لبنان: أينَ سَيَتَّجِه؟

الدكتور ناصيف حتّي*

في تاريخِ الانتخاباتِ الرئاسية اللبنانية تَبَلوَرَ مع الوقتِ ما صارَ بمثابةِ عُرفٍ نَتجَ عن حالاتٍ عديدة من الأزمات الرئاسية. عُرفٌ يتنكّرُ لحصوله الكثيرون، خصوصًا المستفيدون من حالاتٍ مُعَيَّنة، قوامُه ان الرئيس يُنتَخَبُ سياسيًّا في الخارج ثم يتمُّ انتخابه قانونيًّا وفق ما نصَّ عليه الدستور في الداخل (في المجلس  النيابي): ويَختَصِرُ البعض ذلك بالقول أنَّ تَفاهُمَ الخارج بتوازناته القائمة في اللحظة المعنيّة يَنتَخِبُ رئيس لبنان: أطرافُ الخارج المُؤثِّرة التي تتغيَّرُ كما تتغيّر أوزانها وطبيعة أدوارها وكذلك تفاهماتها التي قد تكون مرحلية او أبعد من ذلك. تتغيّرُ هذه الأطراف الفاعلة ولكن لا تتغيّر طبيعة اللعبة وقواعدها. جاذبيةُ الجغرافيا السياسية للبنان في “لعبةِ الأُمم” وهشاشة وضعف الدولة فيه التي تقيدها وتصادر دورها سلطة قائمة على فيدراليةِ أمرٍ واقع من الطائفيات السياسية، وكذلك الانقسامات السياسية والعقائدية والهَوِيّاتية الحادة، حيث مفهوم الوطنية له تعريفات مختلفة ومتناقضة في الكثير من الحالات بسبب ما أشرنا إليه من انقساماتٍ حادة، كلّها عناصرٌ جاذبة للتدخّل أيًّا كان الغطاء أو الشكل الذي يأخذه ذلك التدخل.

في فترةٍ يُمكنُ وَصفُها باستراحةِ المحارب أو إجازة الصيف، إلى أن يعودَ المبعوث الرئاسي الفرنسي وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان، يستمرُّ الحوارُ بأشكالٍ مختلفة بالطبع بين كافةِ الأطرافِ اللبنانية حولَ مبدَإِ الحوار أو النقاش المطلوب ومكان انعقاد الحوار أو جمع هذه الأطراف وموضوع النقاش /الحوار. فهل يكون حول انتخابِ رئيسٍ للجمهورية يتمُّ التوافق عليه والضمانات المطلوبة توفيرها للأطراف المَعنيّة كجُزءٍ من سلّةِ الحل وطبيعة الحكومة المنوي تشكيلها وشخصية وهوية رئيسها. كلُّ ذلك يأتي ضمنَ مفهومِ الصفقة الشاملة وبذلك تتمُّ التضحية بالضروري الذي هو الإصلاح الشامل لمصلحة الأمر العاجل والضاغط، وهو الانتهاء  من الفراغ الرئاسي وترحيل الأزمة التي ستزداد خطورةً في ارتداداتها على لبنان؟ أم سيكون النقاش أو الحوار حول حزمةِ حلٍّ تشملُ أيضًا، وبشكلٍ خاص، برنامجًا إصلاحيًّا، وليس عناوين إصلاحية. برنامجٌ، يلتزمُ تنفيذَ بنودِ المتحاورين، يتناول المجالات المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية ولو بشكلٍ تدرّجي وعلى أساسِ خريطةِ طريقٍ وإطارٍ زمنيٍّ واضحَين للتنفيذ بقيادةِ ورعايةِ الرئيس الجديد؟ من أهمِّ الأمورِ التي يجب إقرارُها في مسارِ الإصلاح التنموي الهادف إقرارُ ما جاءَ في وثيقة الطائف وأُقِرَّ في الدستور وهو اللامركزية الإدارية؛ السبيل الوحيد للإنماء المتوازن للمناطق في كافة المجالات. والجدير بالذكر أنَّ الحديثَ عن اللامركزية الإدارية يستدعي حُكمًا توفيرَ المال لتحقيقها. فالحديثُ عن لامركزيةٍ إداريةٍ بدون أيِّ مصادر تمويل كالحديث عن موسيقى بدونِ آلاتِ عَزف. اللامركزية الإدارية تُعزِّزُ الديموقراطية المُجتَمَعِيّة وتُساهِمُ بالتالي في الاستقرار المُجتَمعي بمختلفِ أبعادِه .

وعلى صعيدٍ آخر، يعيشُ لبنان اليوم، الذي كان دائمًا أسيرًا أو مُتَأثّرًا بشكلٍ كبيرٍ بالأوضاعِ الإقليمية وبخاصة تلك المُحيطة به مباشرةً ولو بدرجاتٍ متفاوتة في فتراتٍ مختلفة، في ظلِّ تحدّياتٍ تنعكسُ عليه بأشكالٍ وسُبُلٍ متعدّدة. ثلاثةُ عناوين يُمكنُ الإشارةُ إليها في هذا السياق والتي تحمل انعكاساتٍ مباشرة أو غير مباشرة على لبنان. أوّلًا تباطؤ عملية تطبيع العلاقات السعودية-الإيرانية التي انطلقت من اتفاق بكين. من مظاهرِ هذا التباطؤ إرجاءُ إرسالِ سفيرٍ للملكة العربية السعودية إلى إيران والخلاف السعودي-الكويتي مع طهران حول حقل الدرة للغاز الطبيعي الذي يعتبر البلدان العربيان أنه يعود لهما كلّيًا حسب القانون الدولي فيما تعتبر إيران أنَّ لها حقوقًا في هذا الحقل. ثانيًا، التطورات الحاصلة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة وسياسة التهويد والعنف التي يتّبعها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. السياسة التي زادت من حدة التوتر في الصراع القائم، الأمر الذي يُمكنُ أن يَحملَ تداعياتٍ مباشرة على لبنان. ونشهدُ يوميًّا المزيد من التوتر على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. وفي السياق ذاته، رَفعُ عنوان وحدة الساحات (اللبنانية، الفلسطينية والسورية) مع ما يحمله من سيناريوهات تصعيدية مُمكنة في المستقبل القريب والأبعد، قد يحملُ تداعياتٍ مباشرة على لبنان. وثالثًا، إزديادُ حدّة المواجهة الغربية-الإيرانية مع تباطؤ أو عدم حصولِ تقدّمٍ في الملف النووي الإيراني في الحوار الدائر والمتعثّر حاليًا حول هذا الملف. ونَشهَدُ في هذا  الإطار تصعيدًا إسرائيليًّا ضد إيران وحلفائها في سوريا قد تطال شظاياه لبنان مُستقبلًا.

في ظلِّ هذه الأوضاع، صارَ منَ المطلوبِ الخروج السريع من حالةِ الشلل القاتل والمُدمّر: فراغٌ سياسي وانهيارٌ اقتصادي وتفكّكٌ مُجتمعي. فهل نشهدُ في الشهر المقبل، مع عودة المبعوث الرئاسي الفرنسي، إطلاقَ مسارِ الخروج من النفق عبر سلّةٍ من التفاهمات تاتي نتيجةَ حوارٍ أيًّا كانت صيغة وشكل هذا الحوار: حوارٌ للاتفاق على مضامين، وليس على عناوين، إنقاذية تبدأ بالاتفاق على برنامجِ إصلاحٍ شاملٍ وتدرّجي والالتزام بجدولٍ زمنيٍّ وانتخابِ رئيسٍ للجمهورية ليقودَ سفينة الإنقاذ المطلوب مع “حكومة مُهمّة” حتى يستطيع لبنان أن يواجِهَ الأعاصير، القائمة والمُقبلة في الداخل وفي المحيط القريب، بنجاحٍ وفعالية حمايةً وحفاظًا على الأمن الوطني للبنان.

رُغمَ العوائق التي أشرنا إليها، فإنَّ مجموعةَ الدول الخمس المَعنية بالملف اللبناني قادرةٌ عبر حوارِ بعضِ أطرافها مع إيران، ورُغمَ ما أشرنا إليه من توتّرات قائمة، التوصّل إلى تفاهمٍ في هذا المجال يدفعُ للخروجِ من حالةِ الجمودِ القاتلِ والمُعَجّلِ للانهيارِ الكُلّي للبنان، وهو أمرٌ ليس في مصلحة الإقليم أيضًا.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى