لبنان: حكومةُ المُهِمّة والتَغَلُّب على المُهِمّةِ المُستَحيلة

الرئيس إيمانويل ماكرون مع الزعماء السياسيين في لبنان: المطلوب الآن حوار عملي برعاية فرنسية – أممية – عربية.

 

بقلم الدكتور ناصيف حتّي*

النظامُ اللبناني، مثل الولد القاصر، بحاجةٍ دائماً للرعاية الخارجية والإمساك بيده لإخراجه أو إنقاذه من كلّ أزمةٍ وطنيّةٍ كُبرى يواجهها وتُعَرِّض البلد (دولةً ومُجتمَعاً) للخطر. الأزمة الراهنة التي عنوانها العمل على تشكيل “حكومة مُهِمّة” تُقدِّم مثالاً حيّاً على ما ذكرناه. مُجمَل هذه الأزمات لها روافدها الخارجية. يرجع ذلك لضعف “المناعة الوطنية” التي تجعل البلد مُنكَشِفاً، لا بل جاذباً للتدخّل الخارجي بأشكاله المُختَلفة، أيّاً كانت المُسَمَّيات او العناوين لذلك التدخّل. التماهي بمختلفِ أشكاله وعناوينه ودرجاته مع الخارج شكّل دائماً عُنصراً أساسياً في الصراعات والخلافات والحروب الداخلية. وتزيد الجغرافيا السياسية للبنان إلى جانب ضعف السلطة وانكشافها وطبيعة الإجتماع اللبناني من جاذبية وسهولة التدخّل من قِبَلِ بعض الأطراف الخارجية. تدخّلٌ يهدف لخدمة استراتيجيات وسياسات تتخطّى لبنان إلى محيطه الجغرافي السياسي المباشر، لما لهذا المحيط من أهمّية في لعبة النفوذ الشرق أوسطية للأطراف الدولية والإقليمية المَعنية. الأدوار الخارجية للإنقاذ نتجت في الماضي عن تفاهماتٍ عملت ونجحت على بلورتها أطرافٌ عربية أساسية بغية إطفاء الحرائق واستعادة الإستقرار. وإذا نظرنا الى العقود الخمسة الماضية من الزمن وجدنا في المبادرات العربية في الديبلوماسية المُتَعدِّدة الأطراف والمؤتمرات التي انعقدت في القاهرة والرياض وتونس والطائف والدوحة خير مثال على ذلك.

التفاهم الخارجي كان دائماً شرطاً ضرورياً لإطلاق عملية التفاهم الداخلي. تتغيّر الأطراف وكذلك تحالفات الداخل والخارج وتبقى قواعد اللعبة هي ذاتها. هذه المرّة اختلفت اللعبة: فالتفاهم الخارجي بين الأطراف الفاعلة في لبنان ولو بالحدّ الأدنى ضروري، لكنه غير كافٍ بسبب طبيعة الأزمة الإقتصادية وحدّتها والحاجة الى أكثر من مَراهم ومُسكّنات إصلاحية لإنقاذ المركب اللبناني من الغرق. وقد حذّرنا، وحذّر الكثيرون، مراراً إلى أننا نشهد مساراً مُتسارِعاً للإنهيارِ الإقتصادي الكلّي بتداعياته المأسَوية المُختلفة والشديدة الخطورة على المجتمع وعلى الدولة، فيما لو استمرت الأمور على ما هي عليه، وهي مستمرة.  طبيعة اللعبة السياسية بقيت هي هي عند الطبقة الحاكمة؛ التطلّع الى الخارج حيث الرهان على التفاهم مع الآخرين أو الإنتصار الذي سيًحقّقه الحليف أو الصديق الخارجي لترجمته في الداخل ولو بشكلٍ مؤقت، حفاظاً على مُكتَسباتٍ خاصة أو زيادة في مُكتسباتٍ خاصة لكلٍّ من أطراف اللعبة تُقدَّم على أنها مُكتسبات للمكوّن المذهبي او الطائفي الذي يُمثّله هذا الطرف أو ذاك في نظامِ فيدرالية الطائفات السياسية التي تحكم وتتحكّم بلبنان بالفعل، مُستَغلّةً  ومُطَوّعة  لنظامِ الديموقراطية التوافقية: التوافقية الطائفية التي يقوم عليها النظام اللبناني. أضف الى ذلك أن الطبقة السياسية الحاكمة غير مُتحَمِّسة لولوج باب الإصلاحات البنيوية الضرورية لأنها تُضعِف مصادر سلطتها وتسلّطها.

لقد حذّرنا أكثر من مرة إننا لم نعد أمام أزمة تشكيل حكومة كما لو كنّا في ظروفٍ طبيعية، بل صرنا في أزمةِ حُكمٍ كما نشهد كل يوم في التراشق السياسي المُتصاعد، وفي الشلل الحاصل على مستوى السلطة التنفيذية، والذي يحمل في بعضه لغةً طائفية لم تعد خافية. أوصَلَنا ذلك الى مرحلة الدخول في أزمة نظامٍ في وقتٍ لا نستطيع تحمّل “ترف” فتح هذا الملف حالياً مع ضرورة البحث لاحقاً، بعد انقاذ المركب من الغرق، عن النموذج السياسي الذي نريده  لتطوير النظام وتحصين وتنمية المجتمع على كافة الصعد وتعزيز اللحمة الوطنية في لبنان. ولا بدّ من التذكير بأن أهم دروس “لعبة الكراسي الموسيقية” للطائفات السياسية، لعبة التنافس على الهيمنة، وتقاسم منافع السلطة تحت عنوان حماية حقوق الطائفة. إن هذه اللعبة هي  مُنتِجة باستمرار لأزمات تشلّ الدولة وتمنع عملية النهوض الوطني في كافة أوجهه.

إن استمرارَ اللعبة التقليدية حول تقاسم السلطة في تشكيل الحكومة باسم حقوق الطائفة عند كل طرف، أيّاً كان العنوان الذي يحمله كل طرف، يُساهم في تسريع الإنهيار ومن ثم الإنفجار، بسبب الشلل السياسي الحاصل. إن تجربة الأشهر الماضية، والثمن الذي دفعه ويدفعه المواطن اللبناني، يستدعيان إعادة النظر في المقاربة القائمة والمستمرة لتشكيل “حكومة مُهمّة” (Gouvernement de Mission) بعدما وصلت إلى حائطٍ مسدود مع ازدياد “المواجهة السياسية والإعلامية” بين مَن يُفتَرَض ان يكونا الشريكين الأساسيين في تشكيل الحكومة وإدارة عملية الإصلاح لاحقاً. وهنا، أرى من الضروري، للخروج من حالة الجمود القاتل الحامل للمزيد من التوتّرات، أن يدعو الوسيط الفرنسي الى  مُقاربةٍ مختلفة من خلال الدعوة إلى طاولة حوار وطني للأطراف ممثلي المُكوِّنات السياسية التي كان جمعها وحاورها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في بيروت، لتجتمع برعاية ومواكبة فرنسية في “حوار عملي”. ونُذكّر بهذا الخصوص بحوار “سل سان كلو” (اسم مكان اللقاء) في العام ٢٠٠٧ الذي استضافته فرنسا للأطراف اللبنانية في خضم الازمة اللبنانية حينذاك.  ويُمكن ان تشارك منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية الى جانب فرنسا في رعاية ومواكبة هذا الإجتماع. يجب أن يكون هدف “الحوار العملي“ المطلوب، إذا انعقد في إطارٍ زمني مُحدَّد، بلورة ما دعونا إليه منذ أكثر من شهرين – وقد ردّ علينا البعض حينذاك أنه يجب البدء بتشكيل الحكومة بغية عدم إضاعة الوقت. وقد ضاع الوقت الكثير منذ ذلك الحين – وهو برنامج الإصلاح الشامل في خطوطه وعناصره وخريطة طريق للتنفيذ وجدول زمني واضح. إن اتفاقاً من هذا النوع يُلزم أصحابه، كلٌّ أمام جماعته أساساً، بالإصلاح المطلوب لوقف الإنهيار ويسهل تشكيل “حكومة مهمة” لوضعه موضع التنفيذ إذ يُشكّل عنصر ضغط على هذه الأطراف باعتباره، باعتراف الجميع ومشاركتهم، الشرط الضروري لوقف الإنهيار المُتسارع. فهل نسلك هذا الطريق وأمامه الكثير من الصعوبات، لكنه الوحيد المُمكن أم نبقى أمام الطريق المسدود، أمام ما يبدو كمهمة مستحيلة  لتشكيل “حكومة مُهمّة”؟

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، سياسي ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى