… الوعي الغائب في تونس؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

بعد تجربتين إنتخابيتين حقيقيَّتين وحُرّتين في تونس في 2011 و2014، عدا تجربة إنتخابية بلدية، كان المرء ينتظر أن يرى وعياً جماعياً أكثر بالنسبة إلى معنى الإنتخابات وكيفية التقييم سواء للترشح فيها أو للأقتراع. وبعد الهزيمة الفادحة للمجتمع المدني رغم غالبية ناخبيه في العام 2011 بسبب تشتت صفوفه، وبعد النتيجة “النصف نصف” التي حصلت في انتخابات 2014 رغم التراجع الكبير لدعاة المجتمع الديني، كان مُفتَرضاً أن تقع يقظة حقيقية، ويسود الطبقة السياسية الوعي بمدى ما في يدها من سلاح سلمي عبر صناديق الإقتراع. غير أننا وجدنا أنفسنا على قدر كبير من الغباء في أوساط المُنادين بمدنية الدولة، وسنجد أنفسنا في  مواجهة الغباء عينه بالنسبة إلى الناخبين.

ويُمكن للمرء اليوم رسم صورة مجتمعية من ثلاثة ألوان في تونس:

أولها: مساحة المُنادين بمدنية المجتمع وليبيراليته؛

وثانيهما: مساحة المُنادين بمدنية المجتمع ولكن يساريته، حتى لا نقول ماركسيته التي أصبح دعاتها متخفين؛

وثالثها: مساحة أنصار المرجعية “الإسلاموية” أو الإسلام السياسي.

وفقاً لكل الدراسات المُتاحة فإن الصورتين الأولى والثانية تُمثّلان حوالي 75 في المئة من الشتات، أما الصورة الثالثة فإنها تُمثّل في أحسن الأحوال 25 في المئة. ويبدو أن تلك الصورة الثالثة والأقلية شعبياً، تُهدّد إلّا إذا حصلت معجز ، بالسيطرة على الرئاسات الثلاث، أو إنها تطمح إلى ذلك: رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان.

وما يدور في أوساط مُعيَّنة، أو هذا هو الطرح، فإن عبد الفتاح مورو سيكون مُرشَّحاً ليكون رئيساً للجمهورية، وراشد الغنوشي ليكون رئيس مجلس نواب الشعب، الذي تنبثق منه حكومة يكون رئيسها زياد العذاري.

هل هي أحلام يقظة، أم إن غباء أنصار مدنية المجتمع يُمكن أن يسمح بذلك؟

إن ترشح 26 شخصية نهائياً، بعد طرح أكثر من ستين قدموا ترشيحاتهم، لا يدل على ظاهرة صحية، بل على ظاهرة مرضية، قوامها أنانية مُفرطة، وغياب أي قدرة على التنازل والوفاق.

فمن بين الـ26 مترشّحاً نجد حوالي 6، مع إضافة واحد أو إثنين ربما، يُمكن وضعهم في الصنف الثالث أو الصورة الثالثة، أي من أنصار المجتمع الديني رغم قرارات المؤتمر الأخير لحزب “النهضة” بمدنية الدولة وفصل السياسة عن الدين.

أما البقية فيمكن تصنيفهم ضمن الصورة الأولى والثانية، على ما بينهما من فوارق عميقة في تصور طبيعة المجتمع من مدني ليبيرالي أو مدني لنقل يساري.

هذا التشتت في أنصار الطبيعة المدنية للمجتمع من شأنه أن يلعب أدواراً سيئة في الإنتخابات، بحيث يُمكن لأغلبية واضحة في المجتمع أن تجد نفسها في صف الأقلية في دواليب الحكم، بسبب غباء مُرَكَّب، وأنانية مُفرطة، وحسابات خاطئة.

ولو استعرضنا أسماء المترشحين من أنصار المجتمع المدني، لوجدنا الفوارق بينهم لا تكاد تُرى حتى تحت المجهر، هذا إذا كانت لهم برامج حقيقية مُرَقَّمة ودقيقة، باستثناء المرشحة عبير موسي المُقنعة ببرامجها الإقتصادية، الإجتماعية، الثقافية والتربوية، والصحية، والتي لن أصوت لها شخصياً ولا لحزبها، خوفاً من العودة إلى مربع الديكتاتورية التي تربَّت في أحضانه.

أما البقية، وبعد الإستماع إليهم بإمعان فهم لا يُقدّمون سوى أدبيات لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولا تُنبئ عن السياسات التي يُمكن أن تنهض بالبلاد، أو تضعها على طريق تنمية وبوادر نمو يمكن أن تخرج تونس مما فيه من تقهقر، بالصورة التي تكفل مداخيل كافية لموازنة الدولة، واقتطاعاً لجزء من ذلك النمو للإستثمار بعد عودة الثقة، وبالصورة التي تُمكّن من خلق فرص العمل لاستيعاب الأفواج الواردة لطلب العمل بما يقدر بـ60 ألف في السنة، وربما البدء باستيعاب البطالة القائمة.

و إذا كان هذا  هو الحال للمترشحين من أنصار المجتمع المدني، فلعل حركة “النهضة” هي الأخرى لا تتوفر على برنامج إقتصادي إجتماعي واضح ومُرَقَّم، يجعل الصورة بالنسبة إلى المستقبل في ظلها غائمة إلّا إذا اعتبرنا أسلمة المجتمع برنامجاً.

وإذا كان هذا بالنسبة إلى المترشحين للرئاسة، بخاصة بين المنادين بمدنية المجتمع، فما هو الحال بالنسبة إلى الناخبين؟

نظرة سريعة على مختلف استطلاعات الرأي التونسية المحلية والأجنبية التي تطلبها السفارات من أجل حكوماتها وتُجريها شركات  أجنبية متخصصة، لا يرقى الشك لمصداقيتها ولا لحياديتها ولا لمهنيتها، فإننا سريعا ما نلاحظ أن على الأقل 10 وربما 15 من بين المترشحين تقل النسب المفروض أن يحصلوا عليها عن 3 في المئة أو أقل، وحتى صفر فاصل، وبالتالي فإن 10 إلى 11 فقط يُمكن القول إنهم حقيقة في السباق،  من بينهم في أحسن التقديرات 5 فقط يُمكن أن يكونوا بين الإثنين الأوائل، أي المؤهّلين الوحيدين للتسابق من أجل الوصول إلى منصب الرئاسة.

هذا على مستوى الغباء في الترشح، ولكن الأخطر هو مستوى عدم تقدير الأشياء حق قدرها بين الناخبين، وإذا اعتمدنا إستطلاع مؤسسة “إيفوب” الفرنسية فإن 25 في المئة من الأصوات ستذهب سدى، أي إنها لن تكون محسوبة، وهي الأصوات التي لن يحصل أصحابها إلّا على 3 في المئة أو أقل، فلو أن هذه الأصوات ذهبت إلى الأوائل، وفقاً لما تردده بالإجماع شركات سبر الآراء، لكانت النتيجة في أعلى القائمة مختلفة. وبالتمعّن في تلك النسب نجد أن الغالب فيها هم مَن يُسمّون أنفسهم حداثيين، بحيث يحرمون حداثيين مثلهم من أصوات ثمينة كان يمكن أن تُغير المعادلة. إنه تصويتٌ ضائع ومهدور يُمكنه أن يدفع مورو أو نبيل القروي أو عبير موسي إلى تصدر القائمة والوصول في الدور الأول إلى المرتبة الأولى أو الثانية. ولنتوقّع فرضاً أن الإسمين الأوّلين بفضل سوء التقدير هذا سيكونان بين نبيل القروي وعبد الفتاح مورو، فلمن سيصوّت هؤلاء الحداثيون أو لمن يدعون بين الناخبين للتصويت؟ هل لعبد الفتاح مورو أو لنبيل القروي؟ وما هو التصوّر لمجتمع الغد، هل يكون مجتمعاً خاضعاً للتوجّه الديني؟ أو مجتمعاً خاضعاً لنوع من الإنتهازية والديماغوجيا البغيضة؟

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب وصحافي تونسي مخضرم. كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى