إيران تَستَعرِضُ عَضَلاتَها و… تُؤذي نَفسَها

كان المقصود من هجمات طهران الصاروخية على جيرانها استعراض القوة، لكنها قد تكون علامةً على التهوُّر.

حسين أمير عبد اللهيان: ليس لدينا أي تردّد عندما يتعلّقُ الأمرُ بمصالحنا الوطنية.

سينا طوسي*

في غضونِ يومين، أطلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني وابلًا من الصواريخ والطائرات المُسَيَّرة على أهدافٍ في ثلاثِ دولٍ مجاورة: العراق وسوريا وباكستان.

فهل كانت خطوة إيران استعراضًا مَحسوبًا للقوّة لرَدعِ أعدائها أم عملًا مُتَهَوِّرًا يُعَرِّضُ أمنها ومصالحها للخطر؟ قال الحرس الثوري الإيراني إنَّ الضربات جاءت ردًّا على ما وصفه بالهجمات الإرهابية الأخيرة التي أسفرت عن مقتل عشرات الإيرانيين. لكن الهجمات الإيرانية أثارت إدانةً قوية من بعض الدول المتضررة، وكذلك من الولايات المتحدة وحلفائها، التي اتّهمت إيران بتصعيد التوترات وتعريض الاستقرار الإقليمي للخطر.

قد يكون كلا الجانبين على حَقّ.

زَعَمَ الحرسُ الثوري الإيراني أنَّ الضربات استهدفَت مُنَفِّذي ومُؤيِّدي الهجمات التي هزّت إيران خلال الشهر الفائت. وقعت أولى هذه الهجمات في 15 كانون الأول (ديسمبر) 2023، عندما داهمت مجموعةٌ من المهاجمين المسلحين مركزًا للشرطة في راسك، وهي بلدةٌ في مقاطعة سيستان وبلوشستان المضطربة، بالقرب من الحدود مع باكستان. وأعلنت جماعة “جيش العدل”، وهي جماعة سنّية متطرفة نفّذت هجماتٍ عدة ضدّ قوات الأمن الإيرانية في الماضي، مسؤوليتها عن الهجوم، الذي أسفر عن مقتل 12 ضابط شرطة إيرانيًا.

وكانَ الهجومُ الثاني أكثر تدميرًا. في 3 كانون الثاني (يناير) 2024، الذكرى السنوية لاغتيال الولايات المتحدة لقائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، تعرّضت إيران لأسوَإِ هجومٍ إرهابي في تاريخها الحديث. فجّرَ انتحاريان نفسيهما بالقرب من ضريح سليماني في مسقط رأسه في كرمان، ما أسفرَ عن مَقتلِ أكثر من 90 شخصًا وإصابة مئاتٍ آخرين. وأعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مسؤوليته عن الهجوم، قائلًا إن ذلك هو جُزءٌ من حملته العالمية الجديدة “وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ” وإنه يَهدُفُ إلى مواجهة “مشاريع” إيران في المنطقة.

كَشَفَت هذه الهجمات عن مدى ضُعفِ إيران أمامَ التهديدات الداخلية والخارجية وشكّلت تحدّيًا لصورةِ القوّة والاستقرار التي تتمتّع بها الجمهورية الإسلامية. لكن ردّها الانتقامي زادَ من مخاطر نشوبِ صراعٍ أوسع نطاقًا وأكثر خطورةً في المنطقة.

لقد اختارت إيران استعراضَ القوة الذي بدأ يُظهِرُ بالفعل علاماتِ نتائج عكسية. من خلالِ ضَربِ أهدافٍ في بلدان أخرى، انتهكت إيران سيادتها وأثارت عداوةَ حكوماتها، وبخاصة العراق وباكستان، اللذين كانا يُحاولان الحفاظ على علاقاتٍ جيدة مع كلٍّ من إيران والولايات المتحدة. ورَدَّ العراق بتقديم شكوى رسمية ضد إيران إلى مجلس الأمن الدولي، في حين علّقت باكستان في البداية اتصالاتها رفيعة المستوى مع إيران وسحبت سفيرها، على الرُغم من مشاركتها في مناورةٍ بحرية مشتركة معها بعد الهجمات التي قام بها “جيش العدل” وتنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي اليوم التالي، أطلقت باكستان ضرباتٍ صاروخية وغاراتٍ بطائرات مُسَيَّرة غير مسبوقة داخل إيران، زاعمةً أنها ضربت الانفصاليين البلوش، بينما أكّدت من جديد احترامها لسيادة إيران. وسعت وزارة الخارجية الباكستانية أيضًا إلى نزع فتيل التوترات، مُشَدّدةً على أنَّ إيران “دولة شقيقة” وأنَّ باكستان تكنُّ “احترامًا ومودّة كبيرة” للشعب الإيراني. لكنَّ البلدين باتا على حافةِ تصعيدٍ خطير.

تأتي الضربات الإيرانية أيضًا في وقتٍ حيث يتركّزُ اهتمامُ العالم إلى حدٍّ كبير على إسرائيل وحربها ضد “حماس” في قطاع غزة، والتي وضعت خصم إيران في موقفٍ حرجٍ محفوفٍ بالمخاطر. في هذا السياق، تعمل هجمات إيران على تحويل الأضواء إليها وتعريض علاقاتها مع جيرانها للخطر. وكان من الممكن لإيران أن تشعرَ بالرضا عندما ترى الحرب في غزة كيف تتكشَّف، والتي أدت إلى تفاقم عزلة إسرائيل الدولية وضعفها، ولكن هجماتها قد تستدعي المزيد من التدقيق والضغوط على نفسها.

ربما قرّرت إيران إعطاء الأولوية لاستراتيجيةٍ أمنية وطنية أكثر قوة على علاقاتها الديبلوماسية مع الدول الصديقة، وهو ما يتَّضِحُ من إعلان الحرس الثوري الإيراني العلني عن الضربة في الأراضي الباكستانية للمرة الأولى على الأرجح. يأتي ذلك في الوقت الذي واجهت الحكومة انتقاداتٍ من المُتشدّدين لكونها سلبية للغاية ومُترَدِّدة في الردِّ على الهجمات في إيران أو المصالح الإيرانية، خصوصًا بعد غارةٍ إسرائيلية أسفرت عن مقتل قائد كبير في الحرس الثوري الإيراني في سوريا يوم 25 كانون الأول (ديسمبر). ويبدو أنَّ إيران تشير عبر ذلك إلى أنها ستتبنّى استراتيجية أكثر حزمًا ومباشرة ضد التهديدات المُتَصَوَّرة خارج حدودها.

وقد تجلّى ذلك في الاجتماع الجاري للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، حيث صرح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بصراحة: “ليس لدينا أي تردّد عندما يتعلّقُ الأمرُ بمصالحنا الوطنية وتلك الجماعات الإرهابية داخل باكستان وتلك المرتبطة بالنظام الإسرائيلي في إقليم كردستان العراق”.

كما أعلن الحرس الثوري الإيراني في بيانه حول الهجوم، “نؤكد لأمتنا العزيزة أنَّ العمليات الهجومية للحرس الثوري الإيراني ستستمر حتى نثأر لآخر قطرة من دماء شهدائنا”. ويشيرُ هذا إلى أنَّ الضربات الصاروخية الأخيرة ليست العمل الأخير للانتقام الإيراني، بل هي جُزءٌ من استراتيجيةٍ أوسع وأكثر حزمًا. وتهدفُ هذه الاستراتيجية بشكلٍ واضحٍ إلى رَدعِ ومعاقبة إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما الإقليميين.

لذلك، لا يُمكِنُ النظر إلى الضربات الصاروخية الإيرانية بمعزل عما يجري في المنطقة، بل كجُزءٍ من التنافس الإقليمي المُتَعمّق بين إسرائيل وما يسمى ب”محور المقاومة” الذي تقوده إيران وحلفاؤها. وفي هذا الصدد، قال الحرس الثوري الإيراني إنَّ الضرباتَ في كردستان العراق أصابت أهدافًا مُرتَبطة بالموساد، وكالة التجسّس الإسرائيلية، وأنها كانت جُزءًا من الانتقام لمقتل السيد رضي موسوي، أحد ضباط الحرس الثوري الإيراني الذي اغتيل في 25 كانون الأول (ديسمبر) الفائت.

وكانت الضربات أيضًا بمثابةِ استعراضٍ للقوة ورسالة إلى خصوم إيران، وبخاصة إسرائيل والولايات المتحدة. وأطلقت إيران 24 صاروخًا من ثلاث مناطق مختلفة داخل حدودها لضربِ أهدافٍ في سوريا والعراق. أحد الصواريخ المُستَخدَمة في الضربات كان صاروخ “خيبر شيكان” (أو “مُدَمِّر الحصن”)، الذي يبلغ مداه 1450 كيلومترًا ولم يتم استخدامه مُطلقًا. ويُنظَرُ إلى هذا الصاروخ على نطاقٍ واسع على أنه مُصَمَّمٌ لاستهدافِ إسرائيل، ويمكنُ اعتبارُ استخدامه في الهجوم على الأهداف المزعومة المرتبطة بتنظيم “الدولة الإسلامية” في محافظة إدلب السورية بمثابةِ اختبارٍ ميداني رئيس يهدفُ إلى إظهار دقّة السلاح وقوّته ومداه لإسرائيل والولايات المتحدة.

وفي حين تفاخَرَ الحرس الثوري الإيراني بأنه ضربَ الأهدافَ المقصودة بدقة وفعالية عاليتَين، إلّا أنَّ المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي أدريان واتسون طعن في هذا الادعاء، واصفًا الضربات بأنها “مُتَهَوِّرة وغير دقيقة”.

ومع ذلك، تسبّبت ضربات الحرس الثوري الإيراني بالموت والدمار في المنطقة الكردية الشمالية التي تتمتّع بحكمٍ شبه ذاتي في العراق. وكان أحد الضحايا هو بشراو دزايي، وهو رجل أعمال كردي بارز، قُتِلَ في منزله في أربيل. واتّهمت وسائل إعلام إيرانية دزيي بإدارة شركة أمنية كانت واجهة للموساد، ومساعدة وإيواء عناصر الجهاز الإسرائيلي في أربيل.

من المرجح أن يكونَ هدفُ الحرس الثوري الإيراني من الاغتيال بمثابةِ تحذيرٍ لأيِّ شخصٍ يتعاون مع إسرائيل ضد إيران، مما يعني ضمنًا أنه سيواجه عواقب وخيمة. وإلى جانب منزل دزيي، استهدف الحرس الثوري الإيراني أيضًا منزل ضابط كبير في المخابرات الكردية ومقر المخابرات في إقليم كردستان، وفقًا لمصادر عراقية.

جانبٌ آخر ملحوظ من الضربات الإيرانية هو بُعدُها الرمزي: كانت هذه ضربات مُنَسَّقة على أهدافٍ زَعَمَ الحرس الثوري الإيراني أنها مرتبطة بكلٍّ من تنظيم “الدولة الإسلامية” والموساد. ومن خلال مساواة إسرائيل بالجماعة المتطرفة، تسعى إيران إلى إبراز صورتها كقوة رائدة في المنطقة والعالم الإسلامي، وكحامية للمنطقة ضدّ كليهما.

في نهايةِ المطاف، أظهرت الهجمات الصاروخية وغارات الطائرات المُسَيَّرة التي شنّتها إيران عزمها وقدرتها على الرد على أعدائها. لكن طهران أثارت أيضًا حفيظة وقلق جيرانها، إذ تجاهلت سيادتهم ومصالحهم. إن هؤلاء الجيران، بما في ذلك العراق وباكستان على سبيل المثال لا الحصر، يجدون أنفسهم في مأزق: فهم يريدون الحفاظ على علاقاتٍ جيدة مع كلٍّ من إيران والولايات المتحدة، ولكنهم يريدون أيضًا الحفاظَ على أمنهم واستقرارهم. وقد لا يقتنعون بتبرير إيران بأنَّ هجماتها كانت دفاعية فقط وليس المقصود منها ترهيبهم.

لقد أوضح الحرس الثوري الإيراني أنه تبنّى نهجًا أكثر هجومية واستباقية في ما يتعلق بأمنه القومي، وأنَّ الضرباتَ كانت مجرّد خطوةٍ أولى. وهذا يعني أنَّ مثلَ هذه العمليات من المرجح أن تستمرَّ وتتصاعد، مما يُضيفُ المزيد من الزيت على النار في منطقةٍ مُضطَرِبة أصلًا.

  • سينا طوسي هو زميل أول غير مقيم في مركز السياسة الدولية. يمكن متابعته عبر منصة تويتر (X): @SinaToossi

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى