كيف ولماذا أصبح الدولار قبلة الأنظار؟

على الرغم من الأزمات التي عرفها العالم، لا يزال الدولار يشكل العملة الصعبة للإحتياطات الدولية. كيف ولماذا أصبح قبلة الأنظار؟

 

الذهب والدولار: لم يعد الأول ضامناً للثاني

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

النقدُ هو سلعة تبادلٍ وادّخار تُستَخدَمُ كوحدة قيمة تتمتّع بالقبول العام ضمن مُجتمعٍ محدد.

من خلال هذا التعريف يُمكن إبراز الخصائص التالية للنقد:

 

أولاً: التطور التاريخي للنقود: أخذت النقود أشكالاً عدة، ومرّت بثلاث مراحل هي: مرحلة النقود السِلَعية، مرحلة النقود المعدنية، ومرحلة النقود المعاصرة

ب – النقود الخطية أو المصرفية: تتكوّن من الحسابات الجارية أو الودائع تحت الطلب لدى المصارف وتنتقل ملكية هذه الودائع إلى شخص آخر بواسطة الشيكات.
وبعد التوسّع في استخدام الشيكات، اتجه الناس إلى استخدام بطاقات الدفع/أو بطاقات الإئتمان. وقد سمحت الابتكارات في مجال الالكترونيات بإجراء العمليات المصرفية والتحويل بواسطة الهاتف أو الحاسوب.

ثانياً: إصدار النقود وتحديد سعر صرفها: من خلال التطور التاريخي للنقود يتبيّن أن الشكلَين المُميزَين للنقود هما النقود المعدنية والنقود الورقية. أما أهم أنواع المعادن التي استخدمت في سك الوحدة النقدية فكانت الفضة ثم الذهب.
1- النقود المعدنية: في النظام المعدني ترتبط القيمة الإقتصادية للنقود بالقيمة الإقتصادية للمعدن الذي تَوافَق المجتمع على اتخاذه مقياساً للقيم الاقتصادية. وأبرز أشكاله نظام الذهب. في هذا النظام هناك علاقة ثابتة بين قيمة وحدة النقود وقيمة مقدار ثابت من الذهب بحيث تتعادل القوة الشرائية لوحدة النقود مع القوة الشرائية للذهب. وقد أدى ذلك إلى استقرار أسعار صرف العملات وثباتها. وبقي هذا النظام معمولاً به في بلدان كثيرة حتى الحرب العالمية الأولى، حيث تخلّت عنه. أما الولايات المتحدة الأميركية فقد احتفظت به إلى نهاية العام 1933.
فبعد الحرب العالمية الأولى وما خلّفت من دمار ومآس، تعذّر سك القطع الذهبية بالسهولة التي كانت سابقاً، مما اضطر غالبية الدول إلى التخلي تدريجاً عن النظام السابق، فاختفت القطع الذهبية من التداول وأصبحت النقود الورقية هي النقود القانونية.
هذه التطورات أدت إلى:
1- إنتهاء نظام سك الذهب الى قطع نقدية ذهبية، وبالتالي اختفاء القطع الذهبية من التداول.
2- شراء البنوك المركزية كميات غير محدودة من الذهب لمنع ارتفاع قيمة الوحدة النقدية بالنسبة إلى الذهب. وكانت كميات الذهب المُشتراة تذهب الى الخزانة العامة ولا تعود مرة أخرى للتداول.
3- قلّل هذا النظام من الإسراف في تداول الذهب، وإن كان أبقى على انتقاله من دولة الى أخرى على شكل سبائك كما ظلت أسعار الصرف ثابتة.

وترافقت التطورات المذكورة أعلاه مع انخفاض الإنتاج العالمي من الذهب أمام حجم الطلب المتزايد عليه، واستحواذ الولايات المتحدة وفرنسا على القسم الأكبر من الذهب في العالم (إختلال توزيع الإحتياطات الذهبية بين الدول)، وتوسع الحكومات في الاصدار النقدي من دون توفير الإحتياطات الذهبية كغطاء للعملات المصدرة، واتباع الدول الصناعية الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا سياسة الحماية التجارية من خلال القيود الجمركية والسياسة الضريبية، والازدياد المستمر لأسعار السلع والخدمات بسبب هيمنة الاحتكارات الصناعية من جهة وارتفاع الأجور تحت ضغط النقابات العمالية من جهة أخرى .
وأدّت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلى تدمير القارة الأوروبية كمركز للنشاط الاقتصادي العالمي وإلى استفادة الولايات المتحدة الأميركية من هجرة العلماء والرساميل لتحقيق نهضة اقتصادية وعلمية سريعة. كل هذه التطورات أدت الى وضع اتفاقية ” بريتون وودز” سنة 1944 التي كرّست نظام ” أساس القطع الذهبي” مُتضمّنة العناصر التالية:

 

كان نظام “بريتون وودز” مستقراً نتيجة استقرار الدولار الأميركي. لكن ظهور قوى اقتصادية عالمية جديدة كاليابان وألمانيا منافسة للاقتصاد الأميركي، وفي ظل العجز المتفاقم في ميزان المدفوعات الأميركي، وتعرّض الدولار لأزمات نقدية، واشتداد الطلب على تحويله إلى الذهب أو إلى عملات أخرى قوية، قررت الولايات المتحدة في 15 آب (أغسطس) 1971، ومن طرف واحد، إيقاف تحويل الدولار إلى الذهب وفقاً للاتفاقية السابقة الذكر، تاركةً لقوة الاقتصاد تغطية العملة.
كما أن غالبية الدول، وبسبب التفاوت في معدلات نموها، عانت من محاولات الحفاظ على أسعار عملاتها الوطنية، فبدأت تنسحب تدريجاً من نظام ” بريتون وودز” الواحدة تلوَ الأخرى، منتقلة إلى تبنّي نظام القطع العائم الذي يحدّد فيه سعر العملة الوطنية استناداً إلى قانون العرض والطلب أي استناداً إلى قوة الاقتصاد الوطني على المستويين الداخلي والدولي.
وفي العام 1976 تم التوقيع على “اتفاقية جامايكا” التي ألغت رسمياً اتفاقية “بريتون وودز”، وأصبح سائداً بشكل كامل نظام القطع العائم على الصعيد الدولي، بحيث فقد الذهب نهائياً وظيفته النقدية وتحوّل إلى سلعة عادية كغيره من المعادن والسلع. هكذا أصبحت العلاقات الاقتصادية الدولية هي المرآة التي تعكس تدفق العملات من وإلى الدول، مما أدى إلى إنشاء أسواق صرف أو أسواق قطع في عواصم الدول الاقتصادية الكبرى.

لقد أصبح من الواضح في عالم اليوم أن من يملك المال يستطيع بواسطته التأثير في كل مفاصل النشاط الاقتصادي والسياسي، سواء كان مالك المال فرداً أو مصرفاً أو مؤسسة أو دولة. فالمصارف، مثلاً، عندما توافق أو ترفض منح القروض والتسليفات إلى قطاع دون آخر تؤثّر في بنية الاقتصاد ومعدلات نموه؛ والدولة تستخدم النقود كأداة في سياستها الرامية إلى تطوير قطاع على حساب قطاع آخر.

وما يصح على المستوى الوطني، يصح على النطاق الدولي. ففي القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين كان الجنيه الاسترليني النقد الأقوى عالمياً مما ضمن لإنكلترا القدرة على التحكم بأسعار المواد الأولية والسلع وبدعم اقتصادات دول وتهديد اقتصادات دول أخرى.

وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل النفوذ من الجنيه الاسترليني إلى الدولار الذي أصبح قبلة الأنظار، مما سمح للولايات المتحدة بالتأثير في السياسات الاقتصادية والمالية وكذلك في القرارات والأوضاع السياسية لدول كثيرة.

 

Exit mobile version