هل تخرج الجزائر من الفلك الروسي؟

تعمل موسكو في الخفاء والعلن من أجل أن تؤدّي العملية الإنتقالية من طريق التفاوض في الجزائر إلى الحفاظ على الوضع القائم السياسي والديبلوماسي حتى لا تفقد حليفتها.

رئيس الوزراء الجديد نور الدين بدوي: تريده موسكو مكان بوتفليقة

بقلم صامويل راماني*

في ابتعادٍ نادر عن السياسة الروسية القائمة على الدفاع عن الحلفاء السلطويين في مواجهة الاستياء الشعبي، دعت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في 12 آذار (مارس) الجاري، إلى تحسينٍ “بنّاء ومسؤول” في الاضطرابات السياسية التي تشهدها الجزائر. كذلك لم تؤيّد روسيا قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة البقاء في السلطة بعد إعلانه، إستجابةً للاحتجاجات الواسعة النطاق، عن عزوفه عن الترشح لعهدة خامسة. وبدلاً من ذلك، شدّدت وزارة الخارجية الروسية على أن الأزمة السياسية الجزائرية هي شأنٌ داخلي وامتنعت عن إبداء دعمٍ علني للوضع القائم في الجزائر.
يعكس الحذر الذي تتعامل به روسيا مع الاضطرابات في الجزائر، رغبتها في الحفاظ على نفوذ في البلاد في المدى الطويل، بغض النظر عن نتائج الإحتجاجات. وتريد روسيا، على وجه التحديد، أن تستمر الجزائر في التعويل على سلاحها. فقد زوّدت موسكو الجيش الجزائري، بين العامَين 2014 و2018، بما نسبته 66 في المئة من الأسلحة المملوكة منه، وكانت الجزائر المستورِدة الأكبر للسلاح الروسي في القارة الأفريقية. ووفقاً لتقديرات السفير الروسي لدى الجزائر، إيغور بلاييف، بلغت حصّة الجزائر، في تموز (يوليو) 2018، نصف مبيعات الأسلحة الروسية إلى أفريقيا. ومنذ العام 2017، تعاونت شركتا الطاقة الأبرز في روسيا، روزنفت وترانسنفت، مع شركة سوناطراك للمواد الهيدروكربونية المملوكة من الدولة الجزائرية في مشاريع لإنشاء خطوط أنابيب. كذلك ناقشت وزارة الطاقة الروسية إمكانية إنتاج سيارات “لادا” في الجزائر، بعد الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في كانون الثاني (يناير) الفائت.
من شأن الاستراتيجية التي تعتمدها روسيا أن تتيح لها الحفاظ على عقود الأسلحة والسعي إلى الحصول على فرص إستثمارية مربحة، بغض النظر عن الجهة التي تتسلّم زمام السلطة في الجزائر. بيد أن النتيجة التي تُفضّلها موسكو هي حدوث انتقال داخلي يُتيح لرئيس الوزراء الجديد، نور الدين بدوي، الاحتفاظ بالسلطة عبر التوصل إلى تسوية مع المعارضة الجزائرية، وكسب دعمها في الانتخابات شبه التنافسية التي أُرجئت حتى وقت لاحق من العام الجاري. وقد عبّر لافروف بوضوح عن أن بلاده تُحبّذ التوصل إلى تسوية من طريق التفاوض، في تصريحٍ أدلى به على إثر مشاوراته مع نائب رئيس الوزراء الجزائري، رمطان لعمامرة، في 19 آذار (مارس).
تُشير التحذيرات التي وجّهها لافروف من تداعيات الاحتجاجات وما تتسبب به من زعزعة للإستقرار، إلى أن روسيا تريد قطع الطريق عل الهيئة التنسيقية الوطنية لقوى التغيير كي لا تتمكّن من إطلاق ثورة شعبية ناجحة، وربما تعتبر روسيا أن استيعاب أعضاء من هذه المجموعة المعارِضة الجامعة في إطار خاضع لسيطرة الدولة هو السبيل الأكثر فاعلية لاحتواء تأثيرها في المدى الطويل. تعكس الخشية الروسية من حدوث تغيير في النظام الجزائري مخاوف بشأن التوجّه الإيديولوجي الذي قد تتبنّاه حكومة تقودها المعارضة وتفضيلات هذه الحكومة في السياسات، كما تعكس تطلعات موسكو إلى توطيد علاقاتها مع السعودية، ورغبتها في الحفاظ على الجزائر دولةً حليفة في الديبلوماسية الإقليمية.
منذ اندلاع الاحتجاجات الحاشدة في الجزائر في 16 شباط (فبراير) على خلفية قرار بوتفليقة الترشح لعهدة خامسة، أجرى خبراءٌ روس مقارنة سلبية بين الاضطرابات الجزائرية واحتجاجات “الربيع العربي”، لا سيما إطاحة الرئيس المصري حسني مبارك في شباط (فبراير) 2011. وقد استمرت هذه المقارنات، على الرغم من أن عدداً كبيراً من المتظاهرين الجزائريين ينظر إلى حالة عدم الاستقرار التي استمرت بعد “الربيع العربي” في شمال أفريقيا بأنها تطوّر مؤذٍ ومُفسِد، وقد عبّر هؤلاء عن تعاطفهم مع القوى الأمنية الجزائرية، لا عن ازدراء لهذه القوى. وفي هذا الإطار، وصفت الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط في المجلس الروسي للشؤون الدولية، تاتيانا شميليفا، المعارضة الجزائرية بأنها “زمرة عدوانية وفوضوية”، وقارنت نهب المتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية في الثامن من آذار (مارس) بنهب المتحف المصري خلال احتجاجات 2011. يُقدّم هذا الربط بين الاضطرابات الشعبية والفوضى مثالاً إضافياً عن السعي الروسي إلى نزع الشرعية عن الاحتجاجات الشعبية، والذي يطبع السياسة الخارجية الروسية منذ الثورة البرتقالية في أوكرانيا في العام 2004.
فضلاً عن ذلك، تسود مخاوف متزايدة في روسيا من أن تؤدّي ثورة شعبية ناجحة وانتخابات حرّة في الجزائر إلى توطيد العلاقات الجزائرية مع الديموقراطيات الليبرالية، على غرار الولايات المتحدة التي دافعت عن حق الشعب الجزائري في التظاهر. وفي محاولة محتملة لتمويه المخاوف الروسية من الاصطفافات التي قد تتبناها الجزائر في السياسة الخارجية في حال أصبح نظامها ديموقراطياً، ربط خبراء روس على صلة بالحكومة المعارضة الجزائرية بالتيارات الإسلامية التي تمارس تأثيراً ضئيلاً في المشهد السياسي في البلاد. فقد أشار أوليغ بارابانوف، مدير البرامج في نادي فالداي للنقاشات، في مقابلة مع وكالة تاس الرسمية الروسية في الرابع من آذار (مارس)، إلى أن اصطفاف بوتفليقة إلى جانب الجيش الجزائري ساهم في كبح التيارات الإسلامية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، مُردِفاً أن الاحتجاجات على طريقة “الربيع العربي” في الجزائر قد تؤدّي إلى اندلاع إنتفاضة إسلامية. ويحظى هذا الربط بين التيارات المعارِضة والتطرف الإسلامي بمصداقية واسعة في روسيا، كونه ينسجم مع توصيف موسكو للتيارات المعارضة السورية بأنها تنظيمات إرهابية، منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في العام 2011.
التحفظات الروسية بشأن تغيير محتمل للنظام في الجزائر يتشاركها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي مارس ضغوطاً على وسائل الإعلام السعودية بهدف التحكّم بتغطية الاحتجاجات الجزائرية. ويتشارك بن سلمان الرؤية الروسية بأن الاضطرابات الشعبية في الجزائر قد تمنح زخماً للمعارِضين داخل البلدَين، مثلما امتدّت الاضطرابات في شمال أفريقيا إلى المنطقة الشرقية ذات الأكثرية الشيعية في السعودية في العام 2011، وألهمت الشخصيات المعارضة الروسية خلال الاحتجاجات الانتخابية في 2011-2012. من شأن هذا التضامن في مواجهة تهديد الاضطرابات الشعبية أن يعزّز التقارب الروسي-السعودي الذي ارتكز إلى حد كبير على تثبيت سعر النفط.
إلى جانب المخاوف التي تراود المسؤولين الروس من طبيعة المعارضة الجزائرية ورغبتهم الانتهازية في إرساء قواسم مشتركة مع السعودية، فهم يعتبرون أيضاً أن الحفاظ على الاستقرار السلطوي في الجزائر لن يُهدّد الأهداف الديبلوماسية التي تسعى إليها روسيا في الشرق الأوسط. في العام 2016، وصف سيرغي بالساموف، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط في المجلس الروسي للشؤون الدولية، الجزائر بشريكة روسيا المُحَصّنة من الأزمات في العالم العربي، لأنها عارضت الإطاحة بالديكتاتور الليبي معمر القذافي وحافظت باستمرار على علاقات ديبلوماسية مع بشار الأسد خلال “الربيع العربي”. وقد شدّدت وزارة الخارجية الروسية على الآراء التي تتشاركها روسيا والجزائر في السياسة الخارحية بعد اجتماع العمامرة الأخير مع لافروف في 19 آذار (مارس)، عبر الإشادة بالتزام الدولتَين “عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى”.
هذا الدعم الجزائري للتفضيلات الروسية في السياسات دفعَ بموسكو، على وجه الخصوص، إلى الانخراط في حوار مع الجزائر حول بسط الاستقرار في ليبيا. وقد ناقش لافروف الشؤون الليبية مع المسؤولين الجزائريين خلال جولته في المغرب العربي من 23 إلى 26 كانون الثاني (يناير) 2019. وناقشت الدولتان، وفق ما أُفيد، أطراً من أجل التوصل إلى تسوية سلمية شاملة في ليبيا، كما عملتا على استنباط أطر للحوكمة بغية دمج مناصري نظام القذافي سابقاً في الحياة السياسية الليبية. فالروابط التي تُقيمها الحكومة الجزائرية مع الميليشيات القبلية في ليبيا وزعيم الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، تجعل من الجزائر شريكاً قيّماً في الاستراتيجية الروسية القائمة على إرساء توازن من العلاقات الجيدة مع جميع الأفرقاء السياسيين الرئيسيين في ليبيا. ويخشى المسؤولون الروس أن يؤدّي عدم الإستقرار في الجزائر إلى الحد من قدرة الدولة الحليفة على أداء دور الحكَم الفاعل في ليبيا، حيث تأمل روسيا بتوسيع دور الوساطة. ولذلك يرى الكرملين في الاضطرابات الشعبية في الجزائر عائقاً أمام تطلعاته إلى بسط نفوذه في شمال أفريقيا.
تسعى الحكومة الروسية إلى تجنُّب حدوث خلل في عقود التسلح التي أبرمتها مع الجزائر، ولدى موسكو مصلحة محقَّقة في العمل من أجل أن يُستبدَل بوتفليقة من طريق عملية انتقالية سياسية تحول دون حدوث تغيير شامل في النظام. وفيما يواجه بوتفليقة ضغوطاً مكثّفة للتنحّي، وتعمد التيارات المعارِضة إلى تعبئة قاعدة متنامية من المناصرين، سوف تستمر روسيا في مواكبة التطورات في الجزائر عن كثب وبِعين المُتوجِّس.

• صامويل راماني طالب دكتوراه في العلاقات الدولية في كلية سانت أنتوني في جامعة أكسفورد، يتخصص في السياسة الروسية للشؤون الشرق أوسطية. لمتابعته عبر تويتر samramani2@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى