مأساة ابليس: صندوق النقد يلعب وحيداً في بيروت

بقلم البروفسور بيار الخوري*

لم تَكن برامج صندوق النقد الدولي المُصَمَّمَة للتكييف الهيكلي يوماً برامج ذات شعبية. الصندوق مُتَّهَمٌ بكونه الطبيب الذي يُديرُ عمليات جراحية لدولٍ مريضة مع احتمال شفاء ضعيف بعد العملية. وكما في الطب، فهذا النوع من العمليات يأتي حين لا يبقى حلٌ آخر مُتَوَفّر، وحين يُوقّع المريض وأهله على موافقة صريحة لإجراء العملية.

وكما يكون الإهمال سبباً لتراكم الأمراض المُستَعصية والإتكال على الله في تبرير ذلك الإهمال “مَن له عمرٌ لا تقتله شِدّة”، كذلك هي الدول.

لم تخضع دولةٌ لبرامج صندوق النقد الدولي إلّا بعد تاريخٍ طويل من الفساد وقصر النظر والأنانية السياسية، وتحوّل المنظومات الحاكمة إلى نوع كريه من رأسمالية رجال الدولة (وهي غير رأسمالية الدولة).

السمة الأخرى لمرحلة ما قبل الخضوع هي النكران طويل الأمد ورفض الإعتراف بالإحتمالات الكارثية للمستقبل، وشتم كلّ مَن يتجرّأ على نقد سياساتهم واتهامه بمحاولة ضرب الإقتصاد خِدمةً لأهدافٍ مشبوهة.

لم يخرج لبنان يوماً عن مقدّمتَي الخضوع المذكورتين بل زاد عليهما نكراناً مرضياً إضافياً تَمثّل بالتسليم بان مشكلته هي بالأصل سياسية وأن حل هذه المشكلة كفيلٌ بحل كافة مشاكله. في هذا التسليم إعفاءٌ للنفس وتعمية عن سياسات لا مسؤولة كان يجب أن يقوم عكسها تماماً بسبب صعوبة الموقع السياسي.

ليس صندوق النقد الدولي ولا تكيبفه الهيكلي قدراً محتوماً للأمم التي تعصف بها الأزمات الإقتصادية، ولكنه قدرٌ ولا شك للدول المهزومة اقتصادياً. والهزيمة هنا هي مزيج من خبث العناصر الجيوسياسية الخارجية وتآمر العناصر الإقتصادية الداخلية.

تنزع كل الدراسات التي بحثت في أثر الديون الثقيلة في الإنهيار الاقتصادي إلى وجود رغبة لدى المُقرضين في إغراق المُدينين بالديون لأسباب مُتعدّدة ومُترابطة: السيطرة السياسية، السيطرة على الموارد الاستراتيجية… وبالمختصر السيطرة على مصائر الأمم.

لكن ايضاً يجب الإعتراف بأن هذا المُقرض الخبيث وجد دائماً مُقتَرِضاً أرعناً وجد ضالته للتكسّب السياسي والشخصي في تلك الديون السهلة.

برامج الصندوق تأتي على وقع هذه المعادلة حيث تفقد الدولة المناعة الإقتصادية وينهار مخزون العملات الأجنبية، في وقت تتراكم استحقاقات الديون المُحرَّرة بالعملات الصعبة ويصبح الأمن الغذائي تحت الخطر الشديد. كل هذا يحصل في لبنان وحصل قبله في البرازيل والأرجنتين ومصر وتركيا وغيرها.

الفارق ان العملية الجراحية لبرامج الصندوق نجحت وفشلت بقدر ما استطاع المريض (الدول) أن يؤمن وحدات الدم (ضخ الاستثمارات الاجنبية) بالتلازم مع مبضع الطبيب الجراح (برامج التكييف الهيكلي).

هكذا نجح حتى الآن برنامج صندوق النقد في مصر بسبب جسر الاستثمارات الضخم الموازي الذي أمّنته دول الخليج النفطية وخصوصاً المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات. وهكذا غرقت الأرجنتين في وحل برنامج الصندوق المتسخ، الذي زاد الخراب خراباً لأن هذا البرنامج ودولاراته المتواضعة لم يُرفد بجسر الإستثمارات الذي أمّنته مصر. كريستين لاغارد، المديرة العامة السابقة للصندوق (ورئيسة البنك المركزي الأوروبي حالياً) قالت صراحة: “لقد فشلنا في الأرجنتين لأننا كنا “نلعب وحدنا”.

من يلعب مع الصندوق في لبنان؟ حتى حين يلبس ثوب المُستشار؟

لا أحد، لأن لبنان في أتون جيوسياسي لا يسمح بجسور الإستثمارات ولا حتى ب”زاروب” واحد.

أمام لبنان مسيرة مؤلمة لا يُمكن أن تنتظر خيرات النفط ولا رضى الدول المانحة والمستثمرين قبل رسوه على برٍ سياسي لا يبدو أنه متاح حتى إشعارٍ اخر. إنها مأساة إبليس!

لا يوجد شيء إسمه بلدٌ فقير، بل يوجد فقط نظامٌ فاشلٌ في إدارة الموارد (نعوم شومسكي).

  • البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصادي السياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى