمرقند الأوزبكية حقيقة المشهد ودقّته في العلاقة بين موسكو وبكين. شكر الزعيم الروسي نظيره الصيني شي جين بينغ على موقف بكين “المتوازن” من الأزمة الأوكرانية. وفي ذلك اعترافٌ أن الصين ليست حليفًا لروسيا في حربها في أوكرانيا، وأن عدم وقوف بكين ضد روسيا في هذه الحرب هو “توازن” يكتفي به بوتين ولا يطمح لأكثر منه.
والحال أن بكين لم تؤيد موسكو في الحملة الأوكرانية ولم تعترف قبل ذلك بقرار موسكو ضم القرم إلى روسيا. ولئن وجهت بكين اللوم إلى الغرب وحمّلته مسؤولية تفاقم التوتر الذي أدّى إلى تلك الحرب، فإن بكين عوّلت وما زالت على قطف ثمار الأزمة التي باتت دولية وجعل روسيا أداة من أدوات القوة لديها، وبالتالي تحسين موقع الصين وطموحاتها الدولية أمام الخصم الأميركي لا سيما في منطقة الاندو-باسيفيك.
غير أن الصفعة العسكرية الخطيرة ضد القوات الروسية في أوكرانيا هزّت حسابات الصين وزعيمها. يُمثّل الحدث اختلالًا في موازين القوى لصالح التحالف الغربي. ويوجّه هذا التطور الميداني المفاجئ إنذارًا وتحديًا إلى بكين في خططها (التي باتت عسكرية معلنة من خلال المناورات الأخيرة) لإلحاق تايوان بالسلطة المركزية في بكين ولو بالخيار العسكري. وقد تضطر صفعة أوكرانيا بكين إلى صيانة موقفها من تلك الحرب لجهة تأكيد التموضع المحايد وتظهير الوصل الدائم بينها والعاصمة الأوكرانية كييف.
يكشف التقدم العسكري اللافت للقوات الأوكرانية عن التحوّلات الميدانية النوعية التي تُحدِثها الأسلحة الأميركية-الغربية المتطورة الني أُرسِلَت إلى القوات الأوكرانية. ويُسَجَّل هنا أن الأداء العسكري الأوكراني سابقٌ على توفّر السلاح النوعي، ذلك أن المقاومة الأوكرانية الشرسة هي التي صدّت الهجمات الروسية الأولى التي كانت متوجّهة نحو كييف وأجبرت القيادة الروسية على سحب قواتها في نيسان (أبريل) وإعادة توجبه المعركة نحو منطقة دونباس شرق البلاد ومناطق الجنوب على ساحل بحر آزوف والبحر الأسود.
لن تنتهي المعارك قريبًا. بات الأوكرانيون أكثر تمسّكًا بتحرير بلادهم وطرد المحتل الروسي. وبغضّ النظر عن وجاهة الأمر من الناحية العسكرية، فإن ما حصل أخيرًا، ووفق ما يرى خبراء عسكريون غربيون قد يؤدي إلى انهيارات غير محسوبة داخل المنظومة العسكرية الروسية بما يجعل طموحات الأوكرانيين أمرًا قابلًا للتحقق.
وما حصل أخيرًا يدفع الطرف الغربي إلى الانخراط أكثر من دون أيِّ لبسٍ وتردّد في الاستمرار بتوفير الدعم العسكري الذي ما انفكّ يُطالب به الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي. فما يحققه الأوكرانيون قد يكون ناجعًا لوقف الحرب الروسية، وربما جرّ موسكو نحو تسوية تَحرُمُ روسيا من أوراق القوة لديها على طاولة المفاوضات.
على أيّة حال فإن روسيا تخسر ثمار السياسة في هذه الحرب حتى لو أن الميدان العسكري لم يقل كلمته الأخيرة. خطيئة بوتين أنه كشف عن قوة روسيا العسكرية بدل الاستمرار في التلوبح بها والزعم بضراوتها. وحين تسرّبت تقارير عن استيراد روسيا أسلحة من كوريا الشمالية ومُسَيّرات (أظهرت ضعفها) من إيران، فإن الأمرَ فضح تصدّعًا بنيويًا في المناعة العسكرية الروسية، لكنه كشف اختلالًا أكثر فداحة في موقع روسيا الجيوستراتيجي وعدم كفاءة للمطالبة بتغيّر النظام الدولي.
فَهِمَ بوتين في سمرقند أن الصين استنتجت بقلق “هزائم” أوكرانيا الروسية واستنتج بدوره احتمال أن تبتعد بكين من مغامرات موسكو. يحتاج بوتين هنا إلى نصرٍ عاجل ما يعد أوكرانيا بمزيد من النار والجنون.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى