لبنان: أيُّ حِوارٍ لإنهاءِ الفَراغِ القاتل؟

الدكتور ناصيف حتّي*

بَينَ نُكرانٍ للواقعِ الذي صنعتهُ تجاربٌ عديدة في هذا المجال، واقعٌ يقولُ أنَّ العُنصُرَ الخارجيَّ طاغٍ ولو تغيَّرَ اللاعبون، أو الدعوة لتغييرِ هذا الواقع والإصرار على أن يكونَ انتخابُ الرئيس “صنعًا لبنانيًّا كلّيًا” كما يجبُ أو يُفترَضُ أن تكونَ عليه الأمورُ من جهة،  وبين القدرية السياسية التي يُسمّيها آخرون الواقعية السياسية، سواءَ كانوا من معارضيها أو مؤيّديها، من جهة أُخرى، والتي تقول أنَّ الرئيسَ يُصنَعُ خارج لبنان ثم يجري “تصديره” إلى لبنان وانتخابه في البرلمان، يستمرُّ الانتظارُ ويتكرّسُ الشغور/الفراغ الرئاسي. وبالطبع اعتاد اللبنانيون على ذلك، رُغمَ التكلفة الباهظة للفراغ بسببِ الإنهيارِ الذي يعيشه لبنان في كافة المجالات والذي يُساهِمُ فيه هذا الفراغ والشلل الذي يُحدثهُ بشكلٍ كبير. فراغٌ تزدادُ مع الوقتِ تكلفة معالجة تداعياته. هذاهو المَشهدُ القائم، مشهدُ الشلل القاتم، عشية مغادرة المبعوث الرئاسي الفرنسي، وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان، لبنان بعد زيارته الاستكشافية والحوارية الأولى. يقول البعض أنَّ لبنان اعتادَ على لعبة الفراغ الرئاسي الذي امتدَّ قبلَ انتخابِ الرئيس ميشال عون إلى سنتين ونصف تقريبًا. لكنَّ الجسدَ اللبناني النازف لم يَعُد يستطيع تحمّلَ فترةٍ طويلة قبل القيام بالجراحة المطلوبة والأكثر من ضرورية هذه المرة، والتي تزدادُ المخاطرُ بشانِ نجاح نتائجها كلّما مرَّ الوقت.

نسمعُ عن سيناريوهات من نوعِ أنَّ حدوثَ تفاهمٍ خارجيٍّ حولَ انتخابِ رئيسٍ للجمهورية أمرٌ غير مُستَبعَد، بعد أجواءِ التفاهُماتِ الحاصلة بين الكبارِ في الإقليم الشرق أوسطي والمساراتِ التي أطلقتها هذه التفاهمات. ولكن حسب هذه القراءة، علينا الانتظار حتى يأتي  دور الملف اللبناني، والذي لا يحتلُّ موقعًا أوّليًا على لائحة القضايا الساخنة والخلافية. وعندها  يُنتَخَبُ الرئيس بعد تفاهم “الخارج المؤثّر” وتستقيمُ الأمور. سيناريو آخر يقول إننا دخلنا فيي “لعبة عضِّ الأصابع” بين التحالفات المتصارعة في لبنان بانتظارِ مَن سيصرخ أو يتنازل أوَّلًا، أو مَن سيكون أُم الصبي” الذي سيتنازل عن موقفه لإنقاذ لبنان من تداعياتِ الشلل الذي أحدثته أزمة الانتخابات الرئاسية.

العنصرُ الخارجي، وتحديدًا التفاهمُ الخارجي بين القوى المَعنية والمؤثّرة بشكلٍ أو بآخَر، وفي مجالاتٍ مختلفة أحيانًا، أمرٌ أكثر من ضروري ولكنه بالطبع ليس بالأمرِ الكافي. فالأزمةُ البنيوية والحادّة التي يعيشها لبنان لم نعرف مثيلها في الماضي، في تاريخ الازمات والحروب والصراعات في لبنان وحول لبنان، من حيث طبيعتها وحجمها وتداعياتها المُمكنة على مستقبل البلد دولةً ومُجتمعًا. مجموعةُ الدول الخمس المَعنية بالملفِّ اللبناني والتي تعملُ على مُعالجته مَدعوّةٌ ايضًا في ظلِّ التغيّراتِ الإيجابية في الإقليم، التي أشرنا إليها سابقًا، لإجراءِ حوارٍ، أيًّا كانت صيغته والمشاركين فيه من أطراف المجموعة التي لها علاقات مختلفة مع القوى الأُخرى المؤثّرة في الأزمة اللبنانية، مع هذه القوى الأُخرى لبَلوَرَةِ تفاهماتٍ تُساهمُ  وتُشجّعُ في عمليةِ الخروجِ من المأزقِ الخطير الذي يعيشه لبنان عبر تسهيلِ إنهاء حالة الفراغ والشلل على صعيد مؤسسات  الدولة. إنتخابُ الرئيس والانتهاء من الفراغ القاتل شرطٌ ضروريٌّ ولكن غير كافٍ إذا لم تواكبه مبادرةٌ لبنانيةٌ للحوار. حوارٌ ليس بالعناوين والشعارات أو بشروطٍ مُسبَقة حول مسألةٍ مُعيَّنة، كاختيار رئيس، بل حول برنامجِ الإصلاح الشامل والمطلوب للإنقاذِ الوطني. فهذا الأمرُ لا يستدعي أو يتطلّب انتخاب رئيسٍ للولوجِ في بحثه، بل هو أمرٌ أكثر من ضروري في عملية الإنقاذ الوطني المطلوبة. برنامجٌ يستدعي التزام المكوّنات السياسية الفاعلة في لبنان التي بدون توافقها لا يمكن ولوج باب الإنقاذ، وذلك بسبب التركيبة السياسية اللبنانية في واقعها وممارساتها. برنامجٌ يتناول الشؤون المالية والاقتصادية والإدارية والسياسية وهي كلّها عناصرٌ مُترابطة ومُتكاملة. برنامجٌ يكونُ بمثابةِ خارطةِ طريقٍ ومشروعِ عملٍ شاملٍ وتدرّجي وواضحٍ في عناصره للسلطة الجديدة التي سيتم التوافق على إنتاجها رئيسًا وحكومة. ويجب أن تكون الأخيرة بمثابةِ فريقِ عملٍ مع رئيس الجمهورية الجديد .

فالانتظار، وكأنّه قدر لبنان، يزيد من مخاطرِ الإنهيار وتكلفة الإنقاذ.

إنَّ حوارًا يهدفُ إلى بلورةِ رؤيةٍ شاملة وعمليّة حَولَ خارطةِ طريقٍ للإنقاذ الوطني يُفتَرَضُ أن يُسَهِّلَ ويُعجّلَ عملية انتخاب رئيس، ليس على أساسِ الطمأنة المُتبادَلة فحسب بين القوى المتنافسة، ولا أقولُ المُتصارعة، إذا ما تمَّ الاتفاق على البرنامج الإصلاحي، بل على أساسِ الطمأنة الوطنية الشاملة التي توفّرها الرؤية والبرنامج والسلطة الجديدة مع انتخابِ رئيس للجمهورية .

فالخيارُ في نهايةِ الأمر هو بَينَ الانتظار المفتوح في الزمان وبين الحوارِ الهادف، وليس حوار الطرشان، الذي يُسرّعُ في انتخابِ رئيس، فماذا نختار؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى