حفلة دخان

بقلم راشد فايد*

باتت فكرة رفع السرية المصرفية في لبنان نكتة سمجة، ومظلّة لا تردّ عاتيات سوء السمعة عمّن يتبنّاها، وتكاد تُذكّر بالمثل الشعبي القائل: سألوا الكذّاب، أي مُدمن الكذب، أن يقسم يميناً ليُصدّقه خلّانه فقال: “جاء الفرج”. فماذا يعني رفع هذه السرّية إذا كان كثيرون، حسب قول رئيس البلاد، يتخذون من مخدّاتهم (مجازاً) مخازن لأموالهم، وهل كان بابلو أسكوبار، “لورد” المخدرات وتبييض الأموال الكولومبي، يضع أمواله الحرام في مصارف ومؤسسات مالية، والجاهل بوجود الجنّات الضريبية العديدة حول العالم؟

لا يختلف دخان هذه السرية، في تعمية بصائر اللبنانيين، عن دخان البحث عن رئيس للحكومة المُنتَظرة خارج صحنها، وهو الاستشارات النيابية الإلزامية، التي يُمليها الدستور، ولا يبدو “العهد القوي” حريصاً عليه وعليها، كأنما غايته فرض أعراف غير دستورية في هذا المجال، تنحرف عما ارتضاه الإجماع اللبناني في اتفاق الطائف ودستوره. الفاقع في ذلك أن يتصرف من يُقدّمون أنفسهم كاصحاب الحل والربط بتجاهل مطلق للوقائع المُستَجدّة على الحياة العامة التي تخطّها الإنتفاضة الشعبية منذ أكثر من شهر، في كل ساحات لبنان، بسلمٍ راقٍ، ونضج سياسي- اجتماعي غير مسبوق. تجاهلان متوازيان لحقت بهما مناورة سياسيةأاظهرت حرص ولاتها على تعميق الفراغ الحكومي بدل حل أزمته. فلقد جاء ترشيح الوزير السابق محمد الصفدي من جانب رئيس “التيار الوطني الحر” أقرب إلى تحدٍ للإنتفاضة الشعبية التي كانت جاهرت باعتراضها عليه في “الزيتونة باي”، قبل تسميته بأيام. إلى ذلك هدف آخر هو جعل هذا الترشيح كميناً سياسياً للرئيس المُستقيل سعد الحريري، فإذا قَبِلَ يكون شريكاً في تحدّي الإنتفاضة، وإذا رفض واجه إحراجاً مع المرشح، الذي فضّله جبران باسيل على آخرين لا اعتراض شعبياً عليهم ويلبّون الحاجة إلى صاحب اختصاص في رئاسة مجلس الوزراء، من ضمن حكومة إختصاصيين. لكن التراشق بالبيانات يفضح استمرار المحاولات من خارج المؤسسات من دون إبداء أي مؤشر إلى أهمية العودة إلى المسالك الدستورية المُعتمَدة، وكأن ما تشهده البلاد منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت لا يستدعي التجاوب مع صرخة المواطنين.

مما يُحوّل المأساة إلى ملهاة إصرار البعض على ادعائه “التسريع في  بدء عملية الإنقاذ”، وتقديم “كل التسهيلات”، بعد 32 يوماً من صراخ الموجوعين من إهمال الطبقة السياسية ما يتعدّى مصالحها الضيقة، فيما الناس لا ترى معالم هذه الهمّة العالية إلّا على الورق، أو على شاشات التلفزة، بينما يحل مكانها تراشق يغرف من أدبيات سياسية يعرف اللبنانيون متى تستخرج من أكمام الساحر، ومتى تختفي، كسلاح غب الطلب، يدين حامله قبل غيره، إذ يظهر انتهازية رخيصة ملّ اللبنانيون مضغه اياها كلّما اشتدّ خناق الوقائع عليه، أو اختلف مع حليف الأمس أو صالح خصم اليوم.

ما يجري في البلاد حاليا يفضح هزال الحياة السياسية، وضيق أفق أهلها.

  • راشد فايد صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. وكاتب رأي في صحيفة “النهار” اللبنانية. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fayed@annahar.com.lb

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى