سعَيِّد يُغرِقُ ديموقراطية تونس واقتصادها في أزمةٍ مصيرية

يبدو أن الرئيس التونسي قَيس سعَيّد قد أقنع نفسه بأنه قادرٌ على درء الكارثة الاقتصادية من خلال الإرادة نفسها التي يبدو أنه خنق بها الديموقراطية في تونس. وقد يجدُ قريبًا بأنَّ كلاهما يتحدّى سيطرته.

عبير موسى: ترشّحت ضد قيس سعيد فسُجِنَت.

فرانسيسكو سيرانو*

في أوائل أيلول (سبتمبر)، اعتقلت السلطات التونسية منذر الونيسي، الرئيس المؤقت لحزب “النهضة” المُعارِض، وعبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى الحزب. ولأنها الأحدث في موجة التوقيفات التي استهدفت شخصيات معارضة تونسية، كان للاعتقالات طابعٌ متكرر عزّزَ الوضعَ الراهن، بدلًا من الإشارة إلى تصعيد التآكل الديموقراطي في البلاد في عهد الرئيس قيس سعَيِّد.

مع ذلك، فإن تغطية الاعتقالات في وسائل الإعلام المحلية قد غطت مؤقتًا على بعض التحديات الأكثر إلحاحًا التي كان التونسيون يتعاملون معها في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك التضخّم، وندرة المواد الغذائية الأساسية مثل الخبز والسكر، واقتراب الدولة من التخلّف المالي.

في الواقع، فإن القصتين لا يمكن فصلهما، ويتلخّصان بشيئين ثابتَين في تونس في عهد سعَيِّد: لا يزال المنشقّون والسياسيون المعارضون يقبعون خلف القضبان، ويستمر الاقتصاد في التدهور. وإذا كانت الحكومة تعمل على إسكات المزيد من أصوات المعارضة، فإن ذلك يرجع جُزئيًا إلى افتقارها إلى حلولٍ مقبولة أو خطة طويلة الأجل للأزمة الاقتصادية.

وباعتباره لاعبًا سياسيًا رئيسًا في كلِّ برلمانٍ مُنتَخَب منذ ثورة 2011، كان حزب “النهضة” هدفًا مُفَضَّلًا لحملة القمع التي شنّها سعيِّد. وقد سُجِن زعيم الحزب الإسلامي راشد الغنوشي في نيسان (إبريل) في إطار تحقيق لمكافحة الإرهاب حول “تصريحات استفزازية” مزعومة أدلى بها الرجل البالغ من العمر 81 عامًا. وفي الوقت نفسه الذي تم اعتقال الغنوشي، أمرت السلطات أيضًا بإغلاق مكاتب حزب “النهضة” في جميع أنحاء البلاد.

لكن القضاء التونسي الذي أصبح أكثر مرونة استهدف شخصيات معارضة أخرى أيضًا. تم القبض على العديد من أعضاء “جبهة الإنقاذ الوطني” –وهي مجموعة من السياسيين وشخصيات المجتمع المدني التي عارضت استيلاء سعَيِّد على السلطة– في شباط (فبراير) بتهمة التآمر ضد الدولة. وقد وصفت جبهة الإنقاذ الوطني الإجراءات القضائية بأنها ذات دوافع سياسية. وفي الآونة الأخيرة، ألقي القبض على عبير موسي، وهي سياسية معارضة شعبوية ليس لها عدد كبير من التابعين، الأسبوع الماضي، بعد أيام فقط من إعلانها ترشّحها للرئاسة ضد سعيِّد.

يَتَّهِمُ سعَيِّد بانتظام أولئك الذين يختلفون مع حكمه الاستبدادي بـ”التآمر” ضد الدولة، باستخدام اتهامات سياسية مُلفَّقة للقضاء على المعارضة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في العام 2024. ولكن ما إذا كان من الممكن إجراء انتخابات نزيهة في ظل نظام غير ديموقراطي بشكل متزايد في تونس هو الآن أمرٌ مشكوك فيه.

منذ توليه السلطة في انقلاب دستوري وإقالة الحكومة وإغلاق البرلمان التونسي المنتخب في تموز (يوليو) 2021، قام سعَيِّد بإصلاح النظام السياسي في البلاد من جانب واحد.

من خلال استفتاء أُجرِي في صيف العام 2022، سنَّ دستورًا جديدًا يمنحه صلاحيات واسعة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بما في ذلك القدرة على تعيين حكومات جديدة بدون الحاجة إلى موافقة البرلمان. وعلى الرغم من مشاركة أقل من ثلث الناخبين المُسَجَّلين، إلّا أنَّ سعَيِّد اعتبر نسبة الموافقة البالغة 94% بمثابة انتصار لمشروعه لإعادة تشكيل هيكل الحكم في تونس إلى نظام رئاسي قوي.

مع ذلك، بالنسبة إلى العديد من التونسيين، كان مشروع سعَيِّد يدور حول تحويل الديموقراطية الخاطئة في البلاد إلى دولة استبدادية يكون هو صاحب القرار فيها. فبينما قام بسجن شخصيات معارضة، قام بترقية مسؤولين في الجيش والأمن إلى مناصب رئيسة في الإدارة في محاولة واضحة لتحصين نظامه من الانقلابات.

لكن بينما كان سعَيِّد منهجيًا في جهوده للحدّ من مساحة النقاش السياسي والمعارضة، يبدو أنه ليست لديه خطة حقيقية لإبقاء الاقتصاد صامدًا وواقفًا على قدميه خلال الأشهر المقبلة.

منذ أن عزّزَ سعيِّد السلطة بين يديه، قدم نفسه على أنه الشخص الوحيد القادر على إنقاذ تونس. لكن لم يقم هو ولا رئيس وزرائه المعين حديثًا، أحمد الحشاني، بصياغة أي استراتيجية طويلة المدى للإصلاح أو تحقيق الاستقرار الاقتصادي، واختار بدلًا امن ذلك اتخاذ تدابير اقتصادية غير ناضجة تبدو في كثير من الأحيان وكأنها تستجيب للديناميكيات الشعبوية.

على سبيل المثال، في آب (أغسطس)، عندما واجهت البلاد نقصًا في الخبز كان راجعًا إلى حدٍّ كبير إلى عدم قدرة الحكومة على دفع ثمن واردات الحبوب ودعم الدقيق، اعتقلت السلطات زعيم النقابة الوطنية للخبازين، خريص محمّد، واتهمته بالسلوك الاحتكاري. وبالمثل، كثيرًا ما يهاجم سعَيِّد “المضاربين” الذين يلومهم على ارتفاع ندرة المواد الغذائية الأساسية والتضخم، بينما ينشر مكتبه دفقًا مستمرًّا من البيانات التي تُسلّط الضوء على اعتقالات تجار المواد الغذائية وزيارات الرئيس لمراكز التوزيع.

وحتى مع استمرار نمو هيمنة سلطة سعيِّد على الحكومة والدولة، لا يبدو أن أيَّ خطَإٍ يحدث في تونس مُرتبطٌ بسياساته الخاصة.

لقد كانت تونس ضعيفة أصلًا بسبب سنواتٍ من الاضطرابات السياسية بحلول الوقت الذي ضرب فيه فيروس كورونا. أدى الوباء بعد ذلك إلى تفاقم الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ولم يساعد عدم اليقين السياسي الذي أعقب استيلاء سعَيِّد على السلطة على استقرار الاقتصاد أو جذب الاستثمار.

وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2022، أعلن صندوق النقد الدولي أنه توصل إلى اتفاقٍ على مستوى الموظفين مع الحكومة التونسية بشأن برنامج قرض بقيمة 1.9 مليار دولار لتعزيز ظروف الاقتصاد الكلي ودعم الموازنة.

لكن الصفقة متوقّفة منذ ذلك الحين، حيث يواصل سعيِّد رفض الإصلاحات الضرورية، خصوصًا تلك التي تستهدف شبكة تونس من المؤسسات المملوكة للدولة الخاسرة، والأجور العامة، ودعم الوقود وبعض المنتجات الغذائية. من المؤكد أن سعَيِّد يعلم أن هذه الإصلاحات، إذا تم تنفيذها، فمن المرجح أن تؤدي إلى استياء اجتماعي واحتجاجات واسعة النطاق. لكن الانتظار حتى تتفاقم الأمور لا يبدو خيارًا قابلًا للتطبيق أيضًا.

وقال معز جودي، الخبير الاقتصادي التونسي ورئيس المعهد التونسي للإداريين: “ليس لدى سعيد انطباع جيد عن صندوق النقد الدولي. بالنسبة إليه، يمثل صندوق النقد الدولي الإمبريالية العالمية والليبرالية المتوحشة، وهو أمر يتعارض مع ميوله الأكثر يسارية في الفكر الاقتصادي”.

كان الرئيس التونسي صريحًا في عدائه، حيث رفض علنًا أي “إملاءات” أجنبية من صندوق النقد الدولي من شأنها أن “تؤدي إلى المزيد من الفقر”، على الرغم من أن حكومته هي التي اقترحت وتفاوضت على العديد من الإصلاحات المُدرَجة في برنامج الإنقاذ الاقتصادي.

إن قرض صندوق النقد الدولي البالغ 1.9 مليار دولار وحده لن يحل مشاكل تونس. ومن شأن التدابير التقشّفية التي يتطلّبها الأمر أن تجعل الحياة أكثر إيلامًا للتونسيين في المدى القصير. ولكن لأنه سيؤدي إلى إصلاحات اقتصادية حاسمة تحتاج إليها تونس بشدة، فإن برنامج صندوق النقد الدولي سيشجع الجهات المانحة الأخرى على تقديم تمويل إضافي بشروط أكثر ملاءمة، ومن المرجح أن يوفر مخرجًا للبلاد في المدى المتوسط.

كان لتونس تاريخٌ مُختلَط مع صندوق النقد الدولي. وقال جودي إن برنامج القروض في العام 1986 “جلب إصلاحات مهمة ونموًا للبلاد، وتمكنت تونس من سداد جميع ديونها”.

مع ذلك، كانت التجارب الأحدث أكثر إشكالية. كانت عملية التحول الديموقراطي التي أعقبت ثورة 2011 مصحوبة بعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، والفساد، وتعاقب الحكومات غير الفعّالة، والخلل الحاد في النظام البرلماني الناشئ في تونس. وقد تضخّمَ العجزُ العام، ما دفع البلاد إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي في العامين 2013 و2016 لتمويل موازنة الدولة. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ هذه البرامج بالكامل على الإطلاق. وفي مواجهة السخط الشعبي وانتشار الاحتجاجات على إصلاحات دعم الوقود وإجراءات التقشف في العام 2018، تراجعت الحكومة بقيادة رئيس الوزراء آنذاك يوسف الشاهد عن متابعة إصلاحات صندوق النقد الدولي.

واليوم، يواجه سعَيِّد مشكلة مُماثلة. على الرُغم من الانتعاش المستمر لقطاع السياحة، الذي جلب العملات الأجنبية التي تشتد الحاجة إليها، لا تملك تونس الأموال الكافية لتغطية موازنتها لبقية العام. ومن أجل تجنب تحمل المزيد من الديون الخارجية، طلبت الدولة بشكل متزايد أموالًا من القطاع المصرفي المحلي وتُريدُ من البنك المركزي التونسي أن يُمَوِّلَ العجز أيضًا. وهذا من شأنه أن يُحَوّل بسرعة أزمة الموازنة إلى أزمة مصرفية ويدفع التضخم إلى المزيد من الارتفاع.

من المرجح أن تؤدي الإصلاحات مثل إلغاء الدعم إلى جولة جديدة من الاحتجاجات. إلى جانب أي معارضة إيديولوجية لبرنامج صندوق النقد الدولي، يعرف سعَيِّد أن ذلك من شأنه أن يقوّض بسرعة حكمه الاستبدادي، الذي يواصل تصويره على أنه الحل الوحيد لمشاكل تونس.

لكن كما أشار جودي، هناك بالفعل اضطرابات اجتماعية بسبب نقص السلع الأساسية والتضخم. وأضاف: “هذه المشاكل موجودة. لم تنشأ بسبب الإصلاحات”.

ومع دعم صندوق النقد الدولي أو بدونه، فإن الإصلاح الاقتصادي وحده هو الذي سيضمن قدرة تونس على البقاء اقتصاديًا وماليًا في المدى الطويل، لأن التخلف عن سداد الديون السيادية من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد كبير للأزمة الاقتصادية الحالية. ومع عدم قدرتها على تمويل نفسها، ستجد الدولة صعوبة في دفع أجور العمال. وستواجه المستشفيات والمدارس العامة نقصًا في التمويل. وستصبح السلع الأساسية المدعومة مثل القمح أكثر ندرة مع عدم قدرة الحكومة على دفع ثمن الواردات.

يبدو أن سعَيّد قد أقنع نفسه بأنه قادرٌ على درء الكارثة الاقتصادية من خلال الإرادة نفسها التي يبدو أنه خنق بها الديموقراطية في تونس. وقد يجد قريبًا بأنَّ كلاهما يتحدى سيطرته.

  • فرانسيسكو سيرانو هو صحافي وكاتب ومحلل سياسي مُتَخص في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. نُشِرَت أعماله في “فورين بوليسي”، و”فورين أفيرز” ووسائل إعلام أخرى. نُشر كتابه الأخير بعنوان “As Ruínas da Década” حول الشرق الأوسط في العقد الذي أعقب الثورات الشعبية في العام 2011، في العام 2022.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى