شحّ المياه يُثير الإحتجاجات ويُهدّد الأمن الغذائي في إيران

يُهدّد شح المياه المتفاقم في إيران الاكتفاء الذاتي الزراعي إنما يُلقي أيضاً بأعباء على صادراتها في قطاع الطاقة في المدى الطويل، مع العلم بأنها تأمل بالتعويل على هذين القطاعين لتجاوز تداعيات العقوبات الاقتصادية الجديدة.

الرئيس حسن روحاني: أزمة المياه تزيد مشاكله الإجتماعية والإقتصادية

بقلم تامر بدوي*

في 22 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، أعلن المسؤول في وزارة الزراعة الإيرانية إسماعيل إسفندياري، أن إيران خفّضت وارداتها من القمح إلى صفر، محافظةً بالتالي على الإكتفاء الذاتي في إنتاجها من القمح للسنة الثالثة على التوالي. فضلاً عن ذلك، أصبحت إيران مُصدّراً صافياً لهذا المحصول الاستراتيجي الذي تعتبره القيادة الإيرانية أساسياً للحفاظ على الأمن الغذائي. بيد أن الأزمة المتعاظمة الناجمة من شحّ المياه تُهدّد هذا الإكتفاء الذاتي الذي توليه إيران أهمية كبيرة وتعتبره جزءاً من “مقاومتها الإقتصادية” للعقوبات. فندرة الموارد المائية – الناجمة من التغيّر المناخي مقروناً بسوء الإدارة – قد تدفع بإيران مرغمةً إلى استيراد كميات كبيرة من القمح في السنوات المقبلة. والجدير بالإشارة هنا أن أزمة المياه لا تؤثّر في الإستهلاك الداخلي فحسب إنما أيضاً في صادراتها في قطاعَي الزراعة والكهرباء إلى الأسواق المجاورة بسبب تراجع الإنتاج الهيدروكهربائي.
لقد تسبّب انخفاض كميات المتساقطات جراء التغيّر المناخي، بتفاقم مشكلة شحّ المياه في إيران في الأعوام الأخيرة. خلال العام الفارسي 1396 (21 آذار (مارس) 2017-20 آذار (مارس) 2018)، إنخفضت مستويات المتساقطات بنسبة 25 في المئة، وهذا التراجع في كميات المياه كان ملموساً حتى في المناطق المعروفة تاريخياً بوفرة الموارد المائية في الجزء الشمالي والشمالي الغربي من البلاد. وقد أدّى ذلك، وفق التقارير، إلى تراجع كميات المياه التي تدخل إلى السدود الإيرانية، بنسبة 33 في المئة، أي من 32 مليار متر مكعّب من المياه السطحية في العام 2017 إلى 25 مليار متر مكعب في العام 2018. وهذا الإنخفاض الكبير يُشكّل تهديداً للقطاع الزراعي الذي يستهلك، سنوياً، 92 في المئة من الموارد المائية المتجدّدة في البلاد – مقارنةً بنحو 70 في المئة في معظم البلدان الأخرى. وفي ما يتعلق بإنتاج القمح تحديداً، والذي يأتي في صدارة المحاصيل من حيث كمية الإنتاج مع بلوغ كمية القمح المنتَجة لهذا العام 13.5 مليون طن، وفقاً للتقديرات، فإن ثلث محاصيل القمح يعتمد على الري من الخزّانات مثل السدود، في حين أنه يُعوَّل بصورة أساسية على مياه الأمطار لري الثلثَين الآخرين. وقد لجأت الحكومة الإيرانية، منذ العام 2008، إلى استخدام ما يُعرَف باستمطار السُّحُب، وهي ممارسة قائمة على إضافة مواد كيميائية في الجو بغية استدرار المطر، ما ساهم، وفق ما أُفيد، بزيادة كميات المتساقطات بنسبة 15 في المئة بين 2005 و2015 في مناطق محددة. في حين أنه بإمكان الحكومة أن تُوسّع هذه الممارسة للحدّ من تبعات التراجع في كميات المتساقطات، إلا أنه ليس واضحاً إلى أي درجة يُمكن أن تُساهم في إحداث تحسين كبير في كميات الأمطار.
مع التراجع في كميات المتساقطات، غالب الظن أن مزارعي القمح على وجه الخصوص سيبحثون عن مصادر إضافية للري، بما في ذلك عبر بناء آبار غير قانونية، ما يؤدّي إلى تعطيل أو تبطيء الجهود التي تبذلها الحكومة للحد من الاعتماد على الخزّانات الجوفية المتناقصة. فعلى سبيل المثال، وفي حين يجري راهناً سحب 42 مليون متر مكعب من المياه الجوفية بطريقة قانونية، تُسحَب 4.7 ملايين متر مكعب إضافية من المياه بطريقة غير قانونية عبر حفر آبار وتركيب أدوات لضخ المياه. وقد أشارت الحكومة، في خطتها الإنمائية السادسة (للمرحلة الممتدة من 2016 إلى 2021)، إلى أنها تسعى إلى خفض إجمالي كمية المياه التي تُسحَب من الآبار الجوفية بواقع 11 مليون متر مكعب، لكنها لم تُدلِ بتفاصيل عن نوع المشاريع التي تنوي تنفيذها لتحقيق ذلك.
تبقى فعالية إستهلاك المياه في القطاع الزراعي الإيراني عند مستوى النصف بالمقارنة مع المعدل العالمي. لقد زعم بعض التقارير أن شركات مُرتبطة بالحرس الثوري الإسلامي تُمارس ضغوطاً على الحكومات المتعاقبة من أجل إبرام عقود لبناء فائض من السدود – على الرغم من أن معظمها لا يُحقّق كامل طاقته بسبب النقص في كميات المتساقطات. ومعظم هذه السدود المشيَّدة بجودة منخفضة غير فعّالة في تخزين المياه التي إما تتبخر بسرعة كبيرة وإما تمتصّها الأرض من جديد، وهذا لا يؤثّر وحسب في شبكات الري الزراعي، إنما يتسبّب أيضاً بخفض كمية التيار الكهربائي التي يمكن أن تولّدها السدود للإستهلاك الداخلي. وفي تقرير صادر في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، لفت مركز الأبحاث في مجلس الشورى الإسلامي إلى أن التركيز على السدود دفعَ بالقطاع إلى صرف النظر عن بناء منشآت مكمِّلة لجهة المنبع والمصب، مثل نُظم للري، ومستجمعات إصطناعية للأمطار (لتخزين المياه بفعالية أكبر)، وشبكات لتصريف المياه (لاستصلاح الأراضي وحمايتها من الفيضانات). وقد اتّخذ الرئيس حسن روحاني، خلال ولايته الأولى، خطوات لوقف هذه السياسة، فعمد إلى توقيف بناء 14 سدّاً لمصلحة مدّ مزيد من خطوط الأنابيب الجوفية الأقل عرضة للتبخّر.
رداً على مشكلة الإستهلاك المائي، تعمل الحكومة على زيادة أعداد مصانع تحلية المياه وإمكاناتها على طول الخليج العربي. وفي حين أن هذا المجهود يصبّ، في شكل أساسي، في إطار الاستخدام الصناعي، فإنه يُمكن توسيعه كي يساهم في تحقيق الإكتفاء الذاتي الزراعي. بيد أن نقل المياه المنزوعة الملوحة إلى المناطق الداخلية – وهو ما سيتطلب نقلها عبر أنابيب إلى مرتفعات – سيستهلك الكثير من الطاقة، ولذلك يُعتبَر المشروع مُكلفاً جداً. وأشار أحد التقارير إلى أنه إذا عمد المزارعون في وسط إيران إلى استخدام المياه المنزوعة الملوحة لري ما نسبته 10 في المئة من إنتاج البلاد الحالي من القمح، فسوف يتطلب نقل المياه إلى وسط البلاد نحو 10 في المئة من كمية الغاز الطبيعي التي استهلكتها إيران في العام 2015.
وهكذا فإن اعتماد هذا الحل القائم على استهلاك كميات كبيرة من الطاقة لمعالجة أزمة المياه، سيؤدّي إلى استخدام مزيد من الغاز الطبيعي، الأمر الذي يحدّ من قدرة إيران في المدى الطويل على تصديره إلى البلدان المجاورة، مثل العراق وتركيا (يعتمد البلد الأول راهناً على الغاز الطبيعي الإيراني لإنتاج 45 في المئة من احتياجاته من التيار الكهربائي)، فضلاً عن صادرات مخطط لها لسلطنة عُمان. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من قدرة إيران على تغطية الطلب المحلي على الغاز الطبيعي من خلال زيادة الإنتاج في السنوات الأخيرة، إلا أن إنسحاب شركات الطاقة الأجنبية من إيران بسبب العقوبات الأميركية يعني أن تطوير حقول الغاز من المرجح أن يتباطأ. كما أن زيادة الطلب الزراعي في المستقبل قد يجعل إيران تستأنف إستيراد الغاز من تركمنستان.
في غضون ذلك، تسبّبَ تراجع الوصول إلى المياه النظيفة والكهرباء بزيادة الإحتجاجات خلال العامَين المنصرمين. لقد أدّى تناقص الموارد المائية وما ينجم عنه من إنقطاع في التيار الكهربائي، إلى اندلاع إحتجاجات واسعة في محافظة خوزستان في شباط (فبراير) 2017، ثم في حزيران (يونيو) – تموز (يوليو) 2018. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، إحتجّ المزارعون في أصفهان على”سوء الإدارة” الحكومية لأنابيب المياه المُخصّصة للري. وفي كانون الأول (ديسمبر) الجاري، عمدت الحكومة إلى إلغاء التمويل لجميع المشاريع المائية في أصفهان في موازنة العام المقبل، بسبب المحدوديات المالية كما قيل، ما دفع بنواب المحافظة الثمانية عشر إلى تقديم إستقالاتهم تعبيراً عن إعتراضهم. غالب الظن أن هذه الضغوط السياسية والإجتماعية سوف تزداد، فيما يُلقي التمدين، المدفوع جزئياً بالزلازل وتصحُّر الأراضي الزراعية، بضغوط إضافية على البنى التحتية المائية في المدن الكبرى، لا سيما طهران التي تستهلك 20 في المئة من مياه الشفة في إيران.
وهكذا تجد البلاد نفسها عالقة بين الحاجة إلى الحدّ من استهلاك المياه إستباقاً لمزيد من الجفاف وبين الحاجة إلى استخدام كميات إضافية من المياه للحفاظ على الأمن الغذائي من طريق الإكتفاء الذاتي. إن معالجة الأزمة المائية في إيران، بغية تجنّب هذه الأزمات الإجتماعية والإقتصادية، تتطلّب إجراء تحوّلات في السياسات تُراعي الظروف السياسية في البلاد، بما في ذلك تقليص خطط الإكتفاء الذاتي الزراعي جزئياً أو التخلي عنها كلياً والحد من النمو السكاني. بالنسبة إلى طهران، إن إستيراد التكنولوجيا والإبتكارات لتحقيق فعالية أكبر في استهلاك المياه، هي أولوية قصوى. غالب الظن أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، على دفعتَين، على إيران في العام 2018 سوف تتسبب بتعطيل هذا التبادل الضروري للخبرات مع العلم بأنه من شأنها أن تُشجّع المؤسسة الحاكمة في إيران على اتخاذ خطوات أكثر حزماً لتحقيق الإكتفاء الذاتي.

* تامر بدوي خبير وباحث في منتدى الشرق في إسطنبول، تركيا. لمتابعته عبر تويتر: TamerBadawi1@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى