الدولةُ تراقِبُ ساعَةَ الدَوَام ولا تُراقِبُ الإِنتاجية خِلال ساعات الدوام

بقلم هـنـري زغـيـب*

تحتشِدُ المؤَسساتُ الرسمية في لبنان هذه الأَيام بـمندُوبي التفتيش المركزيّ يُفاجئُون ويَضبُطون ويُدوِّنون تقاريرَهم عن مخالفات الحضور على الوقت كي تعاقِبَ الدولةُ الموظفين الذين لا يتقيَّدون بِـدوام الوُصُول والمغادرة.
عال. هذه بدايةٌ صالِـحةٌ للدولةِ الـمُشمِّرة عن زنودها كي تحاربَ الفساد. ولكنَّ هذه البدايةَ بدأَت من أَسفل السُلَّم، وليست هي البداية التي بسببِها ينخُر الفسادُ مفاصلَ الدولة وعضلاتِها وشرايـينَها. صحيح أَنَّ بين الموظَّفين متأَخِّرين عن الدوام أَو غائبين عنه – وهُم جماعةُ الكَسالى أَو المدعومين سياسيًّا من زعيم القبيلة-، لكنَّ لِـمتأَخِّرين آخَرين أَسبابَهم الـمشروعة: منهم الآتون من مناطقَ بعيدةٍ في وسائل النقل المتوفِّرة أَمامهم، ومنهم المتأَخرون بسبب زحمة سيرٍ باتت جلجلةَ الناس جميعًا للدخول إِلى العاصمة، ومنهم ذوو الحاجات الشخصية لتدبير أَولادهم، أَو لظروفٍ صحيةٍ ذاتيةٍ أَو غيريَّة، وهؤُلاءِ همُ الذين يَزْجُرُهُم تقريرُ التفتيش المركزي بلا رحمةٍ ولا ذَرَّةِ عاطفة.
لكن ساعةَ الدوام لا تَشرحُ أَن طرقاتِ الوطن، بأَحافيرها وسياراتِ سرﭬــيسها، ليست كلُّها صالحةً لتوصِلَ على الوقت.
وساعةُ الدَوام لا تَشرح أَنَّ الدولة التي تحارب الفساد بصغار الموظَّفين لم تُؤَمِّن لـمواطنيها الأَعزَّاء نقلًا عامًّا مُشتركًا يخفّف الإزدحامَ على الطرقات ويخفِّف عن المواطنين دفْع قسمٍ من رواتبهم الضئيلة للنقل الخاص فيتنقَّلُون من انتظارِ باص إِلى الإنتقال بسيارة سرﭬـيس أَو أَكثر، وإذا كانوا يأْتون إِلى العاصمة من بلداتٍ بعيدةٍ ينهضُون قبل طُلوع الفجر ويغادرون بيوتهم قبل طُلوع الشمس كي يصِلوا إِلى ساعة الدَوام على وقت الدَوام.
الدولةُ التي تحارب الفساد بِـمُراقبة صغار الموظفين، لا تراقبُ تنفيذَ الإِصلاحاتِ المطلوبة من تعديل الدوام، ولا تراقبُ الإِنتاجيةَ الرَخوةَ التي يقومُ بها موظفون شاطرون في الحضور طيلةَ ساعاتِ الدَوام إِنما لا يَـمْلأُونَ بالإِنتاجية ساعاتِ الدوام.
والدولةُ التي تحارب الفساد بِـمُراقبة صغار الموظفين لا تُراقب جدوى التعطيل نهارَ السبت مع ما يعطِّل متابعةَ معظم المواطنين معاملاتِهم الرسمية أَيام السبت.
والدولةُ التي تحارب الفساد بِـمُراقبة صغار الموظفين، لا تُراقب أَيَّ تحفيز للموظفين الـمُخْلصين الـمُواظبين كي يزيدوا إِنتاجيتهم، ولا تراقب مؤَشِّر التطور أَو التقدُّم، أَو عدم التطوُّر والتقدم، منذ بدء العمل بالدوام الجديد مع تعديل سلسلة الرتب والرواتب وما جرَّه على الدولة من فوضى نراها اليوم، إِذ تنبَّهَت الدولة إِلى تضخُّم في ميزان المدفوعات لم تلحظْه حين وافقَت على دفع السلسلة، وها الموظفون اليوم مهدَّدون بالتراجع عن بعض ما فيها، وبالاجتزاءِ الراهن من الرواتب وتعويضات نهاية الخدمة ومعاشات المتقاعدين.
كلُّ ما تنبَّهَت إِليه الدولة أَنها شَـمَّرَت عن زنودها وهجمَت على الدوائر الرسمية تُحاسب وتُراقب وتُعاقب، وكلُّ هَـمِّها ساعةُ الدوام وضبْط الوصول والمغادرة، بـدون أَيِّ تَـحَقُّقٍ من إِنتاجية ساعات الدوام لدى موظَّفين منضبطين “شاطرين” يَحضرون على الوقت ويغادرون على الوقت، ولا يعرف التفتيش المركزي ما الذي يقومون به قبل المغادرة وبعد الوصول.
مُهِمٌّ هو الالتزامُ بـالمسؤُولية الـمشتركة، والأَساس: ماذا يُنتجَ بين الوصول والمغادرة! لكن الأَهمَّ أَن تكونَ دُقَّت الساعة، وهي هنا مزدوجة: سَاعةُ الدَوَام، وسَاعةُ الـمُحاسبة.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى