النظامُ السوري أُصيبَ بِـ”شُعَيْراتِه” ولبنانُ بقانونِ إنتخاباتِه
بقلم سجعان قزي*
ضَربَ دونالد ترامب بقـــوّةٍ مطارَ الشُعيرات في سوريا لكي لا يَــضرِبَ مــرّةً أخرى. صواريخُ الــ”توماهوك” كافيةٌ كرسالةٍ سياسيّــةٍ لكـــنّها غيرُ كافيةٍ كفعلٍ عسكريٍّ. الردُّ السريعُ ليس دائماً الردَّ المناسِب، لا سيما حين يَـصدُر عن دولةٍ كبرى يُـــفترض فيها أن تُــبادِرَ منذ زمنٍ لا أن تَــردَّ لتسجيلِ موقِف. ما زلنا في مرحلة: تَــقاتَـــلوا ما طابَ لكم بالسلاحِ التقليديِّ، وواصِلوا الحربَ في المساحةِ المرسومَـةِ ولا تعكِّروا مزاجَ الأمم.
قد تكون أميركا مسؤولةً أدبيّــــاً عن تَجـــرّؤِ النظامِ السوريِّ على قصفِ مِنطقةِ “خان شيخون” بموادَّ كيماويّــةٍ (ننتظرُ التقريرَ الدوليَّ الرسميَّ). فإعلانُ الإدارةِ الأميركــيّـــةِ بأنَّ رحيلَ الأسدِ ليس ضِمنَ أولوياتِها ربَّــما شجَّع القيادةَ السوريّــةَ على شَــنِّ غارةٍ ممــيَّزةٍ وإختبارِ جِدّيةِ التصاريحِ الأميركـــيّــة.
لم تَحصُل الضربةُ الأميركــيّـــةُ لخلْقِ معادلةٍ عسكريّــةٍ جديدةٍ، إنّما لمنعِ روسيا والنظامِ السوريِّ من خَلقِها في ضوءِ التطوّراتِ المَــيدانــيّــةِ في الأشهر الأخيرة. فبعدَ إنتصارِه في حلَب، بمساعدةِ روسيا وإيران و”حزبِ الله”، إستعادَ النظامُ ثِـقــتَــه بنفسِه وظنَّ أنّـــه قادرٌ على إسترجاعِ كلِّ سوريا. فـتَـــوسَّعَ جُغرافــيّــاً خارجَ ما يُسمَّى بـــ”سوريا المفيدة”، بَسَطَ نفوذَه على مُجمَلِ الغربِ السوريّ، رَفعَ سقفَ شروطِه في مؤتمرِ جنيف، وذَهب حَــدَّ الردِّ لأولِ مــرَّةٍ وبصواريخِ “إس 200” الإستراتيجــيّــةِ على غارةٍ إسرائيلــيّــةٍ إستَــهدَفت ريفَ حُمص في أذارِ (مارس) الماضي.
جاءت الضربةُ الأميركــيّــةُ تُــبلِــغُــه أنَّ إنتصاراتِه المُستعارةَ لا تُــخوِّلُــه السيطرةَ على كل سوريا، وكان أتــاه تبليغٌ أوّلُ مِن خلالِ خَــرْقِ المعارضةِ حيَّ جَــوْبَــر ومِنطقةَ العباسيّين في دمشق. فالذين يُــعطون الأولويَّــةَ للقضاءِ على “داعش” لا يؤيِّــدون سيطرةَ النظامِ حكماً، بل يَــنتظرون إيجادَ بديلٍ جِدّيٍّ منه لئلا تصبحَ سوريا ليبيا أخرى أو حتى عراقاً أخر. لكنَّ بديلَ بشّارِ الأسد ليس رئيساً جديداً واحداً، إنّــما سوريا جديدةٌ بأقاليمَ سُنـــيّــةٍ وعَلويّــةٍ وكُــرديّــةٍ و… دُرزيّــة.
العَــراضَةُ الأميركيةُ الصاروخـــيّــةُ، علاوةً على خَلفــيّــاتِــها الداخلية (تلميعُ صورةِ دونالد ترامب)، إستَــهدَفت حلفاءَ النظامِ أيضاً: روسيا وإيران و”حزب الله”. وإذا كانت مواجهةٌ أميركــيّــةٌ / روسيّــةٌ مستَــبْعدةً، فهي واردةٌ، مع إيران و”حزبِ الله” بالمباشَرِ وغيرِ المباشَر. واللافت، أن حَــمِــيَّــةَ ترامب تَــجَــلَّت بعدما إستقبلَ الأميرَ محمد بن سلمان والرئيسَ عبد الفتاح السيسي والملكَ عبدالله بن الحسين. هذا لا يعني أن الثلاثةَ حَــرَّضوا على الضربة، لكنهم شرحوا له مساوئَ إبقاءِ الشرقِ الأوسطِ مَـــلعباً حُـــرّاً لروسيا وإيران، وبخاصّةٍ في العراق وسوريا ولبنان. وفي هذا السياقِ، ستَــحصُل لقاءاتٌ قريبةٌ بين السعوديّــةِ ومِصرَ والأردنِ وتركيا لإحتِضانِ العودةِ الأميركــيّــة الموعودة.
الخطورةُ، أنْ تكونَ العودةُ الأميركــيّــةُ أقلَّ من الطموحِ العربيّ. إذ كيفَ لدولةٍ كبرى كالولاياتِ المتَّحدةِ أنْ تُــعلِنَ يومي 04 و 05 نيسان (إبريل) الجاري أنَّ إسقاطَ الأسد ليس ضِمنَ أولويّــاتِــها، ثمَّ تَــضرِبُ قوَّاتِــه الجويَّــةَ في السابعِ منه؟ أليس في القرارِ مَــزاجِـــيّــةٌ وِجدانـــيّــةٌ ما (إنتقامٌ للأطفالِ)؟ صحيحٌ أن بين التاريخين (24 ساعةً) حصلَ حدثٌ إستثنائيٌّ بالمعاييرِ الدولـــيّـــةِ وتقليديٌّ بالمعاييرِ السورية (قصفُ “خان شيخون” بموادَّ سامَّــةٍ ومقتلُ نحو ثمانينَ شخصاً بينهم عشرونَ طفلاً)، لكن كيف تَــهُــزُّ ثمانون ضحيّـةً الرئيسَ ترامب فيقومُ بضربةِ “فَــشَّةِ خُلْق” ولا يَــهُـــزُّه نِصفُ مليونِ قتيلٍ في الحرب السورية الدائرة، فيتَّــخِذ قراراً إستراتيجيًّــا بوقفِها؟
رغم أنْ لا شيءَ يوحي ـــ حتّى الآن ــــ بتغييرٍ جَذريٍّ في الموقفِ الأميركيّ العسكريِّ، تدخُّلُ القوّاتِ الأميركــيّــةِ في حروبِ المئةِ سنةٍ الماضيةِ جاءَ نتيجةَ حدثٍ فُجائيٍّ أو آنيٍّ: تدخَّلت في الحربِ العالميّــةِ الأولى بعدما أعلنت ألمانيا في 02 نيسان (إبريل) 1917 حربَ الغوَّاصاتِ المفتوحةَ وحَــرَّضَت المكسيك على التحرشِّ بالحدودِ الأميركــيّــة، وفي الحربِ العالميّــةِ الثانيةِ بعدما أغارت اليابان بشكلٍ مفاجِئٍ في 07 كانون الأول (ديسمبر) 1941 على “بيرل هاربر” رغمَ أنَّ الرئيسَ روزفلت سَبقَ وأعلنَ: “إنّي أَكرهُ هذه الحربَ ولا أريد التورُّطَ فيها”، وفي لبنان بعد سقوطِ نوري السعيد سنةَ 1958 في بغداد، ثم للحدِّ من التوغُّلِ الإسرائيليِّ سنةَ 1982 وللإشرافِ على وقفِ إطلاقِ النارِ، وفي الكويت بعدما إجتاحَها صدّام حسين صيفَ 1990، وفي أفغانستان بعد عملية 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك.
بإنتظارِ جلاءِ الموقفِ الأميركيِّ، حَملَت الضربةُ الأميركــيّــةُ على مطارِ “الشُــعَــيراتِ” الرسائل المباشرة التالية:
• إفهامُ روسيا بأنَّ دورَها المنتَــظَر من الآنِ فصاعداً هو لَــجْمُ النظامِ السوريِّ عسكرياً، مَــنعُه من إستعمالِ أي سلاحٍ كيماوي لأن موسكو ضَمَنت إلتزامَه بذلك سنةَ 2013، وتحضيرُه لإجراءِ مفاوضاتٍ جِدّيةٍ في مؤتمرِ جنيف؛
• إبلاغُ النظامِ السوري أنَّ التقدُّمَ العسكريَّ الذي أحرزَه في حلَب لا يجوز إستثمارُه في معاركَ عسكريّـــةٍ إضافــيّـةٍ، بل للحوارِ مع المُكــوّناتِ السوريّــة المعتدلة؛
• تحذيرُ إيران و”حزبِ الله” بأن مكافحةَ الإرهابِ التكفيريِّ في سوريا لا تسمحُ لهما بالبقاءِ إلى الأبدِ في هذه الدولة وبإتخاذِها، مع لبنان، منطَــلقاً لــمَدِّ الهلالِ الشيعيِّ نحو البحرِ الأبيضِ المتوسِط وتهديدِ أمنِ دولةِ إسرائيل؛
• تطمينُ الحلفاءِ العرب بأنَّ واشنطن، وإن كانت تتحاشى خوضَ حروبٍ جديدةٍ في الشرقِ الأوسطِ تبقى حاضرةً في حالاتِ الطوارئ؛
• لفتُ إنتباه دول العالم بأنَّ دونالد ترامب رئيسٌ مُحاطٌ بجنرالاتٍ، وجاهزٌ، مهما يكن وضعُه الشعبيُّ، لإتخاذِ قراراتٍ عسكريّـــةٍ دفاعــيّــةٍ وهجومــيّــةٍ حين تَــقــتَضي الحاجةُ في أيِّ مِنطقةٍ من العالم (مجموعةُ سُفنٍ هجوميّــةٍ أميركـــيّــةٍ تَحرّكت أمس بإتجاهِ كوريا الشمالــيّــة).
لذلك، يُــفــتَرض بواشنطن أن تُـــوظِّفَ ضربتَـــها سريعاً عبرَ ما يلي: تثبيتُ وقفِ إطلاقِ النارِ في سوريا بين النظامِ والمعارضةِ (إستثناءُ التنظيماتِ الارهابية)، دفعُ العملــيَّـــةِ السياسيّــةِ بالتفاهمِ مع روسيا وصولاً إلى تسوية ما، إقامةُ مناطقَ آمنةٍ لإعادةِ النازحين السوريين فــتُحقِّقُ الضربةُ الأميركــيّــةُ ما عَجِزَ عن تحقيقِه مؤتمرُ المانحين في بروكسل. أما الانتظاراتُ الكبرى فلِيومٍ آخَر.
لكن ما أخشاه أن تكونَ الضربةُ الأميركــيّــةُ التي أصابَت “شُـــعيْراتِ” النظامِ السوريِّ فقط، قد أصابت في لبنانَ جَــنيناً إسمُه: قانونُ الإنتخاب.
• كاتب وصحافي ووزير لبناني سابق.