الموتى لا يَتَشابَهُون

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

“ليس هذا زوجي”، قالت السيدة جيني هوسلي حين مرّ نعش زوجها أمام عينيها، لكن قائد السيارة التي تحمل الكَفَن أصرّ أن “الموتى يتشابهون في النعوش”. بيد أن الصيحات المُزَمجِرة تعالت حين تأكد أهل الفقيد أن الجثة التي بين أيديهم ليست لهم، وأن خلطاً حدث بين جثتين كان صاحباهما يُعانيان من ربو وأزمتين. ولما عاد سائق السيارة بالجثة المطلوبة، تعالت الصيحات مرة أخرى، فقد كانت قدما “روبرت” (الفقيد) باديتين من النعش بسبب القيادة المتهورة في أثناء العودة. لكن القصة التي أضحكت المُعَزِّين، ظلّت تقضّ مضاجع ذويه فترة من الحداد.

كنت أريد أن أصرخ كما فعلت جيني: “هذا النعش ليس لميتنا”، وأنا أرى جثة قاسم سليماني تتوسط ساحاتنا السياسية وتتصدّر نشرات أخبارنا وتتذيل مجالسنا، وخصوصاً بعد أن رأيت أهلنا في سوريا يُوزّعون الحلوى على روح الرجل. صحيح أنه لا تربطني بالرجل سابق عداوة، ولا أدّعي أنني سمعت باسمه إلا لماماً كلما ذُكر “فيلق القدس” بفتنة أو انتهاك لأرض عربية أو إزهاقٍ لأرواح سنّية. لكنني لا أنكر أنني صرت أغبط الرجل لما حظي به جثمانه من ترحاب ومُشيِّعين في مدينة “كرمان” مسقط رأسه، وبخاصة بعدما تجاوز عدد الوفيات حول جثمانه الخمسين وفاق عدد الجرحى المئتين نتيجة التدافع. كان الإيرانيون يتدافعون حول جثمان الرجل وكأنه التابوت تحمله الملائكة، وكأنهم آل طالوت يتحلّقون حول تركة موسى وهارون  ليشهدوا آية ملكه. وكم تمنيتُ حينها لو أن لنا تابوتا (أعني أهل السنّة) نتحلّق حوله، أو زعيماً نتدافع بالأكتاف ونحن نُشيّعه. تمنّيتُ لو كان لنا رمزٌ نتحلّق حوله ولو كان عِجلاً من ذهب له خوار حتى يأتينا المهدي أو ينزل عيسى بالألواح.

وكم تمنّيت لو أصرخ بأعلى صوتي مُذكّراً من تَبِعه من أشياع أننا (أعني أهل السنّة) برّاء من قتل قاسم سليماني، وأننا لم نتآمر مع الشيطان لقتل “ملاك الرحمة” الذي كان يزور العراق في “مهمة ديبلوماسية” كما ادّعت إيران ونَفَت أميركا، لأنني أعلم أننا سنكون طرفاً في القضية إن عاجلاً وإن تأخر، فنحن مُدانون بوراثة الذنب لمقتل الحسين عليه السلام رغم أننا لم نشهده ولم نرضه، ونبرأ إلى الله من كل يد تجرّأت وضربت أو رفعت وصلبت حبيبنا وابن حبيبتنا إلى قيام الساعة.

لا أدري إن كان الشيعة سيجعلون من قميص سليماني بعد موته ذريعة جديدة لكراهية أهل السنة الذين ذاقوا الأمرّين على يديه، وإشعال موجة جديدة من العنف ضد عرب الأهواز ودول الجوار، لكنني على يقين من أنهم لن يلقوا قميصه على وجه علي خامنئي فيرتد بصيراً، ليُدرك أن عدونا وعدوهم واحد ونبينا ونبيهم واحد، وأننا برّاء من دم سليماني براءتنا من دماء آل البيت عليهم وعلى نبينا السلام.

لا نُشرّع قتل سليماني، ولو كان مستحقاً، بهذه الطريقة الهمجية التي مارست فيها قوى الشر في المنطقة صنوف البلطجة العسكرية كافة وانتهكت فيها كل الحرمات، وكذلك لا نشارك في مراسم دفن رجل فتح الباب على مصراعيه للغزاة من كل ملة ليستبيحوا أراضينا العربية والإسلامية وينخروا في جسد أمة لولا جنرالاتها المفسدين لكانت خير أمة. لكننا نعلم يقيناً أن الواقفين عند نقاط التماس هم أقرب الفرق للرشق بالحجارة، وأنها حجارة نووية من سجيل لن تبقي في المنطقة، لو جد الجد، حجراً على حجر ولا حبلاً مربوطاً في وتد.

تكاد الأرض تشتعل في منطقة مشحونة بالنفط والكراهية، ولو اندلعت شرارة الحرب في طهران لاشتعلت أجران القمح في العالم كله. من حق إيران أن تنتقم لفقيدها، ومن حق أميركا أن تُدافع عن مصالحها المهددة، لكن بالله أين حقوقنا نحن أبناء هذه البلاد المُقبلة على حريق لن يبقي ولن يذر؟ أين مشيئتنا ونحن نُساق إلى حربٍ لا ناقة لنا فيها ولا متاع؟ ومَن يستطيع من قادتنا الأشاوس أن يضع حداً لهذا الهوان الذي صرنا نُعايشه ونعرفه كما نعرف أبناءنا؟ مَن مِن قادتنا يستطيع أن يُدافع عن أحلامنا البسيطة، ومستقبل أطفالنا الصغار، وبيادرنا وأراضينا المستباحة؟ من يستطيع أن يجمع أقدامنا في صعيد واحد لنحج إلى هدف واحد وإن كان المقصلة؟

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى