قِدِّيسٌ من القَشّ

عبد الرازق أحمد الشاعر*

لم يَعُد السيِّدُ “فزّاعةً” مُخِيفًا كما في القديم … لم يَعُد يُرعِبُ العصافير أو الغرابيب أو الطيورَ المُهاجِرة … ويُمكِنُ الآنَ لأيِّ عصفورٍ شريدٍ أو “بلشون” مُهاجر أن ينقره بين عينيه أو يَختبِئُ من وَهجِ الشمسِ داخل جلبابه المُهترئ … لم يَعُد “خيال المآتة” أمينًا على ثمارِ الحَقلِ أو بقله أو فومه أو بصله، لا لأنّه تحوّلَ عامدًا من قدّيسٍ إلى عربيد، ولكن لأنّه في الحقيقة لم يكن سوى كومةٍ من القشِّ والبوص والخرق طوال حياته.

ليس ذَنبُ المصلوب في وهج الشمس أنَّ الصيّادين والفلّاحين وبائعي الخضار كانوا يمنحونه مَهابةً مُصطَنعة أو ودًّا كاذبًا … لطالما صدق “المجدار” أنه أقوى من الريح وهو يدورُ مُقهقِهًا حول نفسه والطيور تتقافز من حوله في رُعبٍ وهي تكتم زقزقتها النزقة … كان يظن “النظار” المسكين أنَّ ذراعيه المتوَرِّمَتين قادرتَين على صنع دوّامات في الأفق تجعل الريح صرًّا وتجعل من النسمة عاصفة.

لم يكن “خيال المآتة” قديسًا يتبرَّكُ الفلاحون بمُلامسةِ ساقه الوحيدة، بل كان مجرّد كومة من حطبٍ يابسٍ تُديرُها الرياحُ يُمنةً ويُسرةً أو تقلبه على وجهه إن شاءت، فيأتي المُزارعُ الكهل كل صباح ليغرسَ ساقه في رَحمِ الأرض ليمنحه أسطورة خلود كاذبة … اليوم، لا يحتاج السيّد “فزّاعة” أن ينزله أحدهم من بُرجِهِ العاجي، ليخبره أنه قد هرم، وأنه قد آنَ أن يحترقَ حتى آخر قشّة في هيكله التعس … فقد عرف السيّد “النظّار” هذا في نظراتِ مَن كانَ يملأ عيونهم ألَقًا وروحهم نزقًا وقلوبهم خفقًا.

حين أخبَرَتهُ حوريةٌ كانت تتلو صلواتها في أذنيه كل يومٍ خمس مرات أنه صار يابسًا كعجز نخلة خاوية، وأنه لم يكن سوى دُمية تعبثُ بها الحشرات والديدان، وأنها تقدس الريح التي تستطيع بعثرته فوق الآكام والتلال في لحظة غضب عاصفة، أدرك أنها لم تقدس أحشاءه الممتلئة بالقش أبدًا … ولكنها مارست خداعه كالعواصف والأمطار والفلاحين وبائعي الخضار.

وأدركَ المأسوف على ثيابه البالية وقشّه الآيل للتآكل أنه شاركَ في الخديعة حين حاربَ العصافير زمنًا من دون أن يكون بينه وبينها ثمّة ثأر أو سابق احتقان. أيقنَ أنه قضى عمرًا في مطاردةِ طيورٍ بريئة لم تُنافقه يومًا أو تتبرّك بثيابه المُهَلهِلة اتقاء غضبة مفاجئة أو ثورة ريح عقيم.

للأسف، لن يستطيعَ السيِّد “فزّاعة” أن يُغَيِّرَ انتماءه للريح والسراب ليلقي جسده المتآكل في أحضان العصافير التي لم تعد تحسُّ بوجوده أصلًا، وصارت تتعامل معه كشجرٍة في زاوية أو حجرٍ فوق جدار، لأنَّ تاريخه المدهش لا زال يُغريهِ بمزيدٍ من الأمل الواهي. أليست زقزقةُ العصافيرِ جميلةً أيها الذاهل في وادِ أحلامك البائدة؟ ألا ترى أنَّ مناقيرها أصغر كثيرًا من أفواه الفلّاحين وبائعي الخضار؟ ألا تشعر اليوم بعجزٍ مُريعٍ وأنتَ تمدُّ ذراعك عن آخرها فلا تستطيع أن تردَّ طائرًا صغيرًا صمّمَ على التحليق فوق رأسك والتَبَوُّل على كتفيك؟ ها أنت تدور حول ساقك الخشبي في هياجٍ فلا تخيف أنثى غراب، وتترك ثيابك للريح فلا تستطيع التخلّصَ من طفلٍ عنكبوت نسجَ عشّه الواهن تحت إبطيك.

انتهي عصرك الذهبي أيها القديس القديم، وأصبحتَ مُجرّد صارية لا معنى لها في حياة من قدّسوك. ليته الموت يأتي حتى لا تُهان أكثر، وليتك تستطيع أن تترجّلَ من فوق ساقك العرجاء لتُعلن تمرّدك على واقعٍ لم يُقدّرك كما يجب ولم يُعاملك بما يليق. ليت ريحًا صرصرًا عاتية أو رجزًا من السماء يضعُ نهايةً ليست أقل مأسوية من وقفتك المُذِلّة عاريًا من كل مجدك القديم لتمارس دورًا وضيعًا رسمه الفلاحون وبائعو الخضار وحورية وثقتَ بعينيها ذات انبهار.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى