كيف استمر اليسار على هامش الحياة السياسية في المغرب

سلّط أداء اليسار في الانتخابات الأخيرة الضوء على المشكلات المستمرة التي يواجهها من أجل بناء ثقة الناخب فيما يساهم بصورة متزايدة في سيطرة القوى الموالية للمخزن (النخبة الحاكمة المُقرَّبة من الملك).

مجلس النواب المغربي: لا وزن لليسار فيه

كريستوفر كوكس*

شكّلت الانتخابات التشريعية والمحلية الأخيرة في المغرب فرصة ذهبية للأحزاب السياسية اليسارية الصغيرة. فجائحة كوفيد-19، وما رافقها من إغلاق عام، والإخفاق الذي يُعتقَد أن الحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية مُنيت به في مجال تيسير الأمن الاقتصادي والاجتماعي لعدد كبير من المغاربة، منحا المعارضة زخمًا كبيرًا. وفي نقطة أساسية، حُذِف في القانون الانتخابي الجديد البند الذي كان يفرض الحصول على 3 في المئة من الأصوات في الحد الأدنى من أجل التمكّن من حجز مقاعد في المجلس النيابي، وهو ما شكّل في السابق عائقًا شديدًا أمام الأحزاب الصغيرة. وبناءً عليه، باتت المقاعد تُوزَّع الآن وفقًا للعدد الإجمالي للناخبين المؤهّلين، بدلًا من مجموع الأصوات.

على الرغم من ذلك، كان أداء اليسار سيئًا في الانتخابات. فعلى سبيل المثال، نال كلٌّ من الحزب الاشتراكي المُوَحّد، وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي التي تنضوي جميعها في إطار فيدرالية اليسار الديمقراطي، مقعدًا واحدًا. ومن أبرز العوامل المساهمة في هذه النتيجة قدرة الأحزاب الأكثر ثراء، لا سيما التجمع الوطني للأحرار الذي خرج منتصرًا من الانتخابات، على تعبئة المتطوعين وتنظيم حملات في مختلف أنحاء المملكة لترويج سردية قوية مناهضة لحزب العدالة والتنمية، ما أفضى في نهاية المطاف إلى تصويتٍ احتجاجي واسع في صناديق الاقتراع. ويُمكن القول أيضًا بأن إخفاق اليسار هو من صنع يدَيه: ففي تموز/يوليو الماضي، إنسحب الحزب الإشتراكي الموحّد بقيادة نبيلة منيب من فيدرالية اليسار الديمقراطي بسبب الخلافات حول أسماء المرشحين على قائمة الدار البيضاء-سطات.

وترتّبت عن هذه الخلافات ثلاث نتائج: أولًا، قوّضت إلى حد كبير تطلع أحزاب فيدرالية اليسار الديمقراطي إلى تكوين بديل يساري موحّد من حزب القوى الاشتراكية الموحّد التاريخي الذي يُنظَر إليه، في العقود الأخيرة، بأنه أصبح مُقرَّبًا من النظام. ثانيًا، تسببت بتنافس بين الحزب الاشتراكي الموحّد والحزبَين الآخرين في التحالف، في بعض المحافظات، ما أفضى إلى مزيد من التشتّت في الأصوات وإلى تراجع إضافي في حظوظ الفوز بمقاعد في المجلس النيابي.

ثالثًا، يمكن القول بأن الخطوة التي أقدمت عليها منيب أحاديًا أدّت إلى تقويض ميزة أساسية يتميز بها اليسار. وعلى وجه التحديد، كانت هذه الأحزاب تعتزّ بامتلاكها آليات ديمقراطية داخلية راسخة، وامتدادًا واسعًا في صفوف القواعد الشعبية، خلافًا للأحزاب التي يُنظَر إليها بأنها هرمية وذات قيادات مُنغلقة مثل حزب الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار. وقد تسببت خطوة منيب التي لم يوافق عليها المكتب المركزي في الحزب الاشتراكي الموحد، بظهور معارضة شديدة داخل الحزب.

التبعات حادّة على اليسار والسياسة المغربية بصورة عامة. فالخطوات التي أقدمت عليها منيب قبل عملية الاقتراع، وإخفاق فيدرالية اليسار الديمقراطي في تحقيق انتصارات فعلية في الاختبار الانتخابي الأساسي الثاني (بعدما فازت بمقعدين فقط في انتخابات 2016)، تترك اليسار مُفكّكًا، وضعيفًا من الناحية اللوجستية، فيما يفتقر أيضًا إلى الثقة من الناخبين. وغالب الظن أن ما تبقّى من التحالف سينهار قريبًا في ضوء الإخفاقات المتواصلة. وقد تصطدم أي محاولات تُبذَل مستقبلًا من أجل التقارب، بسلوكيات منيب والاستياء المُحتَمَل منها، ما يجعل المصالحة عملية شاقة وطويلة.

علاوةً على ذلك، ألحقت المشاحنات الداخلية وتداعياتها خلال الحملة الانتخابية أضرارًا بصورة اليسار وقدرته على تقديم بديل ديمقراطي شامل. ومن شأن هذه النظرة إلى اليسار أن تُشكّل عائقًا إضافيًا أمام قدرة الأحزاب المحدودة على بناء الدعم على مستوى القواعد الشعبية واستقطاب الاهتمام في أوساط الأعداد الكبيرة من الأشخاص الذين خاب ظنّهم من السياسة الرسمية المغربية.

لا تزال مشاركة الشباب في الانتخابات متدنية جدًا مع 8.35 في المئة. تقليديًا، سعى اليساريون، لا سيما الحزب الاشتراكي الموحّد، إلى استقطاب الحد الأدنى من أصوات الناخبين الشباب. ولكن كثرًا منهم يصوّتون من منطلق تكتيكي، ويفضّلون دعم الأحزاب الكبيرة التي تملك حظوظًا أكبر بإلحاق الهزيمة بأحزابٍ أخرى مثل حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة. وفي هذا الإطار، يعتبرون أن أصواتهم تذهب سدىً في حال صوّتوا للأحزاب اليسارية.

غالب الظن أن هذه النزعة ستستمر. فالتداعيات المترتّبة عن أداء اليسار، والتي استعرضناها آنفًا، ستسبب مزيدًا من النفور لدى الشباب الذين سيتحمّلون تبعات الأمر الذي سيرتدّ عليهم لأنهم سيظلّون يشعرون، في جزء كبير منهم، بأنهم مستبعَدون من السياسة الرسمية. وهذه نقطة أساسية في ضوء سنواتٍ من النضال من أجل القضايا المتعلقة بالشباب والأمن الإقتصادي والإجتماعي، والتي تفاقمت بفعل انتشار الجائحة. والحال هو أن مشاعر الإقصاء والعزلة شكّلت شرارة أساسية خلف اندلاع حركة 20 شباط/فبراير 2011، والتحركات في الشارع احتجاجًا على الوضع القائم.

أما على صعيد السياسة الأوسع، فأداء اليسار السيئ يساهم في تعزيز قبضة المخزن (النخبة الحاكمة المقربة من الملك). فبعد الفوز الكاسح الذي حققته الأحزاب الموالية للمخزن وتلك التي تمكّنت السلطة من استقطابها إلى صفها، بقي اليسار المعارضة المستقلة الوحيدة ضمن السياسة الرسمية المغربية. وغالب الظن أن أحزاب اليسار لن تتمكن، في ضوء تمثيلها الضئيل في مجلس النواب وانقساماتها الداخلية، من خوض معارضة مجدية في مجال صناعة السياسات. ويشكّل ذلك عاملًا إضافيًا يساهم في إطلاق يد الحكومة الجديدة، والمخزن من خلفها، لإقرار التشريعات التي تناسبها.

لا يعني ذلك تلقائيًا أن النظام سينعم بالاستقرار السياسي والاجتماعي. فالتشريعات غير الشعبية، والفشل في معالجة تداعيات الجائحة، والنظرة إلى العلاقة الموسّعة بين الحكومة والمخزن قد تولّد استياء شعبيًا. ولكن في ضوء الاختلالات المستمرة التي يعاني منها اليسار، على الأرجح أن هذا الاستياء سيتجلى في الشارع لا داخل أروقة صناعة السياسات.

  • كريستوفر كوكس هو باحث دكتوراه في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكستر في بريطانيا. تركّز أبحاثه على قضايا الشباب والمشاركة السياسية في المغرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى