لبنان: أقانونٌ للإنـتخابات أم دستورٌ لكيان

بقلم سجعان قزي*

إنتخبنا رئيسَ جمهوريةٍ، الّـــفْــنا حكومةً، إقتسمنا مربّعاتِ النفط، وتبادلنا أطرافَ الحديثِ عن قانونِ الإنتخابات؛ ولكننا لم نَــخــتَر لبنانَ بعد. كل ما جرى يبقى تطوراً شكلياً ومؤقتــاً مقارنـــةً بجوهر الصراع حولَ لبنان. لذلك تتحول كلُّ قضيةٍ ثانوية قضيةً وطنية (أو لاوطنية)، يَــتعذّر وضعُ قانونٍ جديدٍ للإنتخابات، ويتعلّــق وجودُ الدولة. كان الصراعُ حولَ لبنان خارجياً بإمتداد داخلي، وجوهــرُه السيطرةُ على القرار اللبناني بما فيه الحكم. اليومَ الصراعُ حولَ لبنانَ داخلي بإمتداد خارجي، وجوهــرُه تغييرُ النظام اللبناني بما فيه الصيغة. حصَل هذا التحوّلُ مُــذ تـَــــمَّ تغييرُ هويّــــةِ لبنانَ بإتفاق الطائف في ظل إختلالِ ميزانِ القوى آنذاك، فسيطر منطقُ العددِ على التاريخ، ومعيارُ القوةِ المرحليةِ على الحقيقةِ الدائمة، وكأن هويّــــةَ الأممِ رداءٌ على جسدٍ نَنزعُه ساعةَ نشاء فيما هي روحٌ ثابتة في جسدِ الأمة، يموت ولا تموت.
كان بودِّنا الـــقَبولُ بالعروبة، حتى بمفهومِــها القومي، لو كانت موجودةً بعد. لقد حَــجَّب إتفاقُ الطائف لبنانَ بالعروبةِ وهي تَـــفــقِد هويّـــتَــها ودولٌ عربية تنسحب منها تباعاً. سقطت العروبةُ بالشكلِ كمشروعٍ وِحدوي، بالمضمون كفكرٍ نَــهضوي، وبالمفهومِ كحركة جامعةٍ ومستوعِــبةِ كلِّ مكــوّنات العالم العربي. فأين هي العروبةُ بعدَ العراقِ المُـضرَّج، وسوريا المفكَّــكة، واليمنِ المبعــثَر، ومصرَ الغائبة، وفِلسطينَ المَنسيَّــة، وليبيا المفجَّرة، والسودان المقسَّم، والمغربِ الغارب؟ أين هي العروبةُ بعدَ إضطهادِ المسيحيين لأنهم مسيحيون ومُبدِعو العروبةِ الحضارية؟ لقد فقدت العروبةُ حتى هويَّــتَـها الإسلامية مع الحركات الجهاديّـــةِ والتكفيرية المناهضةِ للإسلامِ المتنوِّر ولأيِّ فكر قومي.
حين غـــيَّــبوا الهويّـــةَ اللبنانية سقطت الخصوصيةُ اللبنانية فحُـــلِّـــلَ المسُّ بالميثاقِ والصيغة والنظام، وحتى بالكيانِ اللبناني. ما كان بيار الجميل، رئيسُ تلك الكتائب، يرفض تعديلَ الدستورِ اللبناني في ستينات وسبعينات القرن الفائت عبثاً، بل ليقينه آنذاك بأن القصدَ منه ليس الإصلاحَ بل محوُ الأسبابِ الموجِبة التي برّرت نشوءَ الكيان اللبناني. إن خرقَ الخصوصيةِ اللبنانية لم يَــمس بالدورِ المسيحي، بل قضى على التوازنِ اللبناني برمته. والدليل أنه عوضَ التعايشِ المسيحي ـــ الإسلامي الذي كان جوهرَ لبنان الأصيل، صار الصراعُ السُني ــ الشيعي سِمةَ لبنانَ الرديف. وبعدَما كان المسلمون يزايدون بالعروبة على المسيحيين، يرفعونها اليومَ بوجه الشيعة. كان لبنانُ مشروعَ المنطقةِ صار اليوم مَشاعَ المنطقة. كان بلدَ الحوار صار بلدَ السلاح. كان بلدَ الحيادِ الإيجابي صار بلدَ الانحيازِ السلبي.
أزمةُ لبنانَ الوجوديةِ التي إنفجرت سنةَ 1975 لا تزالُ قائمةً بكــلّـيتِــها. والتسوياتُ التي إعتقدها البعضُ مَخرجاً من الحرب ما كانت سوى مدخلٍ آخرَ إلى حروبٍ جديدة. غير أنه طرأت ثلاثةُ تطورات:
الأول: تسليمُ اللبنانيين، بشكلٍ أو بآخر، بإستشهادِ لبنان السابق، مع تفاقمِ الخلافِ على لبنانَ الجديد، ذلك أن إتفاقَ الطائف أضاف مشكلةً دستوريةً إلى المشكلةِ الميثاقية. يكفي أن نستذكرَ الأزماتِ الدستوريةَ منذ سنةِ 1989 حتى اليوم، وآخــرُها التباينُ الآنَ حولَ صلاحيات رئيسِ الجمهورية في مشروع قانون الإنتخابات.
الثاني: حِرصُ المكوّناتِ اللبنانية على وِحدةِ لبنانَ وإستقلاله، مع إستمرارِ صراعِـها الكبير حيالَ دورِها في نظامِ لبنان ودورِ لبنان في المنطقة والعالم. يكفي أن نَعــرِضَ الخلافاتِ الجوهريةَ حيال مركزِ القرار الداخلي، وتجاه أحداثِ المنطقة ولا سيما الثوراتِ العربية والحربِ في سوريا. صحيحٌ أن عدداً من هذه الخلافات كان موجوداً قبل الطائف، بل منذ تأسيسِ لبنان. غير أن مركزيةَ الصلاحيات الدستورية قبل الطائف كانت تَــحُــدّ منها نسبياً.
الثالث: حصولُ تعديلٍ إيجابي في نظرة اللبنانيين إلى بعضهم البعض، مع مواصلةِ مشاريعِ الهيمنةِ والتهميش. لا يستطيع المسلمون تقييمَ المسيحيين اللبنانيين من خلال عددِهم أكانوا أكثريةً أم أقلية، إنما من خلال قيمِــهم وتقديماتِــهم ودورِهم التأسيسي وتضحياتهم. ولا يستطيع المسيحيون بعدَ الآن أن ينظروا إلى اللبنانيين الآخرين، وأعني بهم المسلمين من نافذةِ سنةِ 1920 (نحن أصحابُ الكيان وليس أنتم)، ولا من شُرفةِ سنةِ 1958 (أنتم عروبيون ونحن وحدنا لبنانيون)، ولا من متاريسِ سنةِ 1975 (أنتم متواطئون مع الفلسطيني والسوري ونحن المقاومون). لقد تغيرت المعطيات، فالشيعيُّ اللبناني قاوم إسرائيلَ ببسالة في الجنوب (معموديةُ الدم)، والسنيُّ أعلن الولاءَ للبنانَ بعد التجاربِ المريرة (معمودية الكيان)، والدرزيُّ حالةٌ وطنية راسخة (معمودية التاريخ)، والمسلمون عموماً تفوّقوا على المسيحيين بالإنجابِ المتعمَّد (معمودية العدد)، ونافسوهم بالشهادات والإختصاص (معمودية العلم).
حَريٌّ باللبنانيين أن يَستـثمروا في التطوراتِ الثلاثة بمنأى عن وجهها السلبيّ الآخر. الرهانُ على الإيجابية، بحدِّ ذاته، يَخلقُ ديناميكيةَ حلولٍ وتسويات. معيارُ نجاح هذا المنطق هو مدى قدرتنا على وضعِ قانونٍ جديدٍ للإنتخابات يمهّد للبنانَ الجديد. فالسببُ الأساسيّ لتعــثّر وضعِ قانونٍ إنتخابيٍ طوال هذه السنوات هو خلافــنُـــا على شكلِ لبنانَ الجديد وتحميلُــنا القانونَ كلَّ مشاريعنا المكتومة. فعوضَ أن ينبثق قانونُ الإنتخابات من وحيِ الدستورِ القائم، تحاول غالِـــبيةُ المكوّنات وضعَ قانونِ إنتخاباتٍ يَـــفرِز دستوراً جديداً. فحين نفكر بالنسبيِّ والأكثري والمختلَط والمناصفة وبحجمِ الدوائرِ والمحافظات، فإننا نبحث ضمناً عن إقتسامِ لبنان لا عن تقسيماتٍ إدارية عادلة.
هناك مَن يُــحمِّـل قانونَ الإنتخابات صلاحياتِ الرئاسةِ الأولى، وهناك من يحمّله سلطةَ الرئاسةِ الثانية، وهناك من يحمّله دورَ الرئاسة الثالثة. السّـــنة يحــمّــلونه مصيرَ الصراع السّــني ــــ الشيعي، والشيعةُ يحــمّــلونه مصيرَ تقدّمِــهم نحو السلطة، والدروزُ يحــمّــلونه مصيرَ خصوصيَّــــتِــهم في الشوفين، والمسيحيون يحــمّــلونه مصيرَ وجودهم ودورِهم في لبنانَ والمنطقة. ولأن ساعةَ التغييرِ لم تأتِ بعد نكتفي بتلطيف قانون الستين الحالي.
في ظل هذا الصراعِ المكتوم، كيف سننجح في وضعِ قانونٍ إنتخابي عصريٍّ صيغويٍّ وميثاقي، والمسارُ اللبناني غيرُ عصريٍّ وغير ميثاقي وغير صيغوي. حالياً يتعذر تحديدُ وطننا: لا هو لبنانُ الكبير ولا لبنانُ الصغير، لا هو لبنان المستقِل ولا لبنان المحتل، لا هو لبنان التعايش ولا لبنان التقاتل. لا هو لبنان الواحِد ولا لبنان المقسَّم. بلدٌ ينتظر الآتي من مكانٍ ما. نحن شعب الإنتظارِ دون أرضِ ميعاد.

• وزير العمل اللبناني السابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى