البنوك الكبرى والبيت الأبيض يوحّدان جهودهما لإبتزاز الفقراء
أطلق أخيراً مصرف “جي بي مورغان تشيس” ووزارة الخزانة الأميركية دعوة تهدف إلى إنقاذ “غير المتعاملين مع البنوك”، وتبدو هذه الدعوة في نظر كثير من الخبراء بأنها مجرد طريقة أخرى لإبتزاز الناس الذين هم أقل حظاً.
واشنطن – محمد زين الدين
عندما يتحدث شارع المال الأميركي “وول ستريت” والمنظّمون الرسميون للقطاع المالي في الولايات المتحدة حول خدمة ما يُسمّى ب “غير المتعاملين مع البنوك”، فإن ذلك، في كثير من الأحيان، يبدو للأشخاص االمُبعَدين أو المبتَعِدين بشكل عام عن القطاع المصرفي وكأنه نعمة إلهية – سهّل الشؤون المصرفية للآخرين كما تسهّل الأمر لنفسك.
“إن الخدمات المالية الأساسية ليست في متناول واحد من كل أربعة أشخاص في العالم”، قال وزير الخزانة الأميركي جاك ليو، وهو مصرفي سابق في “سيتي غروب”، في كلمة ألقاها في كانون الأول (ديسمبر) الفائت لإطلاق أحدث مبادرة من البيت الأبيض تستهدف غير المتعاملين مع البنوك، والتي تنطوي على شراكة مع بنك “جي بي مورغان تشايس” و”باي بال” (PayPal).
ويتحدث تقرير رعاه بنك “جي بي مورغان تشيس” في العام 2014 عن المشكلة في مصطلحات كتابية مماثلة: “ما يقرب من 75 في المئة من فقراء العالم – 2.5 ملياري شخص – ليس لديهم حساب مصرفي أو مشاركة في النظام المالي السائد”. متابعاً بأن عدم الحصول على “خدمات ومنتجات مالية معقولة آمنة يحدّ بشدة من الأمن والفرص المالية للفقراء في العالم”.
ولكن عندما يناقش المصرفيون والمنظّمون في أميركا متاعب المواطنين غير المتعاملين مع البنوك أو الذين لا يصلون إلى المصارف – بعبارات مُلطَّفة للفقراء والطبقة المتوسطة المتدنية من الأميركيين – فإن الفريقين عادة يتجنّبان سؤالين رئيسيين: لماذا هذا الجزء العريض من المجتمع يتعلّق بصورة هامشية بالنظام المصرفي في المقام الأول؟ ومن يقف وراء أولئك الذين يقدّمون خدمات “بديلة” – مرابون ذوات تكلفة عالية، ومقرضو الدفع اليومي، ومتاجر صكوك نقدية، ومحلات الرهن – التي يلجأ إليها الفقراء بدلاً من البنوك؟
في الواقع، يبدو أن البنوك نفسها هي التي قطعت علاقتها مع المستهلكين ذوي الدخل المنخفض ودفعتهم بعيداً، وليس العكس. إن شارع المال “وول ستريت” لا يمنح قروضاً للفقراء – على الأقل ليس بشكل مباشر. لكن البنوك الكبيرة، كما تبيّن، تقف وراء المؤسسات غير المصرفية المُفترِسة، والمُقرِضين ذوي التكلفة العالية الذين ينهشون ويبتزون المجتمعات الفقيرة. في الآونة الأخيرة، تشارك “جي بي مورغان تشيس” نفسه، الذي يعمل مع البيت الأبيض للوصول إلى غير المتعاملين مع البنوك، مع “أون داك كابيتال” (OnDeck Capital)، وهو مقرض على الإنترنت الذي يوافق على القروض في ومضة عين ويضع أسعار فائدة بسرعة مذهلة يحوم متوسطها حول 54 في المئة إعتباراً من 2014.
بعبارة أخرى، إن البنوك الأميركية الكبرى تعرف جيداً الفقراء من مواطنيها غير المتعاملين مع البنوك – وهي تبتزهم وتسلبهم. كما هي ببساطة تفعل ذلك بشكل نظيف على طريقة “وول ستريت”، من خلال وسطاء ومن دون محاسبة تُذكَر. بعض البنوك على إستعداد للقيام بهذا العمل القذر بنفسه. لقد أعلن بنك “ويلز فارغو” عن هذه الطريقة من خلال تقديمه للقرض المباشر للإيداع المُسبَق، الذي يحمل معدل فائدة سنوية يساوي 120 في المئة: “هذه القروض هي للمدى القصير … يمكنها أن تساعدك على إجتياز أزمة مالية في المدى القصير من خلال توفير خيارات عدة ومرونة …. [على سبيل المثال] فواتير طبية، وتصليح سيارتك، أو مصاريف مماثلة غير مخطط لها”. كم أن هذا العرض مغرٍ وجذاب؟.
أولئك الذين هم فعلياً في النظام المالي الأميركي فهم لا يحققون نتائج أفضل بكثير. تدفع البنوك الكبيرة بالفقراء إلى زوايا أكثر غموضاً من التمويل الإستهلاكي من طريق تغريم أولئك الذين هم على الهوامش المالية بشكل مرتفع جداً ومتكرر أحياناً وفرض رسوم بارزة على السحب المالي الزائد (overdraft)، ورسوم الصراف الآلي، والحد الأدنى لرصيد حساب “الشيكات” (checking account). ويعيش الفقراء غالباً في المناطق التي تفتقر إلى فروع للبنوك، وهذا يعني أنه حتى بعد فتحهم لحساب مصرفي، فإن عليهم إستخدام أجهزة الصراف الآلي المحلية التي تغرّمهم 3 دولارات إضافة إلى ال3 دولارات التي من المرجح أن تغرّمها مصارفهم. لذلك فإن سحب ورقة نقدية بقيمة 20 دولاراً يمكن أن تكلف 6 دولارات، أي 30% من الرسوم الإضافية.
“ما يحدث هو أن الأميركيين، غير المتعاملين مع البنوك، يكون لديهم حساب مصرفي، ولكن بسبب الأرصدة الهامشية، وعدم كفاية الأموال، والسحب المالي الزائد، تقرر البنوك إغلاق حسابهم”، تقول شارلين كروويل، مديرة التوعية للأفارقة الأميركيين واللاتينيين في “مركز الإقراض المسؤول” (Center for Responsible Lending).
“متوسط رسوم السحب المالي الزائد (overdraft) هو 34 دولاراً”، تضيف. مؤكدة على أنه “بالنسبة إلى الشخص الذي لم تكن لديه أي وسادة مالية في المقام الأول، فإن إحتمال حصوله على غرامة هو أمر مرتفع جداً”.
هذا الوضع يدفع المستهلكين للجوء إلى مُقرضين غير مصرفيين، مثل متاجر صرف الشيكات، ومقرضو الدفع اليومي، ومقرضو الإنترنت، ومحلات الرهن، التي كلها تفرض أسعار فائدة باهظة، والتي غالباً ما تملكها أو تموّلها البنوك التي تمنحها الغطاء. كما أنها تستفيد من إختلاف قوانين الربا بين الولايات الأميركية حيث لا يوجد فيها حدّ لمعدل الفائدة الذي يمكن أن يغرّموه. “تميل الولايات التي تتمتع بإرتفاع أو لا حدود لمعدل الفائدة إلى أن يكون لديها أعلى نسبة من متاجر قرض الدفع اليومي بالنسبة إلى الفرد الواحد، والولايات التي تملك حدود معدل أقل للفائدة تميل إلى أن تكون لديها متاجر دفع يومي أقل، مع خدمة كل متجر لعدد أكثر من الزبائن”، وفقاً لتقرير 2014 الصادر عن بنك الإحتياطي الفيديرالي في سانت لويس. وربما ليس من المستغرب، “في الولايات التي لديها فائدة أعلى أو لا حدود لمعدل الفائدة، فإن المقرضين يغرّمون المقترضين رسوماً أعلى بكثير”.
يتم الإعلان عن هذه المنتجات بإعتبارها وسيلة للمستهلكين لتغطية نفقات طارئة لمرة واحدة، أو للعاملين الذين لديهم مصادر دخل غير منتظمة لملء الثغرات. ومع ذلك، تشير البحوث إلى أن المال ينتهي إلى الإستخدام في النفقات المتكررة الأساسية مثل المواد الغذائية والايجارات وليس من أجل الإحتياجات الطارئة لمرة واحدة، ويجعل إرتفاع معدلات الفائدة السداد باهظاً، الأمر الذي يترك المُقترضين في فخ الديون الذي يصبح من الصعب الخروج منه. ويعتمد المُقرضون بشكل واضح على هذا النموذج، وهم على أهبة الاستعداد لتقديم قروض جديدة على الفور، بأسعار فائدة باهظة بالمثل، عندما لا يستطيع المقترضون دفع مبلغ الدين الأصلي.
“على الرغم من تسويقها على أنها وسيلة لتلبية إحتياجات قروض قصيرة الأجل، فإن العديد من المستهلكين يستخدام قروض الدفع اليومي للتعويض عن النقص المستمر للتدفق النقدي”، كما وجد تقرير بنك الإحتياطي الفيديرالي في سانت لويس. متابعاً: “ما يقرب من 70 في المئة من زبائن المرة الأولى يتحوّلون إلى هذه القروض لدفع نفقات مثل المرافق، والإيجار، والرهن العقاري، أو مدفوعات بطاقات الائتمان”.
على هذه الخلفية، تقول كروويل ، “إنه من السهل جداً أن ينتهي الأمر مع طن من الديون وتتساءل كيف حدث هذا”.
حدث ذلك حسب تصميم محدد، ولم يكن حادثاً.
ويمكن أن يصبح هذا الأمر مشكلة متزايدة لجيل الشباب الذي يتذكر الكساد العظيم وأزمة 2008 المالية جيداً. وهذا يجعله متشككاً عموماً بالبنوك، وسوق الأوراق المالية، والعناصر التقليدية الأخرى للنظام المالي. الواقع أن دراسة حديثة من شركة المحاسبة المعروفة “برايس ووترهاوس كوبرز”، وجدت أن 42 في المئة من جيل الألفية قد إستخدموا “الخدمات المالية البديلة”، كمكاتب الرهن أو مقرضي الدفع اليومي. ومن الجدير بالذكر أن قروض الدفع اليومي غالباً ما تتطلب فتح حساب “شيكات” بنكي. هذا هو ما يجعلها جذابة للمستثمرين – الوصول المباشر إلى أموال المقترض يعني أن الدفع مضمون تقريباً. وفي كثير من الأحيان، يجبر هذا الوضع المُقترضين على الحصول على قروض جديدة فقط لتغطية الديون القديمة.
وبشكل مذهل يقول تقرير بنك الإحتياطي الفيديرالي في سانت لويس: “هناك ما يقرب من 20،000 مقرض واجهة، أي بمعدل 6.3 متاجر للدفع اليومي لكل 100،000 شخص”. وعلى سبيل المقارنة، كان هناك 14,157 مطعماً ل”ماكدونالدز” في الولايات المتحدة في العام 2012، وفقاً للتقرير.
“لم أكن أعرف أن هناك أي شيء آخر في الولايات المتحدة أكثر عدداً من مطاعم ماكدونالدز، بما في ذلك الناس وحبات الرمل”، قال الممثل الكوميدي جون أوليفر ممازحاً في برنامجه في آب (أغسطس) 2014. “إن قروض الدفع اليومي هي رقائق البطاطا المالية المضرة حيث لا يمكن أن يكون لديك واحدة فقط، وهي مؤذية ورهيبة بالنسبة إليك”. ثم تحوّل البرنامج إلى إعلان ل”آيس” مقرض الدفع اليومي الذي يقول أنه “سيكون هناك” لمساعدة المقترضين غير القادرين على السداد. والذي علق عليه أوليفر من دون تكلف: “القرف عليك لأنك لن تكون هناك لمساعدتهم. إن نموذج أعمالك التجارية يعتمد على ذلك”.
السؤال هنا: ماذا يفعل المنظّمون الأميركيون بالنسبة إلى المُقرضين الذين يتغذون من الفقراء ويبتزّونهم مع هدف مباشر يكمن في محاصرتهم في فخ الرسوم المحمومة للديون؟ ليس كثيراً. إن قانون “دود-فرانك” للإصلاح المالي في 2010 أنشأ مكتب الحماية المالية للمستهلك، ومنحه تفويضاً لتنظيم مقرضي الدفع اليومي. وقد أصدر هذا المكتب مسودة إقتراح في آذار (مارس) من العام الماضي، لكنه لم ينفذ حتى الآن أياً من التنظيمات.
في الشهر الفائت، قال مسؤول كبير في مكتب الحماية المالية للمستهلك في شهادته أمام الكونغرس أن القواعد الإتحادية الجديدة للحصول على قروض الدفع اليومي المرتفعة الفائدة ستتوقف عن وضع سقف لأسعار الفائدة. “لن نضع سقفاً للربا وحدوداً لسعر الفائدة على هذه القروض أو أي منتج آخر”، قال نائب مدير مكتب الحماية المالية للمستهلك بالوكالة ديفيد سيلبرمان في جلسة إستماع في مجلس النواب. “نحن لم نفكر بذلك كما أننا لن نفعل ذلك”، مؤكداً.
الواقع أن الوضع لم يتغيّر كثيراً على الرغم من الأزمة المالية التاريخية التي أصبحت واضحة وبارزة للمرة الأولى من خلال الإقراض السيئ الممنوح للأميركيين ذوي الدخل المنخفض. في كتابه “القصير الكبير”، نقل المؤلف مايكل لويس عن لسان المحلل في شارع المال “وول ستريت”، ستيف إيسمان، قوله في أوائل العقد الفائت: “لقد أدركت الآن أن هناك صناعة كاملة، تُدعى التمويل الإستهلاكي، التي كانت قائمة في الأساس لسلب الناس”.
إذا كانت البنوك الكبرى تريد مساعدة الفقراء، فإن هناك العديد من الطرق التي يمكنها القيام بها. وتقول سوزان ينستوك، مديرة مبادرة الخدمات المصرفية للمستهلك في “صناديق بيو الخيرية”: “إن حدّ وتوضيح رسوم السحب الزائد وغيره من الرسوم، حيث الكثير منها خفي أو مخفي، التي تدفع بالأسر بعيداً من النظام المصرفي في المقام الأول ستكون خطوة كبيرة إلى الأمام”.
إن التفاهات حول الوصول إلى حلقة غير المتعاملين مع البنوك تبدو جوفاء نظراً إلى دور “وول ستريت” في التمويل، وأحياناً مشاركته بنشاط في ممارسات الإقراض البديلة الربوية. إن الإشارة الى الناس أو المجتمعات التي ليست لها صلات بالنظام المصرفي كغير المتعاملين مع البنوك أو المبعدين من المصارف ليس هو فقط سوء إستخدام كسول من مصطلحات الصناعة، فهو أيضاً وسيلة خفية وغير مفيدة جداً لإلقاء اللوم على الضحية. بعد كل شيء، يجب على الناس الذين لا يملكون سيارات أن يُسمّوا على هذا الأساس غير المتعاملين مع السيارات أو المُبعدين عن السيارات؟ دعونا لا نعطي صناعة السيارات أي أفكار!!!
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.