المغرب والجزائر: “الإخوة الأعداء”!

جاء قطع العلاقات الديبلوماسية بين المغرب والجزائر في الصيف الماضي في وقتٍ شديد الحساسية بالنسبة إلى واقع البلدين ليُعيد إلى الأذهان أصداءَ تاريخٍ طويلٍ من التوتّر وانعدام الثقة بين الجارتين.

الرئيس عبد المجيد تبون: يستخدم قضية الصحراء لتغطية عجز حكومته في مواجهة الأزمة المعيشية التي تعيشها الجزائر

إلهام رشيدي*

انتهى الصيف الفائت بمفاجأة ثقيلة بعد أن أعلنت الجزائر قرارًا أحاديًا بقطع العلاقات مع المغرب بعد مرور أقلّ من أسبوعٍ على تصريح الرئاسة الجزائرية أنها تعتزم “إعادة النظر” في علاقاتها مع جارتها اللدود. وعلى الرغم من امتداد العداء والمنافسة بين البلدين على مدار عقود، إلّا أن التوترات التي طالما شهدتها العلاقات الثنائية قد دخلت مُنعَطفًا جديدًا في كانون الأول/ديسمبر 2020 عندما أعلن المغرب تطبيع علاقاته مع إسرائيل في مقابل اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بسيادة المملكة على أراضي الصحراء الغربية، وهو الموقف الذي أدّى بالجزائر إلى عزل نفسها ديبلوماسيًا عن المغرب بشكل تدريجي، بخاصة بعد أن أعلنت إسبانيا في آذلر/مارس 2022 تأييدها لخطة الحكم الذاتي للصحراء الغربية التي تدعمها المغرب وهو ما جاء صدمة هازمة للجزائر.

شهدت الشهور التالية تصاعد حملات الهجوم اللفظي بين البلدين لتصل ذروتها في شهر تموز/يوليو 2021 عندما أعلن عمر هلال، سفير المغرب لدى الأمم المتحدة، تأييده الصريح لحق سكان منطقة القبائل في تقرير مصيرهم ردًّا على الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو، وهو ما أثار غضب الحكومة الجزائرية التي سارعت لاستدعاء سفيرها لدى المغرب “للتشاور”. وفي الوقت نفسه تصدّرت الصحف تقاريرٌ إعلامية – نفتها المغرب- تُشيرُ إلى تورّط المملكة في استخدام برنامج “بيغاسوس” للتجسّس الإلكتروني لاستهداف هواتف شخصيات عامة ومسؤولين سياسيين وعسكريين جزائريين.

وزاد الطين بلة، اتهام مكتب الرئاسة الجزائري المملكة المغربية بدعم جماعتَين تُدرِجهما الجزائر في قوائم المنظمات الإرهابية وهما “رشاد الإسلامية” و”ماك” الانفصالية في منطقة القبائل، وحمّلها، بدون دليل مادي، مسؤولية الحرائق التي اجتاحت الحياة البرية في الجزائر.

وفي حلقة جديدة من حلقات تدهور العلاقات، نسبت الجزائر إلى المغرب مقتل ثلاثة سائقين جزائريين في الصحراء الغربية من طريق قصف شاحناتهم أثناء قيامها برحلاتٍ تجارية بين الجزائر وموريتانيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. هذا الحادث الذي تجنّب المغرب الردّ عليه رسميًا، أثار مخاوف من التصعيد واندلاع صراعٍ عسكري مباشر للمرة الأولى منذ عقود. ولكن الحادث المأسوي أدى إلى تأجيج التوترات بدرجةٍ لم تشهد لها المنطقة مثيلًا إلّا بعد انتهاء وقف إطلاق النار الذي دام لما يقارب 29 عامًا بين المغرب والبوليساريو في 2020.

كانت الحدود البرية بين المغرب والجزائر قد أُغلِقَت في العام 1994 بناءً على طلبٍ تقدّمت به الجزائر بعدما اتّهمت المغرب أجهزةَ المخابرات الجزائرية بالتورّط في تفجيرات مراكش باستخدام عملاء فرنسيين من أصول شرق أفريقية، وفرضت استخراج تأشيرة دخول على المواطنين الجزائريين، وطردت أولئك الذين لا يحملون رخصة إقامة. وبالتالي لم تكن القطيعة الديبلوماسية الأخيرة هي الأولى من نوعها بين البلدين، ولكنها جعلت الأمر الواقع أكثر وضوحًا، وزادت عمق الهوّة التي تجلّت في إغلاق المجال الجوي الجزائري أمام الطيران المغربي ورفض الجزائر تجديد عقد خط الغاز المغاربي-الأوروبي الذي يحمل الغاز إلى إسبانيا عبر المغرب.

عبر تاريخهما المشترك، كانت مشكلة الصحراء الغربية شوكةً في خاصرة العلاقات الجزائرية-المغربية وسببًا من أسباب العداء بين البلدين. فالرباط تعتبر المستعمرة الإسبانية السابقة جُزءًا لا يتجزّأ من أراضيها وتعتبر هيمنتها وسيطرتها عليها مسألة كرامة وطنية تعتمد عليها سياساتها الخارجية. أما الجزائر فتدعم “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب”، المعروفة ب”بوليساريو”، التي تُطالب باستقلال الإقليم.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1975 شهد الصراع تحوّلًا جيوسياسيًا كبيرًا لصالح المغرب نتج عنه المزيد من التعقيد في العلاقات بين البلدين. حيث قامت الممملكة بتنظيم ما يُعرَف بـ “المسيرة الخضراء” التي زحف فيها نحو 350 ألفًا من المغاربة غير المسلحين إلى مناطق في الصحراء الغربية، وخلال بضعة أيام تم توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية بين المغرب وإسبانيا وموريتانيا علي أن يتم بموجبها إنهاء الوجود الإسباني في الصحراء.

لكن الاتفاقية على أهميتها، فشلت في حلّ المشكلة التاريخية بين البلدين لأنها حملت إعترافًا ضمنيًا بإقصاء كل من الجزائر وجبهة البوليساريو اللتين لم تشاركا فيها. قامت الجزائر فجأة بطرد 45,000 عائلة مغربية مقيمة على أراضيها، وأتبَعَت ذلك في آذار/مارس 1976 باعترافها بالجمهورية العربية الصحراوية التي أقامتها جبهة البوليساريو المسلحة، وهو ما أدّى بالمغرب إلى قطع علاقاته الديبلوماسية مع الجزائر على الفور.

في محاولةٍ لتبريرِ موقفها المُتشدّد من مسألة الصحراء الغربية، تقول الحكومة الجزائرية إنها إنما تؤيد الحق في تقرير المصير، وهو المبدأ الذي قامت عليه الدولة الجزائرية الحديثة، وتدّعي أيضاً أن أي تسوية للنزاع على أراضي الصحراء الغربية يجب أن يتم تحت إشراف دولي وبرعاية الأمم المتحدة وليس من خلال المفاوضات المباشرة مع المغرب، وهو الموقف الذي يزيد من استعداء المغرب ويؤجج التوتّر بين الدولتين.

لكن على الرغم من محورية قضية الصحراء الغربية في الصراع المغربي-الجزائري، إلّا أنها في الحقيقة ما هي إلّا ذريعة يستند إليها البلدان لتبرير تناحرهما المُستمر، وتغطية السبب الحقيقي للصراع وهو التنازع على الأرض والرغبة في السيطرة الإقليمية التي هيّأت التربة لاندلاعِ حربٍ بينهما تركت أثرًا لا يُمحى في جسد علاقاتهما.

وبحلول ستينات القرن الماضي، ازداد التباعد الكبير في المسار السياسي والإيديولوجي بين الدولتين حديثتي الاستقلال وضوحًا، خصوصًا عندما رحّبت الحكومة الجزائرية الاشتراكية باستقبال شخصياتٍ يسارية من المعارضة المغربية على أراضيها وسمحت لهم بالعمل في جامعتها المرموقة حينذاك.

ومن المؤسف بالفعل أن الدولتين اللتين تجمعهما عوامل مشتركة من لغة ودين وثقافة فرّقهما النظام السياسي الحاكم وما أملاه من خلافات ونزاعات وتحالفات دولية -بخاصة إبان الحرب الباردة- وهو ما أدّى بهما إلى مسارات مُتفرّقة، بل ومتباعدة تختلف تمامًا عن التوافق والتعاون اللذين كانا يصبغان علاقتهما عندما اشتركتا في النضال ضد المستعمر الفرنسي.

شهد الكفاح المشترك ضد الاستعمار وحدة المصائر والمسارات، وطالما اعتمدت الجزائر على الحدود المغربية واتّخذتها بمثابة القاعدة الخلفية لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية. وحتى تاريخ استقلال الجزائر، إرتبطت النُخَبُ في البلدين بعلاقاتٍ وثيقة، بل بروابط عائلية أحيانًا، وهناك العديد من الأمثلة على شخصياتٍ سياسية معروفة بصلاتها بكلا البلدين في ذلك الوقت.

على سبيل المثال كان المغربي عبد الكريم الخطيب، وهوسياسي ووزير مغربي ومن أشد مؤيدي النظام الملكي المغربي، ينحدر من أصولٍ جزائرية. وكان ابن عمه يوسف الخطيب قائدًا لجيش التحرير الوطني الجزائري خلال حرب التحرير الجزائرية. أما على الجانب الجزائري فكان شريف بلقاسم السياسي البارز الذي ينتمي لمجموعة “وجدة” -وهي الفصيل المؤيد للرئيس الجزائري السابق هواري بومدين والذي استخدمه في الاستيلاء على الحكم في صيف العام 1962- مغربي الأصول. وحتى الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، وهو بالطبع جزائري الأصل إلّا أنه مغربي المنشأ.

لهذا السبب وعلى الرغم من مسيرته الطويلة كديبلوماسي جزائري مرموق إلّا أن انتخابه في العام 1999 أحيا آمال النخبة السياسية المغربية في تحسين العلاقات بين البلدين، ولكن لم تشهد فترة حكمه التي استمرت عشرين عامًا أي تغيير إيجابي مُبشّر، بل إن البلدين لم يعقدا أي محادثات رسمية على مستوى القمة منذ التقى الملك محمد السادس والرئيس الراحل بوتفليقة في العام 2005 على هامش قمة جامعة الدول العربية التي عُقدت في الجزائر العاصمة.

أنتجَ هذا التباعد حالةً من التغريب بين اللاعبين السياسيين في كلا البلدين، فبالكاد يعرف بعضهم بعضًا، بل ونشأت أجيالٌ جديدة تقتات على مفاهيم خاطئة وكليشيهات تُكرّسها الآلات الإعلامية الحكومية على كلا الجانبين تعمل على تشويه سمعة الشخصيات السياسية وتُركّز على الأزمات والتناحرات الداخلية.

مع كل ذلك، فإن الخلاف السياسي المُشتعل منذ عقود لم يؤثر بالفعل في النظرة الاجتماعية المُتبادَلة بين مواطني البلدين، على العكس نجد الشعبين يدعوان باستمرار إلى فتح الحدود بين الجارتين، ونجد الفعاليات الرياضية حافلة بمواطني كلتا الدولتين يدعمون بعضهم البعض في صورة حقيقية للأخوة والتواد.

من المؤسف أن المواطنين الجزائريين والمغاربة هم الذين يدفعون ثمن الخلافات السياسية التي فرّقت الأُسَر التي لديها علاقات قرابة في البلدين، خصوصًا تلك التي أفرادها موزعون بين الجهتين في مناطق الحدود، حيث أصبح التواصل العائلي صعبًا مع غلق الحدود البرية وارتفاع تكاليف النقل الجوي بشكل خيالي، ما شكّل صعوبة لآلاف الأسر التي أصبحت تُعاني من أجل الالتقاء بأفرادها، وأصبحت مُضطرّة للسفر بالطائرة من الدار البيضاء إلى الجزائر العاصمة أو بالعكس.

بينما كانت الحدود مُغلقة رسميًا، إلّا أنها كان بالإمكان اختراقها  لتهريب المواد الهيدروكربونية والبضائع، إلى أن عزّزت السلطات الجزائرية سيطرتها على مدى السنوات الماضية. وفي الآونة الأخيرة وجد المزارعون المغاربة، الذين طالما زرعوا الأراضي عبر الحدود، أنفسهم في وضعٍ مُزرٍ نتيجةً لعملية الإغلاق ما أدى بهم إلى التظاهر والاحتجاج في منطقة العرجة في مقاطعة فجيج في آذار/ مارس 2021 رداً على طردهم من قبل السلطات الجزائرية. ويخشى كثير من المراقبين أن الانقطاع الحالي في العلاقات قد يؤثر سلبًا في المجتمعات المحلية التي نشأت في البلدين، وأن أيَّ تفاقم جديد للأوضاع قد ينتج عنه عمليات ترحيل جديدة.

وقد بذل المغرب جهودًا عديدة في سبيل الوصول إلى مصالحة ودعا العاهل المغربي الملك محمد السادس في مناسبات عدة إلى الحوار وفتح الحدود، بل واقترح في خطبة العرش استراتيجيات جديدة للتعامل تضمن تهدئة التوترات المتصاعدة. أما على الجانب الجزائري فإن القادة الجزائريين، الذين ينتمون إلى جيلٍ أكبر سنًا والذين يعانون في مواجهة الأزمات السياسية الداخلية الطاحنة، لا يبدو أن لديهم الإرادة السياسية أو الرغبة في المصالحة. وفي كل الأحوال لن تتحسّن العلاقات الثنائية إلّا إذا اتفق القادة من كلا الجانبين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

  • إلهام رشيدي هي صحافية مستقلة تُركز على الحركات الاحتجاجية وقضايا حقوق الإنسان في المغرب والجزائر. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @Ilhemrachidi.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى