لبنان بين داريوس والإسكندر

بقلم سجعان قزي*

منذُ نحوَ ألفَين وخمسِمائةِ سنةٍ والفُرسُ طرفٌ أساسيٌّ في غالِبيّةِ حروبِ وثوراتِ فينيقيا والشرقِ. إمبراطوريّةٌ عظيمةٌ طبعَت العالمَ قبلَ المسيحيّةِ والإسلامِ وأعادت اليهودَ إلى أورشليم بعدَ سَبي بابل. تَنوّعت علاقاتُ الفرسِ بالفينيقيّين بين: احتلالِ فينيقيا أو العبورِ فيها أو التفاوضِ معها أو إجبارِهم على القتالِ معهم ضِدَّ بلادٍ أخرى. ولـمّـا أَصبح الصراعُ الفارسيُّ-الإغريقيُّ استراتيجيًّا (كحالِ الصراعِ الإيرانيِّ-الأميركيِّ) ابتداءً من سنةِ 547 (ق.م.) تَعذّر على الفينيقيّين التزامُ سياسةِ الحيادِ الإقليميّ. فَرضَ الفرسُ على الفينيقيّين المشاركةَ في حروبِهم ضِدَّ الفراعنةِ والإغريقِ والبابليّين. فاستُشهدَ ألوفُ الفينيقيّين في حروبِ الآخرين، وأُحرِقَ أسطولُهم البحريُّ، واحتُلَّت مدائنُهم، وانقَسَموا حِيالَ المُحتلِّين.

أذعنَ الفينيقيّون للفرسِ إلى أنْ ساءت الحالةُ الإقتصاديّةُ والتجاريّةُ في المدائنِ الفينيقيّةِ ومستعمراتِها في البحرِ المتوسّط، فانتشَر الفَقرُ والجوعُ، وحَصَلت عمليّاتُ تَمرّدٍ شعبيٍّ ضِدَّ ملوكِ المدائنِ الفينيقيّةِ الّذين انحازوا إلى الفُرسِ من أوغاريت شمالًا (رأس شمرا السوريّة حاليًّا) حتّى صيدا وصور جَنوبًا. طالب الشعبُ بتحييدِ مدائنِه وسفنِه والإمتناعِ عن الحروبِ لأنّه ضاق ذَرْعًا بالنفوذِ الفارسيِّ. إنتفَض الفينيقيّون في مدائنِهم وثارَ أهلُ صَيْدون سنةَ 353 (ق.م.) على “أَرْتَـحْشَشْتا الثالث”، ملكِ الفُرس، وأَقدَم مَلِكُ صيدون، “تَـبْـنيت” (Tabnit)، على قتلِ حاكـمَين فارسيَّين (Satrapes). أغاظَ الموقفُ الفينيقيُّ الشجاعُ “أَرْتَـحْشَشْتا”، فقاد بنفسِه سنةَ 348 (ق.م.) حملةً عسكريّةً لإخضاعِ صيدون المتمرِّدة. إنتظر الصَيْدونيّون وصولَ دعمٍ مِصريٍّ فلم يأتِ. ورغم ذلك، رَفضوا الإستسلامَ للفرسِ وأَحْرقوا مدينتَهم وارْتَمَوا في نيرانِها مع كنوزِهم. عسى ألّا نَحرُقَ لبنان…

ليس التاريخُ ما يعيدُ نفسَه، بقدْرِ ما الشعوبُ تعيدُ أخطاءَها من دونِ الإتّعاظِ من التاريخ. فالتاريخُ ليس سلطةً، هو مُعلّـمٌ يُسجِّل مآثرَ الشعوبِ وأخطاءَها. يَقرأ مسابقاتِها ويُعطيها العلامةَ التي تَستحق، والعلامةُ هنا هي: المصير. أَنَسألُ بعدُ لماذا بَلغْنا، نحن اللبنانيّين، هذا المصيرَ طالما لم نَتعلَّم من التاريخِ شيئًا منذ ألوفِ السنين؟ أجدادُنا الفينيقيّون ـــ وهذا نَسَبٌ اختياريٌّ ـــ مَعْذورون، فالفُرسُ فَرَضوا عليهم بالقوّةِ أن يَشتركوا في حروبِ الآخَرين، أمّا نحن فنَتهافَت تحت تأثيرِ العصبيّاتِ الدينيّةِ والمذهبيّةِ والإيديولوجيّةِ للمشاركةِ تلقائيًّا في حروبٍ، داخلَ حدودِنا وخارجَها، ضِدَّ مصالحِ لبنانَ العليا والدنيا.

سيطَرت الإمبراطوريّةُ الفارسيّةُ على هذا المشرِقِ الفينيقيِّ/ الكنعانيِّ/ الأراميِّ حتّى قَرّر الإسكندرُ المقدونيُّ اجتياحَ الشرقِ وتحجيمَها، فانتصَر على إمبراطورِ الفرس، “داريوس الثالث”، في معركةِ “إيسوس”، ناحيةَ إسكندرون السوريّةِ، في تشرين الثاني (نوفمبر) (يا للمصادَفة) من سنةِ 333 (ق.م.). وأَكمل نحو سواحلَ فينيقيا وحاصَر مدينةَ صور سبعةَ أشهرٍ سنةَ 332 (ق.م.) قبلَ أن يَقتحِمَها في غيابِ مَلكِها آزيملكوس (Azémilcus) الذي كان يقاتلُ إلى جانبِ داريوس الثالث في الساحلِ السوريّ…

اليوم قَرّرت الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ ـــ مقدونيا العصرِ الحاليّ ـــ أن تَضعَ حدًّا للتمدّدِ الإيرانيِّ في الشرقِ بعدما رَفضت القياداتُ الإيرانيّةُ منذ سنةِ 1979 الإنخراطَ في مجتمعِ الأممِ، واحترامَ القوانينِ الدوليّةِ، والتوقّفَ عن إنتاجِ الطاقةِ النوويّةِ، والإمتناعَ عن التدخّلِ في شؤونِ الدولِ المجاوِرةِ، وتسليحَ أحزابٍ ومنظمّاتٍ مُتَّهمةٍ بالإرهاب. لكنَّ الإسكندر هزمَ الفرسَ بجيشٍ قِوامُه نحوَ أربعينَ ألفِ مقاتلٍ، فيما يَتوهّم دونالد ترامب التغلّبَ على إيران بجيشٍ قِوامُه أربعون ألفِ “تويتْ” و”واتسآب” وبفيلقِ عقوباتٍ تَلوي ولا تَكسِر. والإسكندرُ رَفض سنةَ 332 (ق.م.) ميثاقَ صلحٍ عَرضَه عليه داريوس، فيما يَنتظرُ ترامب اليومَ إتصالًا هاتفيًّا من الرئيس الإيراني، حسن روحاني!

إلتقى هذا القرارُ الأميركيُّ مع رغبةِ شعوبِ لبنانَ والعراق ـــ وسوريا قريبًا ـــ بإنهاءِ سيطرةِ إيران مباشرةً أو عبرَ وكلائِها، على دولِها وقراراتِها الوطنيّةِ ومصيرِها. ها هو شعبُ لبنان، وقد بَلغَ ما بَلغَته فينيقيا قديمًا، يَنتفِضُ، تحت عباءةِ المطالبِ الإجتماعيّةِ، بوجهِ النفوذِ السياسيِّ والعسكريِّ الإيرانيِّ المتمثِّلِ ب”حزبِ الله” وحلفائِه. إنتفاضةُ اللبنانيّين، وإن التقَت مع اللحظةِ الأميركيّةِ، ليست جُزءًا من المشروعِ الأميركيِّ. إنزعاجُ اللبنانيّين من سيطرةِ “حزبِ الله” مستقلٌّ عن النزاعِ الأميركي-الإيرانيِّ والـمَلفِّ النوويّ. ومَن يَربُطُ لبنانَ بهذا النزاعِ هو “حزبُ الله” دون سواه. اللبنانيّون لا يَنتظرون هزيمةَ داريوس ضِدَّ الإسكندر، ولا انتصارَ ترامب على خامِنَئي. نحن مثلَ أجدادِنا الفينيقيّين شعبٌ مسالمٌ، حرٌّ ومستقِل. قُلناها لسوريا سابقًا فلم تَقتنِع، ونقولها اليومَ لإيران فحبّذا لو تَقتنع. خطيئةٌ كبرى أن نَتورَّطَ، شعبًا وثورةً وحكمًا، في الصراعِ الأميركيّ-الإيرانيّ المفتوحِ على جميعِ الإحتمالات وقد تجتاحُنا كما اجتاحَ الإسكندرُ فينيقيا.

أصلًا، ليس لدى اللبنانيّين عداءٌ مسبَقٌ تجاه إيران، وليس لدى الطوائفِ اللبنانيّةِ خصومةٌ جينيّةٌ حيالَ “حزبِ الله”. لكنَّ اللبنانيّين، بمَن فيهم الشيعةُ، ضاقوا ذَرعًا بمشروعِ “حزبِ الله” الذي يَتنافى مع ماهيّةِ تأسيسِ دولةِ لبنان، ومع نمطِ حياةِ المجتمعِ اللبنانيِّ المسلِمِ والمسيحيّ والدُرزيّ، ومع تقاليدِ سياسةِ لبنان وديبلوماسيّتِه، ومع نسيجِ تحالفاتِه التاريخيّةِ في الشرقِ والغرب.

تُواجِه الجماعاتُ أو الدولُ في مسيرتِها التاريخيّةِ تحدّياتٍ عابرةً وأخرى ثابتة. نحن، اليومَ، أمامَ ساعةِ الحقيقةِ اللبنانيّة. سعى البعضُ إلى مؤتمرٍ تأسيسيٍّ فإذا بنا أمامَ مؤتمرِ دوليٍّ قيدَ التأسيس. ويُخطئ الطرفُ الذي يَظنُّ أنّه “الإسكندر” والآخرَ هو “داريوس”؛ وأنَّ ساحةَ الشهداءِ هي معركةُ “إيسوس” وساحةَ رياض الصلح هي معركةُ “صور”. ويُخطئ أكثرَ من يَظنُّ أنَّ الأوضاعَ ستبقى على حالِها، خصوصًا بما خَصَّ “حزبَ الله”.

وخلافًا لما يُشاعُ، هذه الإنتفاضةُ اللبنانيّةُ البهيّةُ هي أفضلُ مَدخَلٍ لفكِّ ارتباطِ أزمةِ لبنان بأزماتِ المِنطقة لأنّها انتفاضةُ شعبٍ حرٍّ لا قياداتٍ مرتَهنَة. إنَّ الظرفَ مناسبٌ ليعيدَ “حزبُ الله” النظرَ في سلاحِه الطليقِ، ويَنخَرِطَ في الحياةِ السياسيّةِ اللبنانيّةِ كسائرِ القِوى الوطنيّة لنبنيَ معًا لبنانَ الذي يُشبِه من جهةٍ أجيالَنا الجديدةَ المنتفِضةَ، ومن جهةٍ أخرى شهداءَنا جميعًا.

تعالوا، وقد بَدأوا يُحوّلون الثورةَ فِتنةً، نلتقي من دونِ تسوياتٍ وتنازلاتٍ حولَ ثوابتَ وطنيّةٍ وميثاقيّةٍ، ونُترجِمُها في حكومةِ إنقاذٍ مصغّرةٍ، جديدةٍ بوجوهِها وقديمةٍ بتراثِها الوطنيّ، غنيّةٍ بـخُبُراتِ بعضِ أعضائِها ومنيعةٍ بتجاربِ البعضِ الآخر. لا أحدَ يَحِقُّ له أنْ يُلغيَ أحدًا. مثلما رَفَضنا حربَ الإلغاء واحتلالَ الإلغاء وحكمَ الإلغاءِ وسلاحَ الإلغاء، نرفُض أيضًا ثورةَ الإلغاء. لكنَّ هذه الثورةَ لا تُلغي إلّا الّذين يريدون أنْ يُشاركوا في حكومةٍ نزيهةٍ وهم مُميَّزون بالفساد، والّذين يُريدون أن يُشاركوا في حكومةِ لبنان وَهُم أعضاءٌ في حكوماتِ دولٍ أجنبيّةٍ أخرى. ليَكُن شعارُنا اليوم: “إخْلَعوا رِداءَ وَلاءاتِكم لتَدخلوا عَتَبةَ لبنان”. شعارٌ بَعثَ بمثلِه سنةَ 332 (ق.م.) نجلُ ملكِ صور إلى الإسكندر: “إنزَع سلاحَك قبلَ دخولِ مَعبدِ الإلَه مِلْكارت”…

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته على التويتر عبر حسابه: @AzziSejean
  • هذا المقال نُشر أيضاً في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى