ما يُمكِن تَوَقّعه من الحكومة اللبنانية الجديدة: “مُكافحة الفساد” كغطاءٍ لحملةٍ ضدّ المُعارِضين

فيما يحاول الكثيرون معرفة الموقف الأميركي حيال الحكومة اللبنانية الجديدة التي شكّلها أخيراً الدكتور حسّان دياب، فإن المقال التالي الذي كتبه السفير الأميركي السابق في لبنان والمسؤول الأسبق عن شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان يُوضح الأمور ويُجيب عن أسئلة كثيرة.

 

جبران باسيل يجيب عن أسئلة هادلي غامبل: السقطة كانت مُحرجة في دافوس!

بقلم جيفري فيلتمان*

بعيداً من الإقتصاد المُتَهاوي، تُواجه الحكومة اللبنانية الجديدة الموالية لسوريا و”حزب الله” مُشكِلة. فالرئيس ميشال عون والقوى السياسية التي تُدير دفّة الحكومة الجديدة يرحّبون بالفرصة لإطلاق عنان قوى الدولة أخيراً ضدّ أخصامهم السياسيين المُوالين للغرب.

بيد أنّ المتظاهرين الغاضبين والمواطنين الذين يزداد يأسهم يتوقّعون أن يتمّ التعامل مع شكاواهم السياسية والإقتصادية غير الحزبية (أو المناهضة للحزبية حتّى). ردّاً على ذلك، وكخطوة من خطوات الحكومة الأولى، ستُعلنُ عن حملة مُتشدّدة لمكافحة الفساد هدفُها تهدئة الشارع بعد مئة يوم من الإحتجاجات. ففي النهاية، من المعروف أنّ الفساد الجشع مُستشرٍ في الطبقة السياسية بأكملها تقريباً في لبنان، بعد أن غذّته عقودٌ من غنائم المحسوبية الطائفية وغياب الشفافية.

نظرياً، يُمكن أن تمنح مكافحة الفساد دعماً شعبوياً للحكومة الجديدة التي تلفّها الشكوك. لكن على أرض الواقع، ستُصمّم شعارات مكافحة الفساد التي ستطلقها هذه الحكومة من أجل تغطية حملة بشعة ضدّ المعارضين.

مهزلة مكافحة الفساد

ينبغي على الشعار الطاغي في الاحتجاجات في لبنان – كلّن يعني كلّن، الذي يطالب بطرْد النظام السابق بأسره من المناصب الوزارية والنيابية – أن يُحدّد أيضاً مَن عليه أن يخضع للتحقيقات في الفساد. بيد أنّ أجندة الحكومة الجديدة بشأن مكافحة الفساد ستكون انتقائية، وستكون عبارة عن عقوبة ثأرية ضدّ الشخصيات السياسية اللبنانية التي كانت لها الشجاعة بأن تدافع عن، أو تمثّل، نظرةً بديلة للبنان من رؤية عون-“حزب الله”-سوريا المُناهِضة للغرب التي تُجسّدها هذه الحكومة.

سيتمّ استهداف رئيس الوزراء المُستقيل سعد الحريري ورئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وحلفائهم. وسيتمّ غضّ النظر عن وزير الخارجية السابق جبران باسيل وأصدقائه ورئيس مجلس النواب نبيه برّي وغيرهم من المرتبطين بمحور عون-“حزب الله”-سوريا، الذين ينبغي التحقيق في فسادهم بالقدر ذاته. فلن ينظر أحدٌ بجدّية في صفقات الكهرباء والوقود الغامضة التي أجرى مفاوضاتها وزراءٌ من  “التيار الوطني الحرّ” التابع لباسيل وعون. ولن يُرغَم “حزب الله” على تسديد الضرائب لقاء أعماله الإقتصادية الواسعة أو فَتحِ دفاتره بشأن نظام الإتصالات السرّي الذي يشغّله أو بشأن عمليّات التهريب التي يقوم بها.

ويقبع خلف هذا الموضوع تاريخٌ طويل. فمنذ عودة ميشال عون إلى لبنان في 7 أيار (مايو) 2005 بعد 14 عاماً من النفي الكئيب، كشف عن نيّته باللجوء إلى تُهم الفساد لأهداف حزبية. ولم يكن مرّ على مغادرة القوّات السورية المحتلّة لبنانَ سوى 11 يوماً، بعد أن أُرغِمت على الرحيل بفعل الضغوط الخارجية والتظاهرات الداخلية الضخمة التي أطلق شرارتَها اغتيالُ رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005. واغتاظ عون لأنّ الحريري، في موته، حقّق ما عجزت نوبات الغضب التي انتابته خلال إقامته في فرنسا من تحقيقه طوال 14 سنة: طرد القوات السورية المُحتلّة.

تجاهَلَ عون الصور الكبيرة للحريري التي انتشرت في بيروت، وتَحدّى التقليدَ السائد آنذاك بوضع إكليل من الزهور على قبر الحريري إقراراً بأنّ تداعيات موته وَحّدت معظم اللبنانيين ضدّ الإحتلال السوري، فاستغلّ خطاب عودته الأوّل لا لإدانة قتلة الحريري أو الترحيب بخروج الجيش السوري، بل لمهاجمة الفساد. وكان كلامه، كما فهم الجميع آنذاك، اختزالاً لنيّته مهاجمة عائلتي الحريري وجنبلاط لعدم اعتبارهما عون مُخلّصَ لبنان.

وبيّن باسيل (صهر عون ووريثه السياسي المُفترَض)، من جهته، عماه حيال إجراءات حقيقية لمكافحة الفساد في وقت ليس ببعيد في نسخة هذا العام من المنتدى الإقتصادي العالمي. فبعد أن أصرّت هادلي غامبل، محاورة محطّة “سي أن بي سي” ( CNBC)، على باسيل لمعرفة الطريقة التي غطّى فيها وزير سابق في دولة مُفلسة تكاليف السفر بطائرة خاصّة إلى دافوس، لجأ إلى تفسيرات عدة إلى أن تمتم في النهاية كلاماً عن أصدقاء كرماء مجهولي الهوية. وفيما بدت علامات الإرتباك واضحة على باسيل، تمازحت غامبل ووزيرة التجارة الخارجية والتنمية الهولندية سيغريد كاغ (التي عملت قبلاً في منصب منسّق الأمم المتحدة الخاص للبنان) كيف أنّ رؤساءهم لا يسمحون بالحصول على أصدقاء مجهولي الهوية كهؤلاء. فمع تأمين باسيل مناصبَ وزارية لمتزلّفي حزبه وحلفائه، وفي الوقت الذي يترأس الكتلة النيابية الأكبر (بفارق ضئيل)، ستُطبّق الحاجة إلى الشفافية الكاملة على الآخرين، لا عليه.

في مكان آخر على الأجندة

ينبغي علينا أيضاً أن نتوقّع تجدّد الجهود من الحكومة الجديدة لطرد اللاجئين السوريين، في تحدٍّ للمعايير الدولية للعودة الآمنة والطوعية والكريمة. فنظراً إلى ويلات لبنان الاقتصادية، عاد بعض السوريين بالفعل إلى سوريا، وسيرحّب معظم اللبنانيين (الذين لم ينسوا أنّ الفلسطينيين الذين فرّوا إلى لبنان عند تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948 بقوا فيه) بتسريع لعمليات العودة، سواء أتمَاشى هذا التسريع مع المعايير الدولية أم لا.

ولا شكّ في أنّ دمشق سترحّب بالحكومة الجديدة باعتبارها الحكومة اللبنانية ذات “اللون الواحد” الأكثر موالاة لدمشق منذ أيّام حكومة عمر كرامي المشؤومة التي تشكّلت في أواخر العام 2004 وأوائل العام 2005 والتي تميّزت بشكل مريب بأنّها استخدمت الجرّافات لمحاولة طمس الأدلة في مسألة اغتيال الحريري. ولا شكّ في أنّ دمشق وعملاءها اللبنانيين سيشعرون بالرضى في أنّ الحكومة، بالنسبة إليهم، ترمز إلى انعكاسٍ للإنسحاب المُذلّ للجيش السوري في العام 2005. فالحكومة ستتألّف من سياسيين وحلفاء موالين لسوريا ول”حزب الله” ولعون، فضلاً عن حفنة من اللبنانيين الانتهازيين. وبعد الغموض والتناقضات التي اتّسمت بها “حكومات الوفاق الوطني” الأخيرة، بدأ الوضوح في الخيارات الوزارية في لبنان بالتبلور والتثبّت.

دور واشنطن

هل ينبغي على الحكومة الأميركية وغيرها من الحكومات حتّى محاولة العمل مع حكومة لا تدّعي حتّى أنّها تمثّل كلّ الجهات في الطيف السياسي اللبناني المُنقسم؟ لم يَبدُ أنّ لدى واشنطن مشكلةً في التعامل مع وزير الخارجية المُستقيل جبران باسيل، على الرغم من دوره كمهندس لتفاهم شباط (فبراير) 2006 الذي حالف بين حزب عَمّه ذي القاعدة المسيحية و”حزب الله”. فما من شخص آخر تقع على عاتقه المسؤولية بالقدر الذي تقع فيه على باسيل لتوسيع نفوذ “حزب الله” السياسي والشرعي إلى ما هو أبعد من الكوتا الشيعية الدستورية الضيّقة المسموح بها بموجب التقسيمات المذهبية التي رسّخها الطائف. وأعطى باسيل الإمكانية لادّعاءات “حزب الله” لكي تمثّل قاعدة وطنية على حساب القوى السياسية الصديقة للغرب.

بيد أنّ الولايات المتّحدة حافظت على ارتباطاتها بلبنان حتّى في غضون عملية التوسّع التي قامت بها منظّمة إرهابية والتي كان باسيل وسيطَها لأنّ لواشنطن مصالحَ في لبنان تفرض عليها هذا الارتباط للحماية والتعزيز. ويبقى هذا الواقع سارياً اليوم، مهما كانت القوى التي تقف خلف الحكومة الجديدة بغيضةً.

في الواقع، سيخدم التخفيض من مستوى العلاقات الأميركية مع لبنان مصالح “حزب الله” ودمشق القاضية بطرد الولايات المتحدة من لبنان وملء روسيا وإيران وسوريا الفراغَ الناتج. ويُريد محور عون-“حزب الله”-سوريا أن تنتهي شراكة الولايات المتحدة مع الجيش اللبناني، لأنّ القدرات المُحسَّنة للجيش، والمرتبطة بالتدريبات والمساعدات الأميركية، هي الأداة الأكثر فعالية لتقويض خطاب “حزب الله” المشؤوم حول حماية لبنان بصواريخ إيرانية هي في الواقع تضع لبنان في خطر. وتتراوح مصالح الولايات المتحدة في لبنان من عدم الرغبة في رؤية الروس يتحكّمون بثلاثة موانئ شرق المتوسّط إلى مكافحة الإرهاب والهيدروكربون وغيرهما.

دعونا لا نجعل رؤية عون-“حزب الله”-سوريا للبنان سهلة التنفيذ، ولا سيّما أنّنا نعلم أنّ الشعب اللبناني يفضّل بالإجمال توجّهاً غربياً لا سورياً -إيرانياً. نحن نتعامل مع الكثير من أمراء الحرب في أفغانستان وغيرها من الدول، وعلينا أن نبقى لكي نُنافس لحماية مصالحنا والردّ على الجهات التي ستضرّها، على الرغم من صعوبة ذلك في بلد مُعقّد ومُقسّم كلبنان. في المقابل، إذا استسلمنا بشكل وقائي، سيلجأ اللبنانيون، مع إدراكهم لنقاط ضعف بلادهم، إلى أيّ قوة يعتقدون أنّها قادرة على حمايتهم، ولا يمكننا لومهم على ذلك.

وتُعطينا الأزمة الإقتصادية والمالية الحادّة في لبنان نفوذاً للعمل. فحتّى لو اعتقد “حزب الله” بكل بساطة أنّه من الممكن الإنتظار لمرور الأزمة (والانتظار لخروجنا من المعادلة)، ستشعر الحكومة الجديدة بأنّها مُرغَمة على الاستجابة للاحتجاج الشعبي. ويحضّر المصرفيون والاقتصاديون أنفسهم لانكماش اقتصادي يُضاهي الإنكماش اليوناني هذه السنة، أي بنسبة 25 في المئة أو أكثر، لكن بدون قدرة التحمّل الداخلية والشراكات (الأوروبية) الخارجية اللتين اتّسمت بهما اليونان. ومن المتوقّع أن ترتفع البطالة إلى 50 في المئة، علماً أن نسبتها الحالية 25 في المئة أصلاً. وينبغي أن تتضمّن أيُّ ائتمانات إبداعية للحدّ من الانهيار أو برامجُ انتعاش يطرحها صندوق النقد الدولي مستوى من المراقبة والتقرير رفَضَه لبنان حتّى الآن لكنّه لن يحظى بأيّ خيار سوى بالقبول به كشرط لأي مساعدة قد تأتي صوبه.

وتماماً مثل العام 2005، عندما وضعت التظاهرات الداخلية والضغوط الخارجية سوريا أمام خيار لا مهرب منه وهو انسحاب جيشها، تتحلّى التظاهرات والمطالب اللبنانية، ممزوجة بضغط خارجي صارم على الحكومة لمعالجة هذه المطالب، بالقدرة على التأثير بشكل بنّاء في تصرّفات هذه الحكومة، حتّى لو كانت غير واعدة على الإطلاق. وفي حال كان عمر هذه الحكومة المبغوضة مُختصراً، كما يتوقّع الكثيرون أو يأملون، ستواجه لائحةٌ محسّنة من الوزراء التحديات ذاتها. ففي النهاية، لم تتداعَ الحكومة اللبنانية مع استقالة سعد الحريري في تشرين الثاني (نوفمبر). فمن ناحية تقديم الخدمات للمواطنين وحماية المصالح الوطنية، انهارت الحكومة اللبنانية (باستثناء بعض المؤسسات، مثل الجيش اللبناني) منذ سنوات، إن لم يكن منذ عقود.

إستمرار السياسة كالمعتاد

ومن المفارقات في الأزمة الراهنة أنّ ميشال عون، بصفته رئيساً للجمهورية، وجبران باسيل، بصفته رئيس أكبر كتلة نيابية، سيشهدان على ما سيصبح على الأرجح أكبر موجة هجرة للبنانيين المسيحيين منذ الحرب الأهلية. فقد اعتبر عون وباسيل كلاهما حماية المسيحيين في الشرق الأوسط مشروعهما الأساسي والدافع لسياساتهما المشكوك فيها التي تعتمد مبدأَ الغاية تُبرّر الوسيلة. وبالفعل، لقد برّر باسيل، الذي رأى “حزب الله” عنصراً أساسياً لطموحاته وطموحات عمّه السياسية، علناً تحالفه مع “حزب الله” على أساس المخاوف المسيحية. وعلماً أنّ الشيعة أقلّية أيضاً، لكنّها أقلية جيّدة التسليح في لبنان، ادّعى بأنّ المسيحيين بحاجة إلى العثور على حليف قوي في وجه الإرهاب السنّي وفي وجه موجة ديموغرافية سنّية زاد من حدّتها اللاجئون الفلسطينيون والسوريون الذين سعوا للاحتماء في لبنان.

الآن، عوضاً عن الفرار من عنف السنّة وجماعاتها، يهرب مسيحيّو لبنان من النظام الذي استغلّه قادتهم، ومن ضمنهم باسيل وعون، للبقاء في السلطة، والذي أخذ ينهار الآن تحت ثقل الرشوة المستشرية فيه. فقبل العام 2005، كان عون قادراً على الإدّعاء شرعاً أنّه خارج النظام، لكن بعد 15 سنة، باتت هذه الادّعاءات غير مُمكنة. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2019، عندما حاول باسيل عرض نفسه في منتدى الدوحة كشخص من خارج المنظومة، كشخص يتشاطر مطالب المحتجّين اللبنانيين، سُمع صوت ضحك لدى الجمهور. وقال واحد من الحضور بصوت خافت إنّ باسيل يُلهم المحتجّين فعلاً، لكن كشخص يُثير حفيظتهم.

وخلف الكواليس، مع انتهاء عملية تشكيل الحكومة، تظهر مسألة أخرى: مَن سيخلف ميشال عون في موقع رئاسة الجمهورية عندما تنتهي ولايته في تشرين الأول (أكتوبر) 2022. ففيما تجول طموحات الرئاسة في عقول المسيحيين المارونيين اللبنانيين كافة (فمنهم تمّ اختيار كلّ الرؤساء اللبنانيين)، ستحتدم المنافسة على الأرجح بين باسيل، الذي يأمل بتبوّؤ سدّة الرئاسة مثلما تبوّأها عمّه عبر الاستفادة من دعم “حزب الله”، وسليمان فرنجية، حفيد رئيس سابق وواحد من أقرب الحلفاء لدمشق في لبنان.

بيد أنّ هذا التسييس الإعتيادي والمُرهِق لن يحلّ ويلات لبنان. ففي الوقت الراهن، ستستمرّ معاناة المواطن اللبناني العادي في ظلّ نظام لطالما عُرف بأنّه مختلّ وظيفياً لكنّه بات الآن في حال تدهور فتّاك. لقد نضبت قدرة الاقتصاد اللبناني الغريبة على تحدّي السقوط، والإنهيارُ جارٍ على قدم وساق. لسوء الحظ، ستجد الحكومة اللبنانية الجديدة أنّ مهاجمة الأعداء السياسيين أسهل من إنشاء نظام أكثر استدامة وتمثيلاً يسمح للبنانيين بالإزدهار في وطنهم كما فعلوا في الكثير من دول المهجر.

  • جيفري فيلتمان هو السفير الأميركي السابق في لبنان والمسؤول الأسبق غن شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية، ومساعد الأمين العام للأمم المتحدة السابق للشؤون السياسية، وهو الآن زميل زائر في الديبلوماسية الدولية في برنامج السياسة الخارجية في معهد “بروكنز”.
  • عُرِّب هذا المقال من الإنكليزية وقد نُشر أيضاً على موقع معهد بروكنز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى