الغبيّ ميشكين؟ أَم الغبيّ مسكين؟

بقلم هنري زغيب*

عشية الذكرى 199 (الجمعة 30 تشرين الأَول/أكتوبر) لولادة الروائي الرُوسي فِيُودور دُسْـتُوْيِـڤْسْكي (1821-1881)، فَرغْتُ أَمس من قراءة روايته “الغبي”. وهو أَمضى سنة كاملة (1867-1868) يكتبُها وينشرها حلقاتٍ في جريدة “البريد الروسي” حتى أَصدرها كتابًا في جزءَين سنة 1874.

صحيح أَنَّ في الرواية أَشخاصًا من خيال الروائي، لكنَّ للأَساس فيها: الأَمير ميشْكِين، أَثَرًا من الكاتب الذي، هو الآخَر، كان يعاني من آلام الصَرْع (داء النقطة)، وتَمَحْوَر بعض الرواية حول هذا الداء الذي جعل متَّهِمي الأَمير بالغباء يأْخذون عليه طيبتَه وينعتُونه بــ”الأَبله”. وتَلاقت في النص أَسئلة: مَن هو الغبيّ؟ مَن هو الـمُستغْبِي؟ مَن هو الـمُستغبَى؟ وأَكثر: مَن يَستغبِي مَن؟ مَن هو الجلَّاد؟ ومَن الضحية؟

هذا الأَمر أَخذَني إِلى عبارة دُسْـتُوْيِـڤْسْكي: “عند كل مرحلة انتقالية راهنة في كل مجتمعٍ، تَطفو على سطح الأَحداث طبقةُ رَعاع أَرذال بلا هدف، مجرَّدةٌ من أَيِّ فكرةٍ سليمة أَو صحيحة أَو مفيدة. أَكثرُ أَفرادِها دناءَةً وحقارةً، يُسيطرون ويُفسدون كلَّ ما هو مقدَّسٌ ونقيّ”.

أَتوقَّف عند هذه الطبقة كما وَسَمَها دُسْـتُوْيِـڤْسْكي، وأَقتطف من نَصه عبارتَـي: “الرَعاع الأَرذال” و”المقدَّس النقيّ”.

في علم السياسة أَنها فنُّ مَن يَسوس الناس إِلى سبُل الحق والخير. فهو إِذًا فنٌّ سامٍ نبيلٌ، ذو رسالة هادفة ونيَّة سمحاء وقُدسية نقية، إِذا تَولَّاها صالحون أَوصلوا شعبهم إِلى الخلاص (أُفكِّر هنا بغاندي، مثلًا، ومانديلَّا، وعليهما ينطبق فنُّ “السياسة” السامي). أَما إِذا تولَّاها حرباويون مُتَثَعْلِبون، فشعبُهم تاعسٌ مقهورٌ واصلٌ بسببهم إِلى أَحطِّ مستويات العيش المر والحياة اليائسة. في الفئة الأُولى (الصالحون) أَرى وُجُوهًا حاسرةً لأَنها لا تخشى انعكاس العيون عليها. في الفئة الأُخيرة (الحرباويون) لا أَرى وجوهًا بل أَقنعةً ذاتَ دهاء لأَنها تَتَجنَّب أَن يرى الناس في عيونها نواياها السوداء.

هذا السياسيُّ ذو القناع: هل هو فعلًا غبيٌّ؟ أَمْ يَستغبي الناس؟ وهؤُلاء هل هم فعلًا أَغبياء؟ أَم مقهورون مغلوبون على أَمرهم ويعرفون أَنهم مُسْتَغْبَون؟ في حالة السياسي، يتجلَّى غَباؤُه في استسلامه أَو استزلامه، ويظهرُ استغباؤُه في جعل الناس يَظنُّونه ذا دهاء. وفي حالة هؤُلاء، لا يَطول غباؤُهم حتى يكتشفوا أَنَّ مَن أَمامَهم ليس وجهًا بل قناع. هنا تبدأُ الثورة، وتتناسل غضبًا يُطيح حُكْمًا أَو حكومة أَو تَـحَكُّمًا جائرًا لا بُدَّ أَن يَسقط.

بالعودة إِلى دُسْـتُوْيِـڤْسْكي وأَميره “الغبيّ” ميشْكِين، والصَرْعُ جامعٌ بينهما: أَحيانًا يَقضي الصَرع على الغبيّ (كما في رواية دُسْـتُويِـڤْسْكي)، وأَحيانًا يَقضي على مَن يَسقطون في الغباء، كما في معظم الدُوَل التي يتحكَّم بشعوبها مَن يتوهَّمون أَنهم يَستغْبُون الناس فيما يَحسرُ التاريخ لاحقًا أَنهم همُ الكانوا أَغبياءَ بالتحكُّم. فالحُكْمُ هو في الاستشراف، والصارعُ الطاوُوسيَّ يَعي، متأَخِّرًا، أَنه كان هو… الـمَصروع.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى